الفولاذ الدمشقي: تحدٍّ جديد أمام الطباعة المجسمة

3 دقائق
مصدر الصورة: فرانك فينكن | معهد ماكس بلانك

يتمتع الفولاذ الدمشقي بسمعة أسطورية، فهو يتصف بالمتانة وقابلية الطَّرْق والسَّحْب في نفس الوقت؛ لأنه يتألف من طبقات من سبائك فولاذية مختلفة، وهو ما جعل منه المادة المثالية لصنع أنصال السيوف في الأزمنة القديمة. ومؤخراً، قام فريق من معهد ماكس بلانك لأبحاث الحديد في دوسلدورف ومعهد فراونهوفر لتكنولوجيا الليزر في مدينة آخن بألمانيا بتطوير عملية تسمح بإنتاج هذا الفولاذ، طبقة تلو الأخرى، باستخدام آلة للطباعة المجسمة، مع تعديل صلابة كل طبقة بشكل محدد.

تفرّد الفولاذ الدمشقي

وُلد الفولاذ الدمشقي من رحم الحاجة وتحول مع الزمن إلى أسطورة؛ ففي الماضي، كان الحدادون قادرين على التأثير في خصائص سبائك الحديد فقط عن طريق تعديل محتواها من الكربون، وكانت النتيجة أن المادة التي حصلوا عليها كانت إما لينة (قابلة للتشوه بسهولة) وصلدة (مقاومة للتشقق)، أو صلبة (مقاومة للتشوه) وقَصِفَة (أي قابلة للتكسر بسهولة). ولكن صناعة السيوف كانت بحاجة إلى مادة قوية وصلدة في نفس الوقت، بحيث لا تتحطم النصال أو تصبح بحاجة إلى التقويم في خضم المعركة.

يُعد الفولاذ الدمشقي (أو الفولاذ المُدَمشق) أحد أشهر أنواع الفولاذ، ويتميز بالأشكال المتموجة المتناوبة بين اللونين الفاتح والغامق على سطح المادة. وإضافة إلى جمال الفولاذ الدمشقي، فقد تجلت قيمته الحقيقية بالنصال التي صُنعت منه، والتي كانت حادة على الدوام، وتتصف في نفس الوقت بالقوة والمرونة، وقد كانت الأسلحة المصنوعة من الفولاذ الدمشقي متفوقة للغاية على الأسلحة المصنوعة من الحديد. وعلى الرغم من أن الفولاذ العصري عالي الكربون -الذي يُصنع وفق طريقة بيسيمر التي تعود إلى القرن التاسع عشر- يتخطى بجودته الفولاذ الدمشقي، فإن الفولاذ الدمشقي ما زال مادة مدهشة، خصوصاً بالنسبة للفترة التي ظهر فيها. وجدير بالذكر أن هناك نوعين من الفولاذ الدمشقي: الفولاذ الدمشقي المسبوك والفولاذ الدمشقي نمطيّ التلحيم.

وعلى صعيد القارة الأوروبية قديماً، قام الحدادون السلتيون أو الكلتيون بالجمع ما بين عدة أنواع مختلفة من السبائك الحديدية، وقد يعود هذا في البداية إلى محاولتهم تدويرَ الحديد الذي كان يُعد مادة ثمينة في ذلك الوقت، وهكذا حصلوا على المادة التي أصبحت تُعرف لاحقاً باسم الفولاذ الدمشقي، وهو الاسم الذي رافق المادة المركبة ذات الأصول الشرقية، التي دخلت إلى الأراضي الأوروبية انطلاقاً من المركز التجاري الذي كان معروفاً في تلك الحقبة (شرق البحر المتوسط). أما تاريخياً، فيشير الاسم إلى الشبه القائم بين الأنماط التي يتميز بها الفولاذ من جهة، والقماش الدمشقي (الدمقس) من جهة أخرى.

الطباعة المجسّمة باستخدام الليزر والبودرة المعدنية

مؤخراً، قام فيليب كورنستاينر، من معهد ماكس بلانك لأبحاث الحديد، بالاشتراك مع مجموعة من زملائه بتطوير طريقة لتصنيع هذه السبائك الطبقية بشكل أسهل باستخدام الطباعة المجسمة، حيث يُستخدم الليزر لتذويب البودرة الخام وتشكيلها بشكل مشابه للتصنيع التراكمي التقليدي للقطع المعدنية.

ولكن في العملية الجديدة، يستخدم الباحثون الليزر بشكل محدد لتغيير البنية البلورية للفولاذ في طبقات معينة من السبيكة، وبالتالي التأثير على خصائصها الميكانيكية. ولهذا قاموا بتطوير سبيكة تتألف من الحديد والنيكل والتيتانيوم، وهي لينة نوعاً ما في البداية، ويتم صهرها أثناء الطباعة المجسمة ويتم تطبيقها على القطعة المطلوبة على شكل طبقة رقيقة.

استراحة تضمن التصلب

ولكن العلماء قرروا إيقاف العملية مؤقتاً وترك المعدن حتى يبرد إلى أقل من 195 درجة مئوية. يشرح الفريق البحثي ما يحدث بأنه تحت هذه الحرارة، تبدأ البنية البلورية للفولاذ بالتغير، ويظهر ما يسمى بطور المارتنسايت، فإذا استُخدم الليزر مرة أخرى لتسخين هذه الطبقة الفولاذية الباردة عند وضع الطبقة التالية، تتشكل داخلها بنى ميكروية من النيكل والتيتانيوم.

بالتالي، يؤدي تتابع التبريد والتسخين إلى خطوتي تحول ضمن الطبقة المعدنية؛ ففي الخطوة الأولى، تتغير البنية البلورية للفولاذ من الأوستينايت إلى المارتنسايت، وفي الخطوة الثانية، تتشكل البنى الميكروية في المارتنسايت، وهي ما يعيق تشكل الانزياحات ضمن البنية البلورية ويضفي على هذه الطبقة الفولاذية الرقيقة صلابة خاصة. أما الطبقات التي تتم تغطيتها بالطبقات التالية على الفور فتبقى أكثر ليونة.

صلبة وقابلة للسحب في نفس الوقت

تعطي هذه الطباعة المجسمة معدناً مصنوعاً من طبقات متناوبة صلبة ولينة، تماماً مثل الفولاذ الدمشقي. وهذه السبيكة المطبوعة لا تتمتع بنمط الفولاذ الدمشقي المميز وحسب، بل إنها تماثله أيضاً من حيث الخصائص الميكانيكية الجيدة، فقد أثبتت الاختبارات أن هذه السبيكة تتحمل ضغطاً بقيمة 1,300 ميجا باسكال، وتتمتع بقابلية امتداد تساوي 10%.

يرى الباحثون أن هذه الخصائص الميكانيكية تتفوق على خصائص الفولاذ الدمشقي القديمة، ويمكن التأثير على خصائص وبنية الطبقات المختلفة عن طريق التحكم في فترة التوقف والتبريد، وطاقة الليزر، وتركيز الليزر، وسرعة الطباعة. ويضيف الباحثون أن هذه التكنولوجيا قد لا تُستخدم فقط لتحديد الصلابة بشكل موضعي، ولكن أيضاً لتغيير الخصائص الأخرى، مثل مقاومة المعدن للتآكل.

أشكال أخرى ممكنة

ليس الفولاذ الدمشقي الجديد ذو الطبقات المتناوبة سوى واحد من المواد التي يمكن إنتاجها بالطباعة المجسمة، كما يشرح العلماء. حيث يمكن استخدام هذه العملية لإنتاج قطع أدوات ذات نواة لينة مستمرة، وطبقة خارجية صلبة مقاومة للاهتراء. ويرى الفريق البحثي أنه بفضل فكرة التحكم الموضعي، يمكن تحقيق هذا بخطوة إنتاجية واحدة، دون الحاجة إلى عمليات المعالجة الإضافية التي كانت مطلوبة من أجل تصليب السطح.

وبقي أن نقول في الختام إن الكثير من سبائك الفولاذ التقليدية ما زالت غير مثالية للطباعة المجسمة، حيث يوضح فريق البحث أن مقاربتهم الحالية تقوم على تطوير سبائك تتيح استغلال كامل إمكانات الطباعة المجسمة. ومن الجدير بالذكر أن هذه المواد المركبة قد تكون مفيدة يوماً ما، ربما ليس ببعيد، في الطباعة المجسمة للعناصر أو الأدوات التي تستخدم في صناعة الفضاء. عموماً، ليس أمامنا سوى الانتظار لنرى ما سيحمله لنا المستقبل.

المحتوى محمي