فيما يتزايد انتشار الجائحة وتتصاعد عواقبها الوخيمة، بلغت مشاكل التحيز العنصري والاستقطاب السياسي المزمنة ذروتها. وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على مساعدتنا في التعامل مع هذه التحديات، إلا أن مخاطره باتت واضحة بشكل متزايد. وقد أوضحت الدراسات وجود حالات تنطوي على غموض يكتنف عمل الذكاء الاصطناعي وافتقاره للقدرة على التفسير، ووجود خيارات تصميم تؤدي إلى تحيزات وآثار سلبية على رفاهية الأفراد وتفاعلاتهم الاجتماعية، إضافة إلى تغيرات في ديناميكيات القوة بين الأفراد والشركات والدولة، الأمر الذي يساهم في تنامي أوجه عدم المساواة. وإن تطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه بطرق جيدة أو ضارة يعتمد إلى حد كبير على الأطر القانونية التي تحكمه وتنظمه.
ينبغي أن يكون هناك مبدأ توجيهي جديد لتنظيم الذكاء الاصطناعي، ألا وهو مبدأ الحياد القانوني للذكاء الاصطناعي، الذي يؤكد على أن القانون ينبغي ألا يميل إلى التمييز بين الذكاء الاصطناعي والسلوك البشري. وفي الوقت الراهن، لا يتوخى النظام القانوني الحياد، فقد يكون الذكاء الاصطناعي الأكثر أماناً بشكل كبير من الإنسان هو الخيار الأفضل لقيادة السيارة، إلا أن القوانين الحالية قد تحظر المركبات ذاتية القيادة. كما يُمكن للإنسان أن يصنع سلعاً أعلى جودة مما يصنعه الروبوت وبتكلفة مماثلة، لكن الشركة قد تلجأ لأتمتة العمل لأنها توفر الضرائب. وقد يكون الذكاء الاصطناعي أفضل في استحداث أنواع معينة من الابتكارات، إلا أن الشركات قد لا ترغب في استخدامه إذا كان هذا الأمر يقيد امتلاكها لحقوق الملكية الفكرية. وفي جميع هذه الحالات، من شأن المعاملة القانونية المحايدة أن تعود بالفائدة في نهاية المطاف على رفاهية الإنسان من خلال مساعدة القانون على تحقيق أهداف سياسته الأساسية على نحو أفضل.
ولنتأمل هنا النظام الضريبي الأميركي. يمارس الذكاء الاصطناعي والبشر نفس أنواع الأنشطة الإنتاجية التجارية، لكن الشركات التي يعملون لديها تخضع للضرائب على نحو مختلف اعتماداً على فكرة (من الذي يؤدي العمل، الإنسان أم الذكاء الاصطناعي؟). على سبيل المثال، تسمح الأتمتة للشركات بتجنب الضرائب المفروضة على أجور أرباب العمل. لذا، إذا كان بوت الدردشة يكلف الشركة -قبل الضرائب- نفس تكلفة الموظف الذي يؤدي نفس الوظيفة (أو حتى أكثر قليلاً)، فإن الأتمتة في الواقع تكلف الشركة أقل بعد الضرائب.
وبالإضافة إلى تجنب الضرائب المفروضة على الأجور، يُمكن للشركات أن تُعجّل استفادتها من الخصومات الضريبية لبعض أنظمة الذكاء الاصطناعي عندما تشتمل على مكون مادي أو تندرج ضمن استثناءات معينة تتعلق بالبرمجيات. بعبارة أخرى، يُمكن لأرباب العمل المطالبة بالحصول على نسبة كبيرة من تكاليف بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي مقدماً على هيئة خصم ضريبي. وختاماً، يتلقى أرباب العمل أيضاً مجموعة متنوعة من الحوافز الضريبية غير المباشرة عند الأتمتة. باختصار، على الرغم من أن قوانين الضرائب لم تُصمم لتشجيع الأتمتة، إلا أنها تنحاز للذكاء الاصطناعي على حساب البشر؛ لأن العمل يخضع لضريبة أكبر من تلك المفروضة على رأس المال.
ثم إن الذكاء الاصطناعي لا يدفع الضرائب! تُشكل الضرائب التي تُفرض على الدخل والعمالة أكبر مصادر الإيرادات بالنسبة للحكومة؛ إذ يمثلان معاً ما يقرب من 90% من إجمالي الإيرادات الضريبية الفدرالية. ولا يقتصر الأمر على أن الذكاء الاصطناعي لا يدفع ضرائب الدخل أو يولد ضرائب العمالة فحسب، بل إنه لا يشتري أيضاً السلع والخدمات، لذا فإنه لا يُسدد ضرائب المبيعات، ولا يشتري أو يتملك عقارات لذا فإنه لا يدفع ضرائب عقارية. ببساطة، الذكاء الاصطناعي لا يعد دافع ضرائب، وإذا تمت أتمتة جميع الأعمال غداً، فإن معظم القاعدة الضريبية ستختفي على الفور.
وعندما تتحول الشركات إلى الأتمتة، تخسر الحكومة الإيرادات التي قد تصل إجمالاً إلى مئات المليارات من الدولارات. وقد يحد هذا الأمر بشكل كبير من قدرة الحكومة على تحمل تكاليف أشياء مثل الضمان الاجتماعي والدفاع الوطني والرعاية الصحية. وإذا حصل الناس في نهاية المطاف على وظائف مماثلة، فستكون خسائر الإيرادات مؤقتة فقط. أما إذا كان فقدان الوظائف أمراً دائماً، فلا بد من تغيير الهيكل الضريبي بأكمله.
انطلق النقاش حول فرض ضرائب على الروبوتات عام 2017، بعدما رفض البرلمان الأوروبي اقتراحاً للنظر في فرض ضريبة على الروبوتات، وفي وقت لاحق عبر بيل جيتس عن تأييده لفكرة فرض ضريبة. وقد باتت هذه المسألة أكثر أهمية اليوم؛ إذ تتحول الشركات إلى استخدام الروبوتات بسبب المخاطر المرتبطة بالجائحة التي يتعرض لها العمال. وتتساءل العديد من الشركات: لماذا لا نستهدم الآلات بدلاً من الناس؟
لا ينبغي تثبيط عملية الأتمتة من حيث المبدأ، ولكن من الأهمية بمكان وضع سياسات محايدة ضريبياً لتجنب دعم الاستخدامات غير الفعالة للتكنولوجيا ولضمان تدفق الإيرادات الحكومية. فالأتمتة بغرض تحقيق وفورات ضريبية قد لا تؤدي إلى زيادة إنتاجية الشركات أو تحقيق أي فوائد للمستهلك، كما أنها قد تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية لتقليل الأعباء الضريبية، وهو أمر غير مفيد على المستوى الاجتماعي.
الميزة التي يوفرها الحياد الضريبي بين البشر والذكاء الاصطناعي هي أنه يسمح للسوق بالتكيف دون حدوث تشوهات ضريبية؛ لذا ينبغي على الشركات ألا تتحول إلى الأتمتة إلا إذا كانت أكثر كفاءة أو إنتاجية. ونظراً لأن النظام الضريبي الحالي ينحاز للأتمتة، فإن التحرك صوب إرساء نظام ضريبي محايد من شأنه أن يزيد من جاذبية استخدام العمال. وإذا ثبتت صحة التنبؤات المتشائمة التي تتوقع أن نشهد مستقبلاً تتزايد فيه معدلات البطالة بشكل كبير بسبب الأتمتة، فيمكن عندئذٍ استخدام الإيرادات التي تم تحصيلها من النظام الضريبي المحايد لتوفير تعليم وتدريب مُحسّنين للعمال، بل حتى لدعم برامج الإعانة الاجتماعية مثل برامج الدخل الأساسي.
وبمجرد اتفاق صناع السياسات على أنهم لا يريدون منح الذكاء الاصطناعي أفضلية على العمال البشريين، فبوسعهم تخفيض الضرائب المفروضة على الأشخاص أو تخفيض المزايا الضريبية الممنوحة للذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، ربما ينبغي إلغاء الضرائب المفروضة على الرواتب (التي تتحملها الشركات على رواتب عمالها)، ما يعزز الحياد ويقلل من التعقيد الضريبي ويلغي الضرائب المفروضة على شيء ذي قيمة اجتماعية، ألا وهو العمل البشري.
وعلى نحو أكثر طموحاً، قد يحفز الحياد القانوني للذكاء الاصطناعي حدوث تغيير أعمق في كيفية فرض ضرائب على رأس المال. وبالرغم من أن الأنظمة الضريبية الجديدة يمكن أن تستهدف الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر، فمن المرجح أن يزيد ذلك من تكاليف الامتثال وأن يجعل النظام الضريبي أكثر تعقيداً. كما أن هذا الأمر سيفرض أيضاً “ضرائب على الابتكار” بمعنى أنه قد يعاقب النماذج التجارية التي تكون أكثر إنتاجية بصورة شرعية، والتي تعتمد على عدد أقل من العمال البشريين. لذا، فإن الحل الأفضل يتمثل في زيادة الضرائب على الأرباح الرأسمالية وزيادة معدلات الضرائب المفروضة على الشركات، من أجل تقليل الاعتماد على مصادر إيرادات مثل ضرائب الدخل وضرائب الرواتب. وحتى قبل ظهور الذكاء الاصطناعي على الساحة، ظل بعض خبراء الضرائب لسنوات طويلة يشيرون إلى أن الضرائب المفروضة على دخل العمل مرتفعة للغاية مقارنة بغيرها من الضرائب؛ لذا فإن الذكاء الاصطناعي قد يوفر في نهاية المطاف الزخم اللازم لمعالجة هذه المشكلة.
وتستند حجج معارضي زيادة الضرائب على رأس المال إلى حد كبير على المخاوف المتعلقة بالمنافسة الدولية. على سبيل المثال، يجادل لورانس سمرز، الخبير الاقتصادي بجامعة هارفارد، في أنه “من المرجح أن تنقل الضرائب على التكنولوجيا الإنتاج إلى الخارج، بدلاً من خلق فرص عمل في الداخل”. وهذه المخاوف مبالغ فيها، لا سيما بالنسبة لدول مثل الولايات المتحدة، التي من المرجح أن يواصل المستثمرون الاستثمار فيها حتى مع فرض ضرائب مرتفعة نسبياً، وذلك لمجموعة متنوعة من الأسباب، تتمثل في: الوصول إلى الأسواق الاستهلاكية والمالية، والنظام القانوني الشفاف الذي يمكن التنبؤ به، وتوافر قوى عاملة وبنية تحتية وبيئة تكنولوجية متطورة.
إن النظام الضريبي المستند إلى الحياد القانوني للذكاء الاصطناعي لن يؤدي فقط إلى تحسن التجارة عن طريق إلغاء الإعانات غير الفعالة للأتمتة، وإنما سيساعد أيضاً على ضمان ألا تأتي فوائد الذكاء الاصطناعي على حساب الفئات الأكثر ضعفاً، من خلال إتاحة فرص متكافئة للعمال البشريين وضمان تحصيل إيرادات ضريبية كافية. ومن المرجح أن يسفر الذكاء الاصطناعي عن مكاسب مالية هائلة ولكنها سيئة التوزيع، ما سيفسح المجال لصناع السياسات وسيتطلب منهم إعادة التفكير في كيفية تخصيص الموارد وتوزيع الثروة. وقد يدركون أننا لا نبلي بلاء حسناً في هذا الشأن حالياً.