لقي خواكين أوليفر مصرعه سنة 2018 في حادثة إطلاق النار في مدرسة في باركلاند بفلوريدا، ولكنه كان يشجع الناس مؤخراً على التصويت في انتخابات العام 2020. فقد استخدام والدا أوليفر الذكاء الاصطناعي لتشكيل مقطع فيديو لابنهما المتوفي وهو يشجع الناس على التصويت للمسؤولين الذين يدعمون قوانين تنظيم السلاح، وذلك في إطار منظمة "تشينج ذا ريف" (Change the Ref) اللاربحية التي يديرانها. وقام التقنيون بطباعة صورة أوليفر بشكل ثلاثي الأبعاد، ومن ثم قاموا بإنشاء مقطع فيديو له وهو يتحدث ضد عنف السلاح، وهو مقطع يستطيع أهله أخذه إلى المظاهرات في جميع أنحاء البلاد. وفي مقطع الفيديو، يتحدث تجسيد أوليفر قائلاً: "ما أقصده هو أنه يجب أن تصوتوا نيابة عني." "لأنني عاجز عن التصويت".
Parkland victim Joaquin Oliver urged people to vote in a video that used artificial intelligence to imagine what he'd look like today.
Oliver was killed in 2018 in the MSD high school shooting. pic.twitter.com/9AxBAb3DGj
— AJ+ (@ajplus) October 28, 2020
تواصل رقمي يوصل رسائل على لسان الأموات
يحمل مقطع الفيديو اسم "التصويت غير المكتمل"، ويعتمد على تكنولوجيا التزييف العميق من استوديوهات "لايتفارم" (Lightfarm). وعند تشكيل المواد عميقة التزييف –وهي صور ومقاطع فيديو يتم تشكيلها باستخدام الذكاء الاصطناعي- للمشاهير والمؤثرين والسياسيين وغيرهم من الشخصيات العامة، يستطيع فريق الإنتاج عادة الحصول على الآلاف من الصور ومقاطع الفيديو التي يمكن أن يستخدموها لتدريب الذكاء الاصطناعي. ولكن في حالة هذا المراهق الذي اشتهر بعد وفاته أكثر مما في حياته، لم يكن لدى التقنيين الكثير من المواد التي يمكن استخدامها. ولهذا، قاموا ببناء صورة واحدة لوجهه باستخدام ثلاث صور فوتوغرافية مختلفة. ولكن الفيديو ما زال مقنعاً بما يكفي على أي حال. أما فيما يتعلق بتأثير الشبه الغريب، فهو لا يظهر إلا بعد أن تدرك أن الشاب الذي في الفيديو، والذي يتحدث إليك، ليس سوى صورة متحركة.
وفي يوم الثلاثاء 29 أكتوبر/ تشرين الأول، وبعد فترة قصيرة من عيد الهالوين، وعلى إثر تغريدة حققت انتشاراً هائلاً ونالت الكثير من التقريع والانتقاد بسبب تباهيها بثروتها وامتيازاتها الهائلة، تلقت كيم كارداشيان ويست هدية مفاجئة من كانييه ويست، وهي عبارة عن هولوغرام لوالدها الراحل. وفي منشور على إنستقرام، كتبت كارداشيان ويست: "في عيد ميلادي، جلب لي كانييه أروع هدية في حياتي". "وهي أشبه بهدية خاصة من السماء" "إنها هولوغرام لوالدي" "وهو نابض بالحياة، وقد شاهدناه مراراً وتكراراً، مع الكثير من الدموع والعواطف المتدفقة". "لا أستطيع حتى أن أعبر عن معنى هذه التجربة التي خضتها مع أخواتي وأخي وأمي وأقرب أصدقائي". "شكراً جزيلاً لك يا كانييه على هذه الذكرى التي ستدوم طوال العمر". أما الهولوغرام الذي يحمل صورة روبرت كارداشيان، والذي يعتمد أيضاً على تكنولوجيا التزييف العميق، فقد هنأ ابنته بعيد ميلادها الأربعين برسالة خاصة، كما وصف كانييه ويست عدة مرات بالعبقري.
