في أثناء الحرب العالمية الثانية، أجرت الوحدة 731 في الجيش الياباني تجربة طبية مروعة في مدينة مانتشوكو في شمال شرق الصين، حيث قام جنود الوحدة 731 بعدة أمور، منها نشر عدوى الطاعون عمداً بين الناس كجزء من مشروع لتطوير سلاح بيولوجي. وتم توثيق جرائم هذه الوحدة بدقة، فما علاقة هذا المثال بموضوع النسخ غير الإنجليزية من موسوعة ويكيبيديا؟
إذا قرأت الصفحة التي تتحدث عن الوحدة 731 باللغة اليابانية على موقع ويكيبيديا في شهر يناير/كانون الثاني فلن تحصل على القصة كاملة. إذ يقول المقال إن إجراء تجارب على البشر ما هو إلا مجرد "نظرية". هذا مثال واحد عن التغطية على جرائم الحرب في موقع ويكيبيديا الياباني، وهذا ما اكتشفته عندما أجريت بحثاً عن الحرب.
النسخة اليابانية من موقع ويكيبيديا
في نفس الفترة تقريباً، احتفل موقع ويكيبيديا بعيد ميلاده العشرين وأشادت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بدقة المعلومات في مقالاته. لكن هذه الإشادة ركزت على النسخة الإنجليزية، على الرغم من أن موقع ويكيبيديا له نفس التأثير بلغات أخرى. موقع ويكيبيديا باللغة اليابانية هو النسخة صاحبة أكبر عدد من الزيارات بعد النسخة الإنجليزية، إذ يصل وسطياً إلى مليار مشاهدة شهرياً. وترد صفحات موقع ويكيبيديا باللغة اليابانية دائماً على رأس قائمة النتائج في معظم محركات البحث. لكن موقع ويكيبيديا باللغة اليابانية ليس منعزلاً، وثمة مشكلة أوسع تتعلق بالمعلومات المضللة والمغلوطة في جميع نسخه غير الإنجليزية.
إذا ألقيت نظرة على صفحة المقال الذي يتحدث عن "مجزرة نانجينغ" (南京大虐殺) على موقع ويكيبيديا باللغة اليابانية فستجد أن العنوان تغير ليصبح "حادثة نانجينغ" (南京事件)، وأن المقال يقول: "يسميها الجانب الصيني مجزرة نانجينغ لكن حقيقة الحادث لا تزال غير معروفة". وعلى الرغم من توفر صور للمجزرة والأحداث التي أدت إليها فالمقال لا يحتوي على أي منها. وإحدى أكثر الصفحات إثارة للقلق هي الصفحة التي تتحدث عن "نساء المتعة" (Comfort Women) وهذا الاسم هو كناية ملطفة تصف النساء اللاتي كنّ ضحية الاستعباد الجنسي الذي فرضه عليهنّ الجيش الياباني، وأغلبهنّ كوريات، وتستخدم الصفحة كلمة "بغاء" (売春) لوصفهنّ للإيحاء بأنهنّ لم يجبرن على ذلك. وفي محاولة جلية للتقليل من أهمية هذه الظاهرة، يناقش المقال ممارسات دول أخرى، إذ يقول في إحدى الفقرات: "اتُبعت 3 أنواع من سياسات الممارسات غير الأخلاقية في أرض المعركة في الحرب العالمية الثانية: الحب المتحرر (بريطانيا والولايات المتحدة)، ومحطات المتعة (اليابان وألمانيا وفرنسا) والاغتصاب (الاتحاد السوفييتي وكوريا)". هذا ليس خاطئاً فحسب بل هو غير مفهوم أيضاً، ويبدو أن هذا هو الهدف منه، فالمقال ليس مصمماً بهدف تقديم المعلومات للقارئ بل تشويشه ورمي بذور الشك في عقله.
المعلومات المضللة للمجتمع الياباني
تعكس المعلومات المضلّلة على موقع ويكيبيديا أمراً أكبر يجري في المجتمع الياباني، فهذه الجرائم التي ارتكبتها اليابان في الحرب العالمية الثانية تؤثر بصورة مستمرة في علاقاتها مع جيرانها. في الأعوام الأخيرة، مع تزايد نهضة مفهوم القومية في اليابان، ادعى رئيس الوزراء آنئذ شينزو آبي عدم توفر أدلة على إكراه الحكومة اليابانية للنساء على الخضوع لنظام "نساء المتعة"، في حين حاول آخرون الادعاء بأن مجزرة نانجينغ لم تحدث على الإطلاق.
تضم كل صفحة على موقع ويكيبيديا قسم نقاش يبين تاريخ النقاشات التي خاضها المحررون حول موضوعه، وهم المستخدمون الذين يدخلون التعديلات على المقال. وفي صفحات "النقاش" الخاصة بالمواضيع التاريخية الشائكة، عثرت على سجلات لأشخاص عبروا عن مخاوفهم وقاموا بعدة محاولات فاشلة لتصحيح المحتوى. قبل 2010 كان الموقع يضم صفحة عن "مجزرة نانجينغ"، لكن أحد المحررين اقترح تغيير اسمها ليصبح "حادثة نانجينغ"، ولم يوافق على هذا الاقتراح سوى محرر واحد آخر، ومع ذلك تم تبنيه في غضون أقلّ من أسبوع. ولاحقاً، اعترض عدة محررين على التغيير بدعوى أنه أجري بسرعة كبيرة قبل أن يعلموا بالاقتراح حتى، وأن الاسم السابق كان متداولاً أكثر. لكن آراءهم قوبلت بالرفض.
وبالمثل، اكتشفت أن النسخة القديمة عن المقال المتعلق بالوحدة 731 كانت تضم قسماً بعنوان "التجربة على البشر" يحتوي على روايات الشهود من الضحايا والجناة. لكن في عام 2020 حذف هذا القسم في النسخة الجديدة وحل محله قسم فرعي أصغر بكثير يسمي هذه التجربة "نظرية"، ويقول: "في السنوات الأخيرة نشرت وثائق رسمية أميركية وتمت دراستها، لكن لم يُعثر على أي سجل حول إجراء الوحدة 731 تجارب غير إنسانية". اتُهم مستخدم حاول استرجاع النسخة القديمة بأنه "يبالغ في الاقتباس" وتم حظر حسابه إلى أجل غير مسمى، كما عثرت على حسابات محظورة أخرى لمستخدمين عارضوا آراء المراجعين.
"الحياد" هو أحد أعمدة موقع ويكيبيديا، وكثيراً ما يلجأ إليه المراجعون التاريخيون للدفاع عن مواقفهم مدعين أن وجهات نظرهم محايدة، في حين أنهم يطبقون أحياناً قواعد مثل "مشكلات تتعلق بحقوق النشر" لحذف التعديلات والتحكم بالمنصة.
في شهر يناير/كانون الثاني، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالاً بعنوان رئيسي يقول: "في عيد ميلاده العشرين، قد يكون موقع ويكيبيديا الموقع الأكثر أماناً على الإنترنت". كان هذا المقال قائماً على فكرة أن موقع ويكيبيديا تعلم محاربة المعلومات المضللة والمغلوطة على عكس منصات التكنولوجيا الكبيرة الأخرى، وإحدى الطرق التي مكنته من ذلك وفقاً للمقال هي أنه "يخصص صفحة واحدة فقط لكل موضوع".
ذكرت هذه النقطة مرة أخرى في مقابلة شخصية أجرتها قناة الجزيرة مع كاثرين ماهر، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة "ويكيميديا"، حيث قالت: "لدينا صفحة واحدة فقط يطلع عليها الجميع في كل مكان في العالم، وهذه الحقيقة في غاية الأهمية".
لكن موقع ويكيبيديا يتوفر بلغات يصل عددها إلى 302، وبذلك يتم تخصيص أكثر من صفحة واحدة لكل موضوع حول العالم. يكشف التصريح بحد ذاته افتراضاً خاطئاً: أجل، يشاهد "الناس من جميع أنحاء العالم" موقع ويكيبيديا الإنجليزي، لكن نسخ اللغات الأخرى، كالنسخة اليابانية، يطلع عليها ويحررها أشخاص من دول محددة بصورة أساسية.
تعترف 67 دولة مختلفة باللغة الإنجليزية على أنها اللغة الرسمية لها، ويتحدث بها أشخاص من مختلف الجنسيات والثقافات. بينما لا يتحدث أحد باللغة اليابانية سوى في اليابان، وهذا الاختلاف يفسر ولو جزئياً مشكلة المعلومات المغلوطة في نسخة ويكيبيديا اليابانية. إذ إن مجتمعات ويكيبيديا غير الإنجليزية معزولة أكثر بكثير، وهذا يؤدي إلى تحيز متأصل في مواضيع محددة، ولاحظنا هذا التحيز في نسخ ويكيبيديا غير الإنجليزية الأخرى وليس في النسخة اليابانية فقط. مثلاً، منذ عام 2013، استقطبت نسخة ويكيبيديا الكرواتية انتباهاً دولياً بسبب تغطيتها على جرائم الحرب العالمية الثانية، وذلك بحسب صفحة ويكيبيديا الكرواتية، كما أنها متهمة بترويج الآراء الفاشية في العالم.
أضف أن الاختلافات الثقافية لها تأثير مهم في طرق استخدام منصات التكنولوجيا. قال جيمي ويلز الشريك المؤسس لويكيبيديا في مقابلة أجريت معه مؤخراً إن هذه الموسوعة الإلكترونية كانت "مشروع تنوير"، وتتمثل بعض قيم مذهب التنوير المهمة في حرية التعبير واستعمال المنطق للوصول إلى الحقيقة ومناقشة المشكلات الاجتماعية بحرية في "الميدان العام".
لكن ليس بالضرورة أن تطبق هذه القيم الغربية في بقية أنحاء العالم. خذ مفهوم الميدان العام مثلاً، في الغرب يجتمع الناس بحرية لمناقشة القضايا والأفكار الاجتماعية منذ مئات الأعوام، لكن اليابانيين لا يجرون نقاشات عامة حول القضايا الاجتماعية، بل يدعون إلى عدم مناقشة القضايا الشائكة حرصاً على الوفاق الاجتماعي ولا يعرفون في تقاليدهم شيئاً يدعى "الميدان العام".
الاختلافات الثقافية في استخدام موقع ويكيبيديا
تنعكس هذه الاختلافات الثقافية في طريقة استخدام الناس لموقع ويكيبيديا. وتبين صفحة النقاش في نسخة ويكيبيديا اليابانية كيف تقوم مجموعة من المحررين عادة بإسكات من يعارض آراءهم، ومن يتحداهم يجازف بأن يتهم بممارسة "نشاط سياسي" أو مخالفة القوانين وقد يحظر حسابه. وهذا يشبه التعرض للتنمر الذي يعتبر مشكلة اجتماعية في اليابان. المجتمع الياباني بعيد جداً عما يفترض أن يكون "ميداناً عاماً".
كما أن موقع ويكيبيديا باللغة اليابانية لديه عدد قليل من المشرفين لكل مستخدم نشط مقارنة بجميع اللغات الأخرى. يتمتع المشرفون بالقدرة على حظر المستخدمين وحماية الصفحات وإدخال التعديلات على الصفحات المحمية وحذف أي صفحة وإعادة تسميتها من دون قيود، والقائمة تطول. وفقاً لموقع "ويكيداتا" (Wikidata) فإن موقع ويكيبيديا بنسخته اليابانية لديه 15,774 مستخدماً نشطاً و41 مشرفاً (0.26% من قاعدة المستخدمين)، في حين أن النسخة الإنجليزية لديها 144,828 مستخدماً نشطاً و1,109 مشرفين (0.77%)، وهذا يعني أن بضع عشرات من الأشخاص في موقع ويكيبيديا الياباني يستطيعون التحكم بما يجري على المنصة.
يشتهر المشرفون في موقع ويكيبيديا الياباني بأنهم يحمون المقالات (أي يحددون من يمكنه تعديلها)، فتتحول إلى مسرح لما يمكن تسميته "حرب التعديل"، وهذا ما يحدث في صفحة الوحدة 731 حالياً.
كتبت مؤخراً مقالاً عن المشكلات التي يعاني منها موقع ويكيبيديا الياباني في مدونتي اليابانية، وتلقيت تعليقات مبهرة عليه. عبر الكثيرون عن قلقهم من تحريف التاريخ في موقع ويكيبيديا الياباني، كتب أحد الأشخاص: "حاولت تصحيح هذه الصفحات عدة مرات، لكن تعديلاتي كانت تحذف على الفور. لذلك استسلمت وتوقفت عن المحاولة". وكتب آخر: "الجملة التي تقول ’يصبح المحتوى أفضل كلما ازداد عدد الأشخاص الذين يدخلون التعديلات عليه‘ تنطبق على النسخة الأميركية فقط، فهذا لا يحصل في النسخة اليابانية لأنها معزولة".
بعد عدة محاولات للتواصل مع مؤسسة "ويكيميديا" حصلت على رد أخيراً: "لم نكن نعلم بشأن مشكلات المحتوى التي ذكرتها حتى الآن. فمن الصعب اكتشاف مشكلات كهذه مع توفر موقع ويكيبيديا بأكثر من 300 لغة". لكن عندما نشرت وكالة الإعلام "ديلي دوت" (Daily Dot) مقالاً حول تحريف التاريخ في موقع ويكيبيديا بالنسخة الكرواتية في عام 2013 كان رد فعل المؤسسة غامضاً كذلك، وقال أحد المتحدثين باسمها إنهم "يبحثون في الأمر".
في هذه الأثناء، توقع منصة ويكيبيديا أثراً هائلاً على عقول القراء اليابانيين الذين يصادفون صفحات ممتلئة بالتاريخ المحرّف بسبب النسخ غير الإنجليزية من موسوعة ويكيبيديا. ترك شخص محبط تعليقاً في مدونتي يقول: "أعتقد أن موقع ويكيبيديا الياباني يتحول إلى أداة دعاية سهلة في يد من يرغبون في السيطرة على آراء الشعب".