تحتل الرعاية النفسية والعقلية اهتماماً متزايداً في القطاعات الرقمية، إذ يسعى الباحثون إلى استغلال التقنيات الحديثة في تحسين مستوى الرعاية. ولقد تجاوز الحديث عن دور التكنولوجيا في العلاج النفسي مرحلة تقديم الرعاية الصحية عن بعد ليمتد إلى ظهور أساليب رقمية للعلاج النفسي مثل "العلاج بالواقع الافتراضي".
تخيّل أن مريضاً يعاني رهاب المناطق المرتفعة، ربما ينصحه كثيرون بمحاولة مواجهة مخاوفه، غير أن الأمر لن يكون سهلاً عليه أبداً، لذا، يلجأ الأطباء لأسلوب "التعرُض" بمعنى تعمد تعرض المريض لموقف أو شيء يخافه، ويبدأ المعالج عادةً بدفع المريض إلى تخيل ما يخاف منه، ثم زيادة الوجود المادي للمثير الرهابي بشكل تدريجي، حتى يكتسب المريض شعوراً بالسيطرة.
ينطبق هذا العلاج على أغلب أنواع الرهاب أو الفوبيا، لكن العلاج بالتعرض يواجه العديد من التحديات المرتبطة بالتكاليف أو الأمان أو الحواجز المكانية، وغيرها. وهنا يأتي دور الواقع الافتراضي، فما هو علاج التعرض للواقع الافتراضي، وكيف يساعد الواقع الافتراضي في الصحة النفسية بشكل عام؟
اقرأ أيضاً: دراسة في الشرق الاوسط: الواقع الافتراضي يوفر بيئة أفضل لتدريب العمال على إجراءات السلامة
علاج التعرض للواقع الافتراضي
علاج التعرض للواقع الافتراضي (VRET) يسمح بتعرض المريض تدريجياً لمخاوفه، عبر بيئة اصطناعية تم إنشاؤها رقمياً، مثل استخدام الشرفات وأسطح المنازل الافتراضية لعلاج الأشخاص المصابين برهاب المرتفعات، أو تجربة الطيران بتصميم نموذج محاكاة للطائرة وأصواتها، ما يمكن المريض حينها من التعرض لمخاوفه وهو يدرك أنه في أمان.
بعض أنواع الرهاب غير العادي يكون من الصعب التعرض لها فعلياً، مثل رهاب أسماك القروش، وهنا تصبح ميزة استخدام الواقع الافتراضي أكثر إلحاحاً عندما يكون إعداد الموقف الواقعي أمراً غير عملي، مثل تعريض مريض لكائن بحري كبير مخيف كالقرش. واختبرت دراسة فعالية مواجهة أسماك قرش افتراضية ثلاثية الأبعاد لمريض الرهاب، وتبين إمكانات الواقع الافتراضي في علاج رهاب الكائنات الحية البحرية وقدرتها على إعادة خلق مواقف متنوعة لعلاج التعرض.
ظهرت منصات متخصصة في تقديم علاج الواقع الافتراضي لحالات الرهاب، مثل منصة "Virtually Better التي تسمح للمعالجين بالتحكم في التجارب الحسية لعملائهم، مثل تجربة مرضى "الخوف من الظلام" التي تمنحهم التحكم الكامل في إعدادات الإضاءة في البيئة الافتراضية لتعويدهم بأمان على البيئة المحيطة المظلمة. وتجربة "التحدث أمام الجمهور" لتمنح من لديهم هذا النوع من الرهاب تكرار تجربة التحدث أمام الجمهور، والتحكم في أعداد الجمهور، واستجاباتهم، وحتى تحميل ملاحظات المتحدث وشرائح العرض للحصول على تجربة مصممة بشكل فردي.
اقرأ أيضاً: كيف تساعد الأحلام الواعية والواقع الافتراضي في علاج اضطراب ما بعد الصدمة؟
علاج الواقع الافتراضي لاضطرابات ما بعد الصدمة
فعّلت العديد من المراكز الطبية أسلوب علاج الواقع الافتراضي مع الأشخاص الذين يعانون اضطرابات ما بعد الصدمة. في عام 2013، وافق الجندي الأميركي، كريس ميركل، الذي عانى العزلة والأرق والقلق بعد عدة حروب قاسية خاضها، على خوض تجربة الواقع الافتراضي (VR) لعلاجه بعدما فشلت جلسات العلاج التقليدية في علاجه. في الجلسة الأولى، شعر كريس بانقباض عضلاته وتسارع دقات قلبه لأن التفاصيل الموجودة في الواقع الافتراضي كانت دقيقة للغاية مثل الشاحنة العسكرية أو وزن المسدس المصغر في يده.
شعر كريس بالارتياح إذ أن التعامل مع الذكريات المؤلمة في عالم افتراضي جعله يدرك أنه يستطيع العيش مع ماضيه، وأنه إذا تغلب على شيء ما في الواقع الافتراضي، فسيهزمه في الحياة الواقعية. وبعد نحو 7 جلسات، بدأ ميركل يستعيد أجزاء من ذاكرته، التي تجنبها دماغه كاستجابة شائعة لاضطراب ما بعد الصدمة.
هذه الطريقة مستوحاة من تقنية طورتها "إدنا فوا"، أستاذة الطب النفسي في كلية بيرلمان للطب بجامعة بنسلفانيا، تسمى "التعرض المطول"، والذي ينطوي على جعل المرضى يصفون حدثاً صادماً بالتفصيل، قبل مواجهتهم بمحفزات الصدمة في العالم الحقيقي.
علاج الواقع الافتراضي يخفف الإرهاق والتوتر
شمل علاج الواقع الافتراضي اضطرابات القلق والتوتر والإجهاد، إذ اختبر فريق بحثي من جامعة "جونز هوبكنز" الأميركية تمارين تأمل الواقع الافتراضي لتقليل الإجهاد والتعب بين الطاقم الطبي في قسم كوفيد- 19. وأبلغ 34% منهم أنهم لاحظوا انخفاضاً في مستوى الإجهاد لديهم.
في دراسة أخرى شملت 83 متطوعاً بالغاً يعانون من ضغوط عالية، خضعوا خلالها لجلسة استرخاء تقليدية، وجلسة أخرى بالواقع الافتراضي، تبين أن الأخيرة كانت أكثر فعالية في تقليل الإجهاد والتوتر.
مفارقة سليمان من منظور الواقع الافتراضي
نميل إلى تقديم نصائح للآخرين أفضل مما نقدمه لأنفسنا بما يعرف بـ "مفارقة سليمان". ويمكن للواقع الافتراضي أن يكون له هنا دوراً أيضاً. أظهرت دراسة سابقة كيف يمكن تفعيل الحوار الداخلي في الواقع الافتراضي (VR) من خلال شغل الشخص الواحد بالتناوب جسدين افتراضيين مختلفين، أحدهما يمثل نفسه والآخر شخصية افتراضية، بحيث يتمكن المشارك من خلق محادثة ذاتية من خلال شرح مشكلته إلى الشخص الافتراضي، ثم يجيب الأخير من منظوره كما لو كان الحوار بين شخصين مختلفين. وأظهرت نتائج الدراسة أن أسلوب المحادثة الذاتية ينتج عنه إدراك أكبر للتغيير والمساعدة.
اقرأ أيضاً: دراسات جديدة تستبعد كونَ الهواتف الذكية سبباً لاكتئاب الأطفال
الواقع الافتراضي يحسن أبحاث علم النفس
لم يكتفِ الباحثون بالاعتماد على تقنية الواقع الافتراضي في علاج الأمراض النفسية فقط، وإنما أيضاً في الأبحاث والتجارب المعملية.
يقر العلماء بأن تحليل السلوك البشري يمثل تحدياً، ففي تجربة معملية، لا تكون النتائج واقعية لأن المشاركين قد يتصرفون في المختبر بشكل مختلف عن المواقف المعقدة في العالم الحقيقي، وفي الدراسات الميدانية، يمكن التعرف على سلوك البشر في الحياة الواقعية، ولكن من الصعب فصل جميع الأسباب المحتملة لهذه السلوكيات، ليظهر الواقع الافتراضي كحل من جديد لهذا التحدي.
فقد نشر فريق بحثي من جامعة "كنت" في المملكة المتحدة ورقة بحثية تشير إلى أن تجارب علم النفس في الواقع الافتراضي ستزيد من دقة الأبحاث والتجارب التي تحلل السلوك البشري بناءً على تعبيرات الوجه في النماذج ثلاثية الأبعاد. ففي الواقع الافتراضي، يتمتع الباحثون بالسيطرة الكاملة على البيئة، إضافة إلى أن المشاركين سيتصرفون كما يفعلون في الحياة الواقعية لأن محاكاة الواقع الافتراضي يمكن أن تكون واقعية جداً.
إمكانات الواقع الافتراضي لمحاكاة المواقف والتفاعلات الاجتماعية لا حدود لها لتجعل ما هو يصعب تجاوزه نفسياً أمراً ممكناً.