اقرأ أيضاً: المحتالون يستخدمون فيديوهات التزييف العميق في شتّى عمليات الاحتيال
استخدام تقنيات التزييف العميق لاستحضار الأموات ليس بالجديد
إن استخدام تكنولوجيات التزييف العميق لتجسيد الفنانين المتوفين، بدءاً من توباك ومايكل جاكسون وصولاً إلى ويتني هيوستن، ليس بالأمر الجديد. ولكن، وكما لحظ أليكس غورمان مؤخراً في جريدة ذا غارديان، فإن هذه التجسيدات باستخدام التزييف العميق كانت تستخدم عادة لأغراض تتعلق بجني الأرباح، مثل الحفلات الموسيقية. أما في حالة روبرت كارداشيان، فإن الهولوغرام عميق التزييف كان عبارة عن هدية مفاجئة تهدف إلى تجديد صلة حميمة والتعبير عن رسالة شخصية. إن تجديد صور المتوفين عبر هذه التكنولوجيات يتعلق بتساؤلات رتيبة وعادية حول الميراث، إضافة إلى معنى الحزن عندما تختلط آثار الموتى بالأحياء.
ومن الخيالات المرتبطة بهذه الفكرة هي أنها يمكن أن تقترب من الشخصية البشرية، بل وربما تعبر عن الروح. إذا كانت البيانات بمجموعها قادرة على استيعاب وفهم وتقليد شخص بشكل كامل عندما يكون حياً، وذلك عبر المعلومات المجمعة عن طريق أجهزة التتبع القابلة للارتداء والمنازل الذكية وسلوكيات التواصل الاجتماعي، والبيانات المحيطة عبر نظام تحديد الموقع العالمي وبعض الخدمات مثل خدمة "سكوير" (Square)، فمن المحتمل أن يتمكن الذكاء الاصطناعي بطريقة ما من التقاط وتمديد جوهر ذلك الشخص بعد الوفاة، ويعتمد على المعلومات الماضية لوضع توقعات حول ما يمكن أن يقوله هذا الشخص أو يفعله في المستقبل. تمثل هذه الأطلال الرقمية حياة أخرى تخيلية تعتمد تحديداً على افتراضات مسبقة تنطوي على ثقة كبيرة بموضوعية الصيغ الرقمية ووثوقيتها، على الرغم من زوالها السريع وقابليتها للتعديل والتغيير. إن الأمثلة المذكورة أعلاه حول أوليفر وكارداشيان تكشف تخيلات وإزعاجات تتعلق بمحاولة تمديد الحياة البشرية عبر التكنولوجيات الرقمية. فما الذي يعنيه تجسيد المتوفين، بشكل لا يقتصر فقط على التواصل معهم، بل والتحدث عبرهم أيضاً؟
اقرأ أيضاً: مخاطر التزييف العميق: تطبيق يستبدل وجوه النساء بنقرة زر
رسائل عابرة للزمن لكنها تحمل خطراً في طياتها
غالباً ما تكون الاتصالات الرقمية قصيرة الأمد وفورية وضمن الزمن الحقيقي، ولكن عبر ما أنظر إليه على أنه "منصة زمنية"، فمن الممكن جمعها وحفظها، وربما تمريرها لاحقاً إلى الأحباء والأبناء والأحفاد. هناك أيضاً بعض المخاوف المتعلقة بقدرة البيانات على البقاء بعد انتهاء الوجود المادي للأشخاص، فمن الصعب التحكم بالبيانات خلال الحياة، ويكاد يكون من المستحيل التحكم بها بعد وفاة الشخص.
فبقاء الحضور عبر حسابات التواصل الاجتماعي أمر، غير أن استخدام الذكاء الاصطناعي لاستنساخ شخصية ما بشكل دائم أمر مختلف كلياً، خصوصاً مع استخدام التزييف العميق. تثير المواد عميقة التزييف عدة مشاكل بالنسبة للبشر من مراقبي المحتوى والحضور، إضافة إلى المنصات نفسها. فإضافة إلى مشاكل تمييز المحتوى الحقيقي عن المزيف، هناك مخاوف تتعلق بإمكانية فقدان السيطرة على الصورة الشخصية. وغالباً ما يُنظر إلى المواد عميقة التزييف كمشاكل محتملة الوقوع في أي لحظة بالنسبة للسياسيين، حيث ترتبط في أغلب الأحيان بحملات المعلومات المزيفة الرامية إلى تغيير الآراء السياسية. ويمكن حتى للمواد عميقة التزييف منخفضة المستوى أن تحقق انتشاراً واسع النطاق. ولكن أحد أول تطبيقات تكنولوجيا التزييف العميق وأكثرها استخداماً هو الأفلام الإباحية. فقد يجد منتجو تيك توك وغيرهم من المؤثرين أنفسهم ضحية الظهور في صور إباحية عميقة التزييف، تماماً كما حدث مع المشاهير العاديين. ولا تقتصر هذه المواد على تقليد مظهر الشخص أو نمطه في التواصل، بل تتحرك وتهتز وتومئ تماماً مثل الشخص الحقيقي. تتمحور المواد الإباحية عميقة التزييف –أو ما يقابلها على الجهة الأخرى من الطيف من محاكاة المتوفين- حول محاكاة مسائل خاصة، وفي نفس الوقت تهدد بفقدان السيطرة على شكل الشخص وشخصيته. ويمكن لتقليد الموتى أن يكون انتهاكاً على نفس الدرجة.
الذكاء الاصطناعي لتوقع سلوك المتوفي وتجسيده عبر هولوغرام
تعد العديد من الشركات الناشئة الناس بدرجة من تجسيد المتوفين والتحكم بتواصلهم بعد الوفاة. وإذا لم يكن هذا عبارة عن هولوغرام يكلف مئات الآلاف من الدولارات أو مقطع فيديو عميق التزييف يعتمد على ساعات كثيرة من العمل المضني، فقد يكون عبارة عن تذكار صغير يكفي لتوقع شخصية شخص ما في المستقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي، وذلك في محاولة لتحديد ما سيفعله في الظروف المستقبلية، حياً أو ميتاً، كتوقع تصويته في الانتخابات أو الأغراض التي يمكن أن يشتريها.
لقد كتبت عن بعض هذه المفاهيم والشركات الناشئة في مكان آخر. وبوجود عدد كبير من الشركات، بدءاً من شركة "إنتيليتار" (Intellitar) التي توقفت عن العمل، وصولاً إلى شركة "لايف نوت" (LifeNaut) المدعومة من قبل حركة تجاوز الإنسانية، والشركات الأحدث مثل "ريبليكا" (Replika) و"إيترني دوت مي" (Eterni.me)، هناك انطباع بأن تدريب الذكاء الاصطناعي قد يسمح لبوتات الدردشة بالحلول محل الموتى، وربما التحدث نيابة عنهم. ولكن، وبوجود تكنولوجيات تزييف عميق أكثر تعقيداً لتجسيد المتوفين، أصبح الغموض يحيط بهوية المتكلم الحقيقية والغرض من الكلام.
ففي 2006، قامت مجلة "نيتشر" (Nature) العلمية الشهيرة بنشر عمل قصير من الخيال العلمي لعالم الأعصاب ديفيد إيغلمان. وكانت صحيفة نيويوركر قد نشرت مقالاً عن إيغلمان، كما أن كتابه من القصص القصيرة حول الحياة الأخرى احتل المرتبة الأولى على قائمة صحيفة نيويورك تايمز لأفضل الكتب مبيعاً. ولكن، وفي 2006، أطلق إيغلمان بهدوء شركة ناشئة تحمل اسم إحدى قصصه الصغيرة، "ديث سويتش" (Death Switch).
وعلى حين أن الشركة الناشئة كانت مختصة بأغراض عملية، وشاركت الكثير من الصفات مع غيرها من شركات التخطيط للممتلكات الرقمية، فإن صلتها مع قصة إيغلمان القصيرة تشير إلى سيناريوهات مستقبلية محتملة. فقد أعلنت شركة ديث سويتش عن إمكانية إرسال رسائل بالبريد الإلكتروني إلى الأحبة لفترة تصل إلى سنة بعد الوفاة، وأن الاستخدامات الممكنة لهذه الخدمة تشمل حسم نقاش سابق أو كشف أسرار بقيت مخفية طوال حياة الشخص.
كانت الشركة تبدو كغيرها من الشركات الناشئة المختصة بالتخطيط للممتلكات الرقمية، بحيث تسمح للناس بشكل افتراضي من التواصل مع الأحبة بعد الوفاة. أما المفاهيم الأكثر طموحاً لها، وذلك بخططها لاستنساخ التفضيلات الشخصية للناس بعد وفاتهم، فلم تكن بعد قد طُبقت.
اقرأ أيضاً: ما هي تقنية الهولوغرام وكيف تعمل؟
خصوصية الموتى: الطرف الضائع من المعادلة
وفي عالم مستقبلي شبه واضح يصفه إيغلمان في قصته القصيرة "تاريخ مختصر لأطياف الموت" (A Brief History of Death Switches)، يقوم المبرمجون بتطبيق "طيف الموت" بحيث يتمكن الموتى من إيصال كلمات المرور أو الأمنيات النهائية أو أسرارهم المظلمة إلى أحبائهم. وحتى المتوفون منذ فترة طويلة يمكن أن يرسلوا، وبشكل مؤتمت ومخصص، رسائل إلى الأحياء من أفراد العائلة والأصدقاء. ويمكن أن يستمر المتوفون بشراء الأشياء على أمازون وفقاً لأذواقهم المؤرشفة، وذلك بفضل خوارزمية تقوم بتخطيط تصرفات شخصياتهم إلى فترة طويلة في المستقبل.
وبعد فترة من الوقت، فإن المتوفين "يدعون أنهم لم يكونوا متوفين على الإطلاق. وباستخدام خوارزميات رد تلقائي تقوم بتحليل الرسائل الواردة بذكاء، يمكن لطيف الموت أن يولد أعذاراً وذرائع مختلفة لتجنب تلبية الدعوات، كما يستطيع إرسال التهاني لمختلف المناسبات في الحياة، والادعاء بالتحرق شوقاً لرؤية شخص ما ثانية في وقت قريب". وفي نهاية المطاف، فإن الحياة الاجتماعية اليومية والوجود الفيزيائي سيضمحلان حتى تحل محلهما "شبكة معقدة من التعاملات التي لا يقرأها أحد، وهي أشبه بمجتمع كامل من رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة جيئة وذهاباً تحت الأقمار الاصطناعية الصامتة التي تدور حول كوكب صامت". إن التقاط الأنماط القابلة للتوقع في الحياة البشرية عبر الخوارزميات أدى في نهاية المطاف إلى تشويش الحدود بين الأحياء والموتى.
وفي نهاية القصة، يلحظ المؤلف أن الكائنات الفضائية التي ستأتي إلى الأرض "ستتمكن على الفور من استيعاب ماهية الحياة البشرية، لأن ما سيتبقى منها هو شبكة العلاقات بين البشر: من كان يحب من، ومن كان يتنافس مع من، ومن كان يغش من، ومن يضحك مع من في الرحلات وعلى دعوات العشاء في الأعياد". ونظراً لكل هذه البيانات المتراكمة، فإن "جميع ذكريات الكوكب ستستمر بالبقاء على شكل أصفار ووحدات". وبدلاً من الذكريات الشخصية للأفراد، فإن الإرث البشري الجمعي هو في الواقع تراكم للتغييرات الفعالة وآثار التواصل. يعبر هذا المستقبل المحتمل عن التخيلات الثقافية المعاصرة المحيطة بالبيانات الكبيرة، والتي تقول إن جمع ما يكفي من المعلومات يكفي لبناء تجسيد جيد للنفس وللجمع.
وعلى حين قد يشعر الكثير من الناس بالرعب إزاء وجود نسخة مطابقة إلى درجة مخيفة لأحبائهم المتوفين، أو حتى لأنفسهم، فإن هذا الغموض المحيط بالحياة والموت هو تماماً ما يثير افتتان بعض التكنولوجيين. إن المشاكل الناجمة عن المواد عميقة التزييف هي في الواقع أعمق أمنيات هذه الفئة من التكنولوجيين، أي اضمحلال الحدود بين الأحياء والموتى لدرجة يصعب التفريق بين هؤلاء وأولئك.
مجلة "فيوتشر تنس" هي شراكة بين مجلة "سليت" (Slate) ومركز التفكير "نيو أميركا" (New America) وجامعة أريزونا ستيت، وهي تتمعن في القضايا المتعلقة بالتكنولوجيات الناشئة والسياسات العامة والمجتمع.