إذا سألت الأشخاص الذين يبنون الذكاء الاصطناعي التوليدي عن الأشياء التي يبرع فيها هذا الذكاء الاصطناعي حالياً، والتي تثير حماستهم للغاية، فسوف يقدم لك الكثيرون الإجابة نفسها: البرمجة.
وقد قال كبير العلماء في شركة أنثروبيك (Anthropic)، جاريد كابلان، لمجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو مؤخراً: "تمثل هذه المسألة مصدر حماس كبير لمطوري البرمجيات. فهذه الأنظمة تستطيع أن تفهم مشاكل الرموز البرمجية بالفعل، وتعمل على استكشاف الأخطاء الواردة فيها وتصححها".
حالياً، يستخدم الملايين من المطورين حول العالم أداة "كوبايلوت" (Copilot) التي أطلقتها منصة غيت هاب (GitHub) التي تدعمها مايكروسوفت في 2022، والمبنية على أساس نماذج لغوية كبيرة من أوبن أيه آي. ويعتمد ملايين آخرون على بوتات الدردشة ذات الأغراض العامة، مثل "كلاود" (Claude) من أنثروبيك و"تشات جي بي تي" من أوبن أيه آي و"جيميناي" (Gemini) من جوجل ديب مايند، للحصول على مساعدتهم في الاستخدامات اليومية.
وقد زعم الرئيس التنفيذي لشركة ألفابت (Alphabet)، سوندار بيتشاي، خلال ندوة افتراضية حول المكاسب المالية للشركة في أكتوبر/تشرين الأول أنه "حالياً، يُستخدم الذكاء الاصطناعي في توليد أكثر من ربع إجمالي الرموز البرمجية في جوجل، قبل أن يراجعه المهندسون تمهيداً لقبوله. وهو ما يساعد المهندسين لدينا على تنفيذ المزيد من المهام والعمل على نحو أسرع". ومن المتوقع أن تبادر شركات تكنولوجية أخرى إلى اتباع الأسلوب نفسه، إن لم تكن قد بدأت بذلك بالفعل.
اقرأ أيضاً: كيف تبني تطبيقات ذكية دون أن تكون خبيراً في البرمجة أو الذكاء الاصطناعي؟
منافسة في مجال الأدوات البرمجية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي
غير أن إصدار الأدوات البرمجية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على الشركات الضخمة. فقد دخلت مجموعة من الشركات الناشئة الجديدة هذه السوق النشطة أيضاً. وتتنافس هذه الشركات المستجدة، مثل زينكودر (Zencoder) وميرلي (Merly) وكوساين (Cosine) وتيسل (Tessl) (التي تقدر قيمتها بنحو 750 مليون دولار بعد تأسيسها بأشهر) وبولسايد (Poolside) (التي تقدر قيمتها بنحو 3 مليارات دولار قبل أن تطلق منتجاً واحداً حتى)، للفوز بنصيبها من المكاسب. يقول المحلل في شركة الاستثمار إير ستريت كابيتال (Air Street Capital)، ناثان بينياك: "في الواقع، يبدو أن مطوري البرمجيات مستعدون لدفع المال لقاء الحصول على برامج المساعدة. ولهذا فإن البرمجة هي إحدى أسهل الطرق لتحقيق الدخل من الذكاء الاصطناعي".
تَعد هذه الشركات بالانتقال بمساعدات البرمجة التوليدية إلى مستويات جديدة. فبدلاً من تزويد مطوري البرمجيات (المطورين اختصاراً) بشكل من أشكال وظيفة الإكمال التلقائي الفائق، على غرار معظم الأدوات الحالية، تستطيع الأنظمة من الجيل الجديد أن تبني النموذج الأولي للبرنامج وتختبره وتستكشف الأخطاء وتصححها بالنيابة عنك.
وفي المحصلة، من المحتمل أن يتحول المطورون عملياً إلى مدراء، قد يمضون من الوقت في مراجعة الرموز البرمجية التي كتبها النموذج وتصحيحها أكثر مما يمضونه في كتابتها بأنفسهم من الصفر.
لكن هذا ليس كل شيء. فالعديد من المطورين الذين يبنون مساعدات البرمجة التوليدية يعتقدون أنها قد تمثل طريقاً سريعة نحو الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، وهو التكنولوجيا الخارقة الافتراضية التي تفوق قدرات البشر التي يزعم عدد من الشركات الكبرى أنه يستهدفها.
يقول الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك في شركة بولسايد، إيسو كانت: "سيكون تطوير البرمجيات أول مجال نشهد فيه وصول أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى مستوى البشر في نشاط ذي قيمة اقتصادية هائلة". (لقد تباهت أوبن أيه آي بالفعل بأن نموذجها الأحدث أو 3 [o3] تمكن من التغلب على كبير علماء الشركة في تحدٍّ برمجي تنافسي).
مرحباً بكم في الموجة الثانية من البرمجة بالذكاء الاصطناعي.
رموز برمجية صحيحة
يتحدث مهندسو البرمجيات عن اثنين من المعاني لكلمة "صحيح". المعنى الأول هو صحة البرنامج من حيث البناء اللغوي (قواعده اللغوية أو ما يسمى النحو والصرف في اللغة عادة)، ما يعني أن الكلمات والأرقام والمؤثرات الرياضية (mathematical operators) موجودة جميعها في أماكنها الصحيحة. هذا أهم بكثير من صحة القواعد في اللغة الطبيعية (السلامة النحوية). حيث يكفي وجود خطأ صغير واحد في برنامج مؤلف من آلاف الأسطر حتى يتعذر تشغيل (عادة ما يسمى تنفيذ البرنامج في مرحلة البرمجة) أي جزء منه بنجاح.
أصبح الجيل الأول من المساعدات البرمجية اليوم بارعاً للغاية في إنتاج رموز برمجية صحيحة وفق هذا المعنى. فهي مدربة على المليارات من كتل الرموز البرمجية، ما يعني أنها تمكنت من استيعاب البنى الخارجية (الهيكلية العامة لبنية البرنامج) للكثير من أنواع البرامج.
لكن هناك أيضاً المعنى الذي نقصد به أن الوظيفة التي ينفذها البرنامج صحيحة، فمن الممكن تشغيل البرنامج بنجاح فعلاً، لكن هل ينفذ الوظيفة المطلوبة منه فعلياً؟ هذا هو المستوى الثاني من الصحة (صحة البرامج) الذي تسعى الموجة الجديدة من مساعدات البرمجة التوليدية إلى الوصول إليه. وهو ما سيؤدي إلى تغيير جذري في طريقة بناء البرنامج.
يقول المؤسس المشارك في شركة كوساين، أليستر بولين: "تستطيع النماذج اللغوية الكبيرة كتابة رموز برمجية قابلة للتنفيذ بلا مشاكل، لكنها قد لا تكتب البرنامج المطلوب على الدوام. لتحقيق هذا الأمر، نحتاج إلى محاكاة عمليات التفكير التي يعتمد عليها المبرمج البشري للحصول على تلك النتيجة النهائية".
تكمن المشكلة في أن البيانات التي تدربت عليها معظم مساعدات البرمجة -أي المليارات من كتل الرموز البرمجية المأخوذة من مخازنها على الإنترنت- لا تلتقط عمليات التفكير هذه. فهي تمثل المنتج النهائي، لا مراحل بنائه. يقول كانت: "ثمة الكثير من الرموز البرمجية المتاحة، لكن هذه البيانات لا تمثل عملية التطوير البرمجي".
توصل بولين وكانت وغيرهما إلى أن بناء نموذج ينفذ مهام أكثر بكثير من مجرد عملية إكمال تلقائي -نموذج يتمكن من كتابة برامج مفيدة واختبارها وتصحيح أخطائها- يتطلب تدريب هذا النموذج على ما هو أكثر بكثير من مجرد الرموز البرمجية. حيث يجب أن نبين للنموذج كيفية بناء هذه الرموز البرمجية وتجميعها معاً.
باختصار، تعمل الشركات مثل كوساين وبولسايد على بناء نماذج لا تستطيع محاكاة الرموز البرمجية المكتوبة بأسلوب متقن وحسب، سواء أكانت تعمل جيداً أم لا، بل محاكاة عملية إنتاج مثل هذه الرموز البرمجية في المقام الأول أيضاً. وإذا حققت هذا الهدف، فإن هذه النماذج ستتوصل إلى صياغة رموز برمجية أفضل بكثير وعمليات تصحيح أفضل بكثير للأخطاء البرمجية.
اقرأ أيضاً: هل اقتربت شركة أوبن أيه آي من تطوير الذكاء الاصطناعي العام؟
اقتفاء الأثر
لكن في البداية، نحتاج إلى مجموعة بيانات تلتقط هذه العملية، أي الخطوات التي قد يتخذها المطور البشري عند كتابة الرموز البرمجية. هذه الخطوات أشبه بأثر يمكن أن تقتفيه الآلة لإنتاج كتلة مماثلة من الرموز البرمجية بنفسها.
تتضمن هذه العملية تحديد المواد التي يمكن الاستعانة بها: ما هي أجزاء النصوص البرمجية الأساسية الموجودة المطلوبة لمهمة برمجية معينة؟ يقول مؤسس زينكودر، آندرو فيليف: "السياق أمر بالغ الأهمية. فالجيل الأول من الأدوات المساعدة كان ضعيفاً للغاية من حيث التعامل مع السياق، فقد كانت هذه الأدوات تكتفي عملياً بتفحص محتوى علامات التبويب المفتوحة لديك، مع أن مخزن الرموز البرمجية لديك قد يتضمن 5,000 ملف، وقد تتجاهل معظمها".
وظفت زينكودر مجموعة من خبراء محركات البحث لمساعدتها على بناء أداة تستطيع تحليل مجموعات النصوص البرمجية الأساسية الضخمة وتحديد الأجزاء المهمة والأجزاء غير المهمة ضمنها. يؤدي هذا السياق المفصل إلى تقليل الهلوسات (التي قد تظهر في مخرجات هذه الأداة) وتحسين جودة الرموز البرمجية التي تستطيع النماذج اللغوية الكبيرة إنتاجها، كما يقول فيليف: "نطلق على هذه العملية اسم ’فهم مخازن الرموز البرمجية‘ (repo grokking)".
تعتقد كوساين أيضاً أن السياق مسألة رئيسية. لكنها تعتمد على هذا السياق لبناء نوع جديد من مجموعات البيانات. فقد طلبت الشركة من عشرات المبرمجين تسجيل ما كانوا يفعلونه في أثناء عملهم على تنفيذ المئات من المهام البرمجية المختلفة. يقول بولين: "طلبنا منهم تدوين كل شيء. لماذا فتحت ذلك الملف؟ لماذا تصفحته من البداية حتى منتصفه؟ لماذا أغلقته؟". كما طلبت الشركة من المبرمجين أيضاً وضع تعليقات على الأجزاء المنجزة من الرموز البرمجية، ووضع علامات تحدد الأقسام التي تطلبت كتابتها معرفة أجزاء أخرى من الرموز البرمجية أو وثائق ومستندات محددة.
بعد ذلك، تجمع كوساين هذه المعلومات كلها وتولّد مجموعة بيانات اصطناعية ضخمة توضح الخطوات النموذجية التي يتخذها المبرمجون، ومصادر المعلومات التي يعتمدون عليها، لإنجاز كتلة من الرموز البرمجية. ويستخدمون مجموعة البيانات هذه لتدريب نموذج لمعرفة مسار الخطوات الذي قد يحتاج إلى اتباعه لإنتاج برنامج معين، ثم كيفية اتباع هذا المسار.
أيضاً، تعمل بولسايد، التي تتخذ من مدينة سان فرانسيسكو مقراً لها، على إنشاء مجموعة بيانات اصطناعية تلتقط عملية البرمجة، لكنها أكثر اعتماداً على تقنية تحمل اسم "آر إل سي إي" (RLCE)، الذي يمثل اختصاراً لعبارة "التعلم المعزز من تنفيذ الرموز البرمجية" (reinforcement learning from code execution). حيث تستخدم كوساين هذه التقنية أيضاً، ولكن بدرجة أقل.
تشبه آر إل سي إي التقنية المستخدمة في جعل بوتات الدردشة مثل تشات جي بي تي برامج بارعة في المحادثة، وهي تقنية معروفة باسم "آر إل آتش إف" (RLHF)، الذي يمثل اختصاراً لعبارة "التعلم المعزز من الملاحظات البشرية" (reinforcement learning from human feedback). في هذه التقنية، يخضع النموذج للتدريب على إنتاج نص يشبه إلى حد كبير النوع الذي يقول المختبرون البشر إنهم يفضلونه. وفي تقنية آر إل سي إي، يخضع النموذج للتدريب على إنتاج رموز برمجية تشبه إلى حد كبير النوع الذي ينفذ المهمة المطلوبة منه عند تشغيله (أو تنفيذه).
التلاعب بالنظام
تقول كلتا الشركتين كوساين وبولسايد إنهما استلهمتا في عملهما الأسلوب الذي اتبعته جوجل ديب مايند مع نموذجها الذي يمارس الألعاب ألفا زيرو (Alphazero). فقد لقمت الشركة النموذج بالخطوات التي يمكن أن يتخذها، أي الحركات الممكنة في لعبة ما، وتركته يلعب ضد نفسه مراراً وتكراراً، حتى يميز من خلال التجربة والخطأ بين تسلسل الحركات الذي يؤدي إلى الفوز وتسلسل الحركات الذي يؤدي إلى الخسارة.
يقول العالم المؤسس في بولسايد، بينغمينغ وانغ: "لقد سمحوا للنموذج باستكشاف الحركات في كل فرصة ممكنة، ومحاكاة أكبر عدد ممكن من الألعاب التي يستطيع محاكاتها. وقد أدى هذا إلى التغلب على لي سيدول"، في إشارة منه إلى الأستاذ الكبير الكوري في لعبة غو، الذي تغلب عليه ألفا زيرو في 2016. قبل بولسايد، كان وانغ يعمل في جوجل ديب مايند على تطبيقات تتجاوز نطاق الألعاب اللوحية لألفا زيرو، بما في ذلك فن سيرتش (Fun Search)، وهو نسخة مدربة على حل المسائل الرياضية العالية المستوى.
عندما يُطبق أسلوب ألفا زيرو هذا في البرمجة، فإن الخطوات المتخذة لإنتاج كتلة من الرموز البرمجية -أي الأثر الذي يجب اقتفاؤه- تصبح هي الحركات المتاحة في لعبة ما، ويصبح البرنامج الصحيح هو الفائز في تلك اللعبة. إذا تُرك النموذج يلعب بمفرده، يستطيع أن يحسن أداءه على نحو أسرع بكثير من البشر. يقول كانت: "يستطيع المبرمج البشري أن يجرب خطوة معينة ويفشل فيها مرة واحدة فقط في الوقت نفسه، أما النماذج فتستطيع أن تجرب الخطوات 100 مرة في الوقت نفسه".
أحد الاختلافات الرئيسية بين كوساين وبولسايد هو أن كوساين تستخدم نسخة مخصصة من النموذج "جي بي تي 4 أو" (GPT-4o) زودتها بها أوبن أيه آي، ما يجعل من الممكن تدريبها على مجموعة بيانات أكبر مما يستطيع النموذج الأساسي التعامل معه، غير أن بولسايد تعمل على بناء نموذجها اللغوي الكبير الخاص من الصفر.
يعتقد كانت من بولسايد أن تدريب نموذج على الرموز البرمجية من البداية سيعطي نتائج أفضل من تعديل نموذج موجود مسبقاً لم يتدرب فقط على مليارات الكتل من الرموز البرمجية وحسب، بل على معظم محتوى الإنترنت أيضاً. ويقول: "ليست لدي مشكلة على الإطلاق إذا نسي نموذجنا المعلومات التي تعلّمها حول البنية التشريحية للفراشات".
تزعم كوساين أن مساعدها البرمجي التوليدي، الذي يحمل اسم "جيني" (Genie)، يتصدر لوحة المتصدرين على منصة الاختبارات المعيارية "إس دبليو إي بينش" (SWE-Bench)، وهو مجموعة معيارية من الاختبارات المخصصة لنماذج البرمجة. أما بولسايد فهي ما تزال في طور بناء نموذجها، لكنها تزعم أن نسختها الحالية من النموذج تضاهي منذ الآن نموذج كوبايلوت من غيت هاب من حيث الأداء.
يقول كانت: "شخصياً، لدي اعتقاد راسخ بأن النماذج اللغوية الكبيرة ستوصلنا إلى مرحلة تصبح فيها قدراتنا تضاهي قدرات مطوري البرمجيات من البشر".
لكن لا يتبنى الجميع هذا الرأي.
اقرأ أيضاً: 10 نصائح من سدايا لتحقيق أعظم استفادة من النماذج اللغوية الكبيرة
النماذج اللغوية الكبيرة غير المنطقية
بالنسبة إلى مؤسس شركة ميرلي ورئيسها التنفيذي، جستن غوتشليش، فإن النماذج اللغوية الكبيرة ليست الأداة المناسبة لهذا العمل، على الإطلاق. ويستخدم كلبه مثالاً لتوضيح رأيه حيث يقول: "مهما تدرب كلبي فلن يصبح قادراً على البرمجة، لن يحدث هذا على الإطلاق. فهو قادر على فعل أشياء أخرى كثيرة، لكنه ببساطة عاجز عن الوصول إلى هذا المستوى العميق من الإدراك".
عمل غوتشليش في مجال توليد الرموز البرمجية أكثر من عقد من الزمن، ولهذا فهو يواجه النقاط الشائكة ذاتها مع النماذج اللغوية الكبيرة. فالبرمجة تتطلب القدرة على العمل من خلال حل الأحاجي المنطقية بدقة فائقة. ومهما تعلمت النماذج اللغوية الكبيرة أن تكون بارعة في محاكاة عمل المبرمجين البشر، فإنها تبقى في جوهرها مجرد آلات لألعاب الحظ، كما يقول: "لا أستطيع أن أدرب نظاماً غير منطقي كي يصبح منطقياً".
بدلاً من تدريب نموذج لغوي كبير على توليد الرموز البرمجية من خلال تلقيمه بالكثير من الأمثلة، تمتنع ميرلي تماماً عن تزويد نظامها بأي أمثلة عن رموز برمجية كتبها البشر؛ لأن بناء نموذج قادر حقاً على توليد الرموز البرمجية، كما يقول غوتشليش، يتطلب العمل على مستوى المنطق الأساسي الذي تمثله الرموز البرمجية، لا على مستوى الرموز نفسها. ولهذا، دربت ميرلي نظامها على تمثيل وسيط، وهو شيء يشبه مجموعة الرموز (التدوين) التي يمكن للآلة قراءتها والتي يترجَم إليها معظم لغات البرمجة قبل تشغيلها.
يرفض غوتشليش توضيح عمل هذا النظام بالضبط أو تفاصيل سير العملية. لكنه يطرح تشبيهاً له: هناك فكرة رياضية مفادها أن الأعداد الوحيدة التي يجب أن تكون موجودة هي الأعداد الأولية، لأنه يمكن حساب الأعداد الأخرى كلها باستخدام الأعداد الأولية فقط. ويقول: "يمكن تطبيق هذا المفهوم نفسه على الرموز البرمجية".
لا يقتصر الأمر على أن هذا الأسلوب يفضي مباشرة إلى منطق البرمجة وحسب، بل إنه سريع أيضاً، حيث يمكن تقليص الملايين من الأسطر البرمجية إلى بضعة آلاف من الأسطر من اللغة الوسيطة قبل أن يحللها النظام.
تغيير طرق التفكير
ما تفكر فيه بشأن هذه الأساليب المتنافسة قد يعتمد على ما تريده من مساعدات البرمجة التوليدية.
في نوفمبر/تشرين الثاني، حظرت كوساين على مهندسيها استخدام أدوات من غير منتجاتها. وهي تلاحظ الآن أثر جيني على مهندسيها، الذين غالباً ما يجدون أنفسهم يراقبون الأداة وهي تعمل على كتابة الرموز البرمجية لهم. يقول أحد مؤسسي كوساين، يانغ لي: "الآن، أنت تقدم للنموذج النتيجة التي ترغب فيها، ثم يمضي قدماً ويهتم بالعملية التنفيذية نيابة عنك".
يعترف بولين بأن هذا الأسلوب قد يكون محيراً، ويتطلب تغيير طريقة التفكير. ويقول: "لدينا مهندسون ينفذون مهام متعددة في الوقت نفسه، وهم يتنقلون بين مجموعة من النوافذ المختلفة على الشاشة بسرعة. وفيما يعمل جيني على تشغيل الرموز البرمجية في نافذة ما، من الممكن أن يطلبوا منه تنفيذ مهمة أخرى في نافذة أخرى".
تتيح هذه الأدوات أيضاً إمكانية إنشاء نماذج أولية لنسخ متعددة من نظام ما في الوقت نفسه. لنفترض أنك تعمل على تطوير برنامج يحتاج إلى نظام مدمج للمدفوعات ضمنه. يمكنك أن تطلب من مساعد البرمجة أن يجرب العديد من الخيارات المختلفة في الوقت نفسه، مثل سترايب (Stripe) ومانغو (Mango) وتشيك آوت (Chekout)، بدلاً من أن تضطر إلى برمجتها يدوياً واحداً تلو الآخر.
يمكن للمبرمج أن يعهد إلى جيني بمهمة تصحيح الأخطاء البرمجية على مدار الساعة. تستخدم أغلبية الفرق البرمجية أدوات الإبلاغ عن الأخطاء البرمجية التي تتيح للمبرمجين تحميل توصيفات الأخطاء التي يواجهونها إلى الإنترنت. يستطيع جيني أن يقرأ هذه التوصيفات ويتوصل إلى الحلول، ويبقى على المبرمج البشري أن يراجعها فقط قبل تحديث النص البرمجي الأساسي.
يقول لي إنه لا يمكن لأي مبرمج بشري وحده أن يفهم تريليونات الأسطر من الرموز البرمجية في أكبر أنظمة البرمجيات اليوم، ويقول: "ومع زيادة عدد البرمجيات التي تكتبها برمجيات أخرى، ستزداد كمية الرموز البرمجية باستمرار".
لهذا، ستصبح المساعدات البرمجية التي تحافظ على جودة هذه الرموز البرمجية نيابة عنا مهمة للغاية. يقول لي: "ستصبح سرعة البشر في مراجعة الرموز البرمجية التي ولدتها الآلات عائقاً يواجه عملية البرمجة".
ما هو رأي مهندسي كوساين بكل هذا؟ إنهم يشعرون بالرضا، وفقاً لبولين على الأقل. ويقول: "إذا طرحت عليك معضلة صعبة، فما زلت مضطراً للتفكير في كيفية وصف هذه المشكلة للنموذج. وبدلاً من كتابة الرموز البرمجية، يجب عليك أن تكتب هذا الوصف باللغة الطبيعية. لكن ما زالت هذه العملية تتطلب الكثير من التفكير، ما يعني أن متعة الهندسة ما زالت موجودة، وما زال بالإمكان إشباع الرغبة في التفكير وحل المعضلات".
قد يتكيف بعض المبرمجين أسرع من الآخرين. وتحب كوساين أن تدعو الأشخاص المرشحين للعمل لديها إلى إمضاء بضعة أيام لمزاولة الأعمال البرمجية مع فريقها. وقبل بضعة أشهر، طلبت الشركة من أحد هؤلاء المرشحين أن يبني برنامجاً صغيراً يتيح للموظفين مشاركة الأجزاء البرمجية الرائعة التي يعملون عليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لم تكن المهمة سهلة، إذ كانت تتطلب معرفة عملية بعدة أقسام من بين ملايين السطور من الرموز البرمجية لدى كوساين. لكن المرشح تمكن من إنجاز المهمة في غضون ساعات. يقول لي: "وصل هذا الشخص الذي لم يسبق له أن رأى نصوصنا البرمجية الأساسية من قبل إلى مقر الشركة يوم الاثنين، وبحلول عصر يوم الثلاثاء قدم منتجاً برمجياً. لقد ظننّا أن المهمة ستجعله يعمل طوال الأسبوع" (من الجدير بالذكر أن الشركة وظّفته).
لكن ثمة منظوراً آخر أيضاً. فسوف تستخدم شركات عديدة هذه التكنولوجيا لتقليص عدد المبرمجين الذين توظفهم. ويعتقد لي أننا سنرى قريباً ظهور عدة مستويات من مهندسي البرمجيات. فمن جهة، سيكون هناك نخبة المطورين برواتب تصل إلى ملايين الدولارات، من القادرين على تشخيص المشاكل عندما يخطئ نظام الذكاء الاصطناعي. ومن جهة أخرى، ستكون هناك فرق أصغر يضم كل منها من 10 إلى 20 شخصاً ممن سيتولون مهمة كانت تتطلب في السابق المئات من المبرمجين. يقول لي: "سيكون الأمر أشبه بكيفية تحويل أجهزة الصراف الآلي للخدمات المصرفية عند ابتكارها".
ويضيف قائلاً: "أي شيء تريد تنفيذه سوف يتحدد من خلال الحوسبة، لا من خلال عدد المبرمجين. وأعتقد أنه أصبح من المقبول عموماً أن الحقبة التي كنا نضيف فيها بضعة آلاف من المهندسين إلى المؤسسة قد انتهت".
اقرأ أيضاً: لماذا يمثّل النموذج «أو 3» إنجازاً مهماً في الطريق نحو الذكاء الاصطناعي العام؟
محركات فائقة السرعة
في الواقع، يعتقد غوتشليش أن الآلات التي يمكنها التفوق على البشر في البرمجة ستصبح مهمة جداً. وبالنسبة له، هذه هي الطريقة الوحيدة التي سنبني بها الأنظمة البرمجية الضخمة والمعقدة التي يعتقد أننا سنحتاج إليها في نهاية المطاف. وعلى غرار الكثيرين في وادي السيليكون، يتوقع مستقبلاً سينتقل فيه البشر إلى كواكب أخرى. ولن يكون هذا ممكناً إلا إذا نجحنا في بناء أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على بناء البرمجيات المطلوبة. ويقول: "الهدف الحقيقي لشركة ميرلي هو نقل البشر إلى المريخ".
يفضل غوتشليش أن يتحدث عن "آلات البرمجة" بدلاً من "مساعدات البرمجة"، لأنه يعتقد أن هذا المصطلح يؤطر المشكلة بطريقة خاطئة. ويقول: "لا أعتقد أن هذه الأنظمة يجب أن تساعد البشر، بل أعتقد أن البشر يجب أن يساعدوا هذه الأنظمة. فهذه الأنظمة قادرة على العمل بسرعة الذكاء الاصطناعي، فلماذا نقيد قدراتها الكامنة؟"
يقول غوتشليش: "في مسلسل الرسوم المتحركة "عائلة فلينستونز" (The Flinstones)، تمتلك شخصيات المسلسل سيارات من نوع خاص، لكن هذه السيارات تتحرك فقط عندما يحرك سائقوها أقدامهم. وهذا ما أشعر به عندما يستخدم معظم الناس الذكاء الاصطناعي لأنظمة البرمجيات".
ويضيف قائلاً، دون أي مزاح: "ما تبنيه ميرلي عملياً هو سفن فضائية. وأعتقد أن السفن الفضائية يجب ألا تستمد طاقتها من بشر يركبون الدراجات، بل من محركات عالية السرعة".
لا شك في أن هذا يبدو غريباً للغاية. لكن ثمة مسألة جدية يجب توضيحها حول وجهة نظر الناس الذين يبنون هذه التكنولوجيا إزاء الهدف النهائي الفعلي من بنائها.
لا يمثل غوتشليش حالة فريدة من حيث وجهة نظره المرتبطة بالفضاء الخارجي. فعلى الرغم من تركيز هذه الشركات على المنتجات التي سيرغب المطورون في استخدامها حالياً، فإن معظمها يتطلع إلى تحقيق مكاسب أكبر بكثير. عند زيارة موقع الويب الخاص بشركة كوساين، ستجد أنها تقدم نفسها بوصفها "مختبراً للتفكير البشري". وهي تنظر إلى البرمجة بوصفها مجرد خطوة أولى نحو بناء نموذج ذي أغراض أكثر عمومية يمكنه محاكاة قدرات حل المشاكل لدى البشر في عدد من المجالات المختلفة.
تسعى بولسايد إلى تحقيق أهداف مماثلة، فهي تقول بصورة مباشرة إنها تعمل على بناء ذكاء اصطناعي عام. يقول كانت: "البرمجة هي وسيلة لإضفاء طابع رسمي على التفكير".
يستشهد وانغ بالمنظومات الوكيلة (agents). لنتخيل نظاماً (وهي المنظومة الوكيلة هنا) يستطيع تشغيل برنامجه الخاص لتنفيذ أي مهمة على الفور، على حد تعبيره، ويقول: "إذا وصلت إلى مرحلة تستطيع فيها منظومتك الوكيلة حقاً أن تحل أي مهمة تتعلق بالحوسبة تطلبها منها عبر البرمجيات، فهذا يمثل عملياً عرضاً لقدرات ذكاء اصطناعي عام".
هنا على الأرض، قد تظل مثل هذه الأنظمة مجرد أحلام بعيدة المنال. وعلى الرغم من هذا، فإن هندسة البرمجيات تشهد تغييرات أسرع بكثير مما توقعه كثيرون ممن يعملون على أحدث التقنيات في هذا المجال.
يقول بولين من كوساين: "لم نصل بعد إلى مرحلة تتولى فيها الآلات إنجاز كل شيء، لكننا بدأنا نبتعد بالتأكيد عن الدور المألوف لمهندس البرمجيات. فنحن نشهد لمحات من مسار العمل الجديد هذا، أي: ما الذي يعنيه أن تكون مهندس برمجيات في المستقبل؟".