لو فرضنا احتمال تواجدك يوماً على سطح الزُّهرة، فسيتم تدميرك في لحظات؛ حيث إن الضغط على سطح الكوكب أعظم بما يصل إلى 100 مرة من الضغط الموجود على سطح الأرض، ودرجات الحرارة تبلغ حوالي 464 درجة مئوية، ويشكل ثاني أكسيد الكربون أكثر من 96% من الهواء هناك.
ومع ذلك، يبدو فجأة أن وجود حياة على كوكب الزهرة لا يمثل أكبر الاحتمالات مستحيلة التصور؛ إذ كشفت ورقة بحثية جديدة نُشرت في مجلة نيتشر أسترونومي يوم 14 سبتمبر أن سُحُب كوكب الزهرة تحتوي على آثار من الفوسفين. ورغم أن النتائج الجديدة بعيدة كل البعد عن أن تكون دليلاً على وجود حياة سابقة أو قائمة حالياً على كوكب الزهرة (يعتبر هذا الكوكب غير صالح إلى حد بعيد لاستضافة الحياة ولأكثر من سبب)، ولكن وجود الفوسفين يشير إلى وجود نوع من النشاط المجهول، بيولوجي أو غيره، يحدث هناك.
تشير النتائج الجديدة إلى أنه إذا كانت الحياة موجودة على كوكب الزهرة -سواء الآن أو في الماضي- فقد تكون موجودة بالفعل في الهواء نفسه. يقول ستيفن كين، عالم الفلك في جامعة كاليفورنيا ريفرسايد، والذي لم يشارك في الدراسة: “يمكن أن تكون البيولوجيا في الغلاف الجوي هي آخر الأعضاء الباقين على قيد الحياة في المحيط الحيوي السابق لكوكب الزهرة. ومن شأن نتيجة كهذه أن تمثل درساً استثنائياً حول قدرة الحياة على التكيف حقاً مع جميع الظروف المتاحة داخل بيئة معينة”.
قد تكون الحياة في الغلاف الجوي لكوكب الزهرة غير عادية، ولكن ربما ليست على درجة كبيرة من الغرابة كما قد يظن المرء؛ ففي الشهر الماضي، ألهمت نتائج الفوسفين المرتقبة عالمة الفلك في إم آي تي سارة سيجر لتشترك مع بعض المؤلفين المشاركين الآخرين في هذه الدراسة الجديدة في نشر ورقة بحثية حول احتمال وجود دورة حياة على كوكب الزهرة توفر مقوّمات وجود كائنات حية في غيومه، مؤكدة على حقيقة أن الغيوم توفر ظروفاً أكثر اعتدالاً وقابلية لاستضافة الكائنات الحية. وتشير سيجر إلى إمكانية وجود الكائنات الحية على كوكب الزهرة في قطيرات على ارتفاعات عالية تتبخر، مخلِّفةً وراءها أبواغاً جافة معلَّقة في الغلاف الجوي. وعلى خلاف غيوم كوكب الأرض، فإن غيوم كوكب الزهرة دائمة الحضور، وهو ما يوفر بيئة أكثر استقراراً تجف فيها هذه الأبواغ وتتساقط إلى ارتفاعات أدنى قبل أن ترتفع مرة أخرى محمولة في القطيرات المتنامية في الطبقة السحابية، وتقوم خلال هذه العملية بإعادة الترطيب، ما يمكنها من مواصلة دