يشهد مشهد المدفوعات الرقمية الفورية تغيراً سريعاً، لا سيما في منطقة دول الخليج، مدفوعاً بانتشار عالٍ للهواتف الذكية ومبادرات حكومية داعمة وازدهار التجارة الإلكترونية، إذ أفاد البنك المركزي السعودي بأن 79% من معاملات الدفع كانت إلكترونية عام 2024 مقارنة بنسبة 70% عام 2023، وبالمثل في الإمارات العربية المتحدة تشكل المدفوعات اللاتلامسية الآن نحو 84% من المعاملات جميعها.
أصبح الاستخدام الواسع للمحافظ الرقمية ومنصات الدفع الفوري في دول الخليج المحرك الرئيسي لتحول ثقافي واقتصادي متنامٍ وفقاً لتقرير من البنك الدولي، إذ غير هذا التحول تجربة المواطن اليومية جذرياً وأبعده بسرعة عن الثقافة التقليدية التي تعتمد على النقد.
فبدلاً من الوقوف في طوابير أمام البنك أو الصراف الآلي لسحب الأموال أو تحويلها، أصبح الأمر سهلاً عبر الهاتف الذكي على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع وبشكل شبه فوري. ولكن هل يعني هذا نهاية البنوك التقليدية كما نعرفها؟ وهل يمكنها الصمود أمام هذه المنافسة الشرسة؟
تغيير جذري: لماذا تعد المحافظ الإلكترونية والمدفوعات الفورية الخيار الأمثل للكثيرين؟
تحظى المحافظ الرقمية ومنصات الدفع الفوري بنجاح كبير لأنها توفر تجربة عملاء فائقة الجودة تتميز بالراحة والسرعة والتكامل السلس مع الحياة اليومية. علاوة على ذلك، غالباً ما توفر تكاليف معاملات أقل على التجار مقارنة برسوم بطاقات الائتمان التقليدية، ما يشجع على التبني الواسع.
ففي الإمارات العربية المتحدة، من المتوقع أن يرتفع استخدام المحافظ الرقمية في تجارة التجزئة عبر الإنترنت إلى نحو 42% بحلول عام 2027، متجاوزاً بطاقات الائتمان. كما تتوقع المملكة العربية السعودية نمواً مماثلاً، حيث من المتوقع أن يرتفع استخدام المحافظ الرقمية إلى نحو 36% لتجارة التجزئة خلال الفترة نفسها.
ويعود هذا التحول الجذري إلى بعض المزايا الرئيسية التي توفرها منها:
التحويلات الفورية: على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع
يمكنك إرسال الأموال أو استلامها في أي وقت، إذ تتيح شبكات الدفع الحديثة تحويل الأموال فوراً (بالثواني)، مع توفر الخدمة على مدار الساعة. على النقيض من ذلك، غالباً ما تعمل التحويلات البنكية التقليدية فقط خلال ساعات العمل الرسمية، وقد تستغرق من يوم إلى خمسة أيام.
راحة مدمجة: جمع كل شيء على هاتفك
مثل بطاقات الائتمان والخصم، وبطاقات الولاء والمكافآت والتذاكر وحتى بطاقات الصعود إلى الطائرة. يعد هذا النهج القائم على تطبيق واحد أكثر ملاءمة بكثير من الاحتفاظ بمحافظ مليئة بالبطاقات البلاستيكية أو التنقل بين تطبيقات مصرفية متعددة.
تطبيق فائق: لا تكتفِ بالدفع فقط
في بعض الدول مثل الصين تعد المحافظ الرقمية جزءاً من تطبيقات فائقة تقدم كل شيء، كما بدأت تظهر في الشرق الأوسط اتجاهات مماثلة. على سبيل المثال، تهدف محفظة إس تي سي باي في السعودية إلى أن تكون مركزاً مالياً متكاملاً لتسهيل الحياة اليومية، ومن ثم بمجرد أن تدير محفظة رقمية وجباتك وتسوقك وتنقلاتك، ستعتبرها ضرورية، وهو أمر لا يمكن لحسابك المصرفي التقليدي فعله بسهولة.
الشمول المالي: سهولة فتح الحسابات والوصول
لا تحتاج إلى حساب مصرفي كامل أو درجة ائتمان عالية لاستخدام العديد من المحافظ الإلكترونية. غالباً ما يكفي هويتك الوطنية أو رقم هاتف من أجل التسجيل، ثم البدء على الفور بإرسال الأموال واستقبالها، ما يخفف العوائق أمام الأشخاص غير المتعاملين مع البنوك أو الذين يواجهون صعوبة في فتح حسابات تقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، توفر المحافظ الرقمية ميزة اقتصادية واضحة. ففي بعض المحافظ الرقمية تكون رسوم التحويلات الفورية رمزية جداً أو تكون مجانية تماماً، ما يتناقض بشكل كبير مع الرسوم الثابتة أو السنوية التي تفرضها البنوك التقليدية، ويشجع هذا المستهلكين والتجار على استخدامها.
اقرأ أيضا: قوة التكنولوجيا: السر وراء صعود شركات التكنولوجيا المالية
إذا كانت المحافظ الرقمية بهذه الكفاءة، فلماذا لا تزال البنوك التقليدية موجودة حتى الآن؟
يكمن الجواب في ميزتين دائمتين تقدمهما البنوك التقليدية هما: أولاً الأمن الرقمي، وثانياً الحماية التنظيمية، واللتان تعتبران ميزتين مستدامتين تفتقر إليهما المحافظ الرقمية ومنصات المدفوعات الفورية. لذا تظل البنوك التقليدية الحصن المالي الأفضل.
فهي خاضعة لرقابة البنوك المركزية، وتوفر آليات تأمين للودائع، وتمتلك أنظمة متطورة لمكافحة غسيل الأموال والامتثال المالي العالمي. وبالنسبة للمعاملات عالية القيمة أو الادخار طويل الأجل تظل هاتان النقطتان: الإطار التنظيمي والأمني، الميزتين الأقوى للبنوك التقليدية واللتين يصعب على شركات التكنولوجيا المالية محاكاتهما بالكامل.
ماذا تفعل البنوك التقليدية للصمود أمام هذه المنافسة الشرسة؟
تدرك البنوك التقليدية أن التهديد حقيقي، فهي ترى المحافظ الإلكترونية تنجح بصورة كبيرة في جذب المستهلكين الشباب، خاصة جيل زد وجيل الألفية المتمرس في استخدام التكنولوجيا، وتفضيلهما القوي لطرق الدفع الرقمية مدفوعين بعوامل مثل الراحة، والأمان، والتكامل مع أسلوب الحياة الذي يعتمد على الهاتف المحمول.
لذا فهي لم تقف مكتوفة الأيدي، بدلاً من ذلك تسارع معظم البنوك التقليدية إلى التحول بأربع طرق رئيسية هي:
1. تحديث الخدمات المصرفية الأساسية
تنفق البنوك مليارات الدولارات على تحديث أنظمة تكنولوجيا المعلومات القديمة وإطلاق خدماتها الخاصة التي تركز على الهواتف المحمولة، إذ توجد الآن العديد من البنوك الكبرى التي تقدم منصات الدفع الفوري الخاصة بها وتطبيقاتها المبتكرة.
على سبيل المثال، تدعم البنوك السعودية الآن نظام "سريع" الوطني للدفع الفوري، وقد حُدث وأطلق عام 2021، وهو يتيح لأي عميل تحويل الأموال في الوقت الفعلي على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، حتى باستخدام رقم هاتف أو عنوان بريد إلكتروني.
وبالمثل، أصلق البنك المركزي في الإمارات تطبيق "آني" عام 2023 لإجراء معاملات رقمية فورية وآمنة على مدار الساعة بين الأفراد والشركات والجهات الحكومية باستخدام رقم الهاتف المحمول أو عنوان البريد الإلكتروني أو رمز الاستجابة السريعة للمستلم فقط.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن تسهم التقنية المالية في إدارة المخاطر في المؤسسات المالية؟
2. الشراكات مع شركات التكنولوجيا المالية أو الاستحواذ عليها
لا تحاول البنوك التقليدية إعادة اختراع كل شيء بنفسها، بدلاً من ذلك يتعاون الكثير منها مع شركات التكنولوجيا المالية أو حتى تستحوذ عليها، لتقديم خدمات جديدة بسرعة. على سبيل المثال، قد تدمج البنوك التقليدية محفظة رقمية محلية شائعة ضمن عروضها، أو تتيح للشركات الناشئة استخدام بنيتها التحتية المصرفية أو ما يسمى "الخدمات المصرفية ذات العلامة البيضاء".
من الأمثلة اللافتة للنظر شركة "تيكمو"، وهي محفظة رقمية سعودية أطلقت عام 2020 تعاونت مع شركة ماستركارد وبنوك محلية للوصول إلى 2.5 مليون مستخدم بسرعة. حيث تمكنت بفضل الإطار التنظيمي الواضح في السعودية من التركيز على تجربة المستخدم واستقطاب العملاء، مع الاستفادة من الشبكة المملوكة للبنوك لأغراض الأمن الرقمي.
وذلك يعود إلى أن البنوك التقليدية تدرك أن التعاون مع شركات التكنولوجيا المالية النشيطة أو إنشاء وحدات "الخدمات المصرفية كخدمة" الخاصة بها، يمكن أن يسرع الابتكار، إذ تتيح لها تخفيف عبء التطوير التقني واكتساب وظائف جديدة، فقد تطرح أحد البنوك التقليدية خيار تمويل نقاط البيع الذي طورته شركة تكنولوجيا مالية أو محفظة رقمية ذات علامة تجارية مشتركة، دون الحاجة إلى إنفاق المال والوقت على إنشاء حل جديد من الصفر.
اقرأ أيضاً: ما بعد كوفيد-19: كيف يبدو مستقبل التكنولوجيا المالية؟
3. الخدمات المصرفية المفتوحة: تحويل البنوك إلى منصات
غالباً ما تجبر الجهات التنظيمية البنوك التقليدية على الانفتاح. على سبيل المثال، طرحت كل من الجهات التنظيمية المالية في السعودية والإمارات مؤخراً أطر عمل للخدمات المصرفية المفتوحة تلزم البنوك بالكشف عن حسابات العملاء وبيانات الدفع (بإذن) لتطبيقات الطرف الثالث عبر واجهات برمجة تطبيقات آمنة.
هذا يعني أن على بنكك الآن السماح لتطبيقات شركات التكنولوجيا المالية بالوصول إلى سجل معاملاتك، أو بدء المدفوعات نيابةً عنك -إذا وافقت على ذلك- والنتيجة هي أن البنوك التقليدية تصبح منصات مدفوعات رقمية حديثة وشريكاً موثوقاً: فهي تخزن الأموال والهوية الحقيقية، بينما تنشأ حولها مجموعة كبيرة من التطبيقات والخدمات.
بالنسبة لك، قد يعني هذا استخدام تطبيقات متعددة سهلة الاستخدام ترتبط جميعها بحسابك المصرفي الأساسي. أما بالنسبة للبنوك فهذا يعني أنها بحاجة إلى التكيف من كونها "المنتج" الوحيد للمنتجات المالية إلى أن تصبح جزءاً من نظام بيئي أوسع كمنسق أو منصة قائمة بذاتها، ما يجبرها على التنافس في مجال الابتكار التكنولوجي المالي.
4. إطلاق عملات رقمية بالتنسيق مع الجهات التنظيمية
تستكشف البنوك المركزية جميعها حول العالم تقريباً، بما في ذلك تلك الموجودة في المنطقة العربية، عملاتها الرقمية الخاصة التي قد تعيد صياغة المدفوعات بشكل كبير. إذ نجد في العديد من التجارب توزيع العملة الرقمية للبنوك المركزية من خلال البنوك التجارية التقليدية أو شركاء التكنولوجيا المالية المعتمدين.
اقرأ أيضاً: كيف أصبحت الصين الرائدة في التكنولوجيا المالية؟ ولماذا يعجز الغرب عن اللحاق بها؟
على سبيل المثال، تخطط الإمارات لإطلاق "الدرهم الرقمي" في الربع الرابع من العام الحالي 2025، حيث من المخطط أن يعتمد البنك المركزي الإماراتي على البنوك ومنصات التداول وشركات التكنولوجيا المالية لتوزيع محافظ العملة الرقمية وإدارتها، ما يجعلها بمثابة البوابات الرئيسية لاستخدامها.
في المملكة العربية السعودية، يطلق البنك المركزي أيضاً مشاريع تجريبية للعملات الرقمية ولم تحدد موعداً محدداً لإطلاق عام حتى الآن، في كلتا الحالتين تراقب البنوك التقليدية من كثب وغالباً ما تشارك في هذا المجال، حيث تنضم بعضها إلى اتحادات لبناء منصات العملات الرقمية للبنوك المركزية أو تستكشف عملاتها الرقمية الخاصة بالتنسيق مع الجهات التنظيمية بدلاً من التنازل عن مستقبل المدفوعات بالكامل لشركات المدفوعات الفورية الناشئة.
اقرأ أيضاً: الدروس المستفادة من تجربة دولة الإمارات في صناعة السياسات التقنية المواكبة للثورة الصناعية الرابعة
مستقبل المدفوعات لا يتكون من نظام فائز واحد بل نظام بيئي هجين
لن يكون المستقبل "بنوكاً تقليدية ضد محافظ رقمية" بقدر ما هو "بنوك تقليدية ومحافظ رقمية"، إذ من المرجح أن يستخدم كل منهما في مجاله الأمثل. في إنفاقك اليومي من المتوقع أن تستخدم هاتفك أو ساعتك الذكية لدفع ثمن مشترياتك أو فواتير الخدمات ببضع نقرات.
هذه هي اللحظات التي تصبح فيها السرعة والسهولة بالغة الأهمية، حيث من المتوقع أن تهيمن المحافظ الرقمية وتطبيقات الدفع الفورية على هذه المعاملات الصغيرة، لأن هذا ما صممت من أجله؛ دفعات عند الطلب على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع بأقل قدر من الاحتكاك.
لتلبية احتياجاتك المالية الكبيرة مثل قرض لشراء منزل أو بدء مشروع تجاري، ستظل تلجأ إلى البنوك التقليدية المصممة لضمان تلبية مثل هذه العمليات الضخمة والمعقدة، لما تمتلكه من خبرة وحماية تنظيمية، ونطاق عمل واسع.
اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن العملة الرقمية سولانا؟ وهل تعد آمنة للاستثمار فيها؟
ماذا يعني ذلك لك: استمر في الاستمتاع بسرعة المحافظ الرقمية والتطبيقات الفورية للمدفوعات والتحويلات الصغيرة، التي ستزداد سرعة وانتشاراً، ولكن أيضاً احتفظ بأموالك طويلة الأجل في البنوك المنظمة، لأنها ستظل حجر الزاوية في القرارات المالية الكبيرة.
إذ إنه في النهاية ستكون أنجح البنوك هي التي تجمع بين نقاط قوتها التقليدية مثل التنظيم والأمن الرقمي، والتجربة الرقمية السلسة التي تتوقعها من شركة تكنولوجيا مالية، ومن ثم فإن البنوك التقليدية ليس من المتوقع أن تختفي في المستقبل القريب بل ستتطور فقط. وأنت، كمستهلك، ستكون أكبر المستفيدين من الابتكار والخيارات التي توفرها هذه المنافسة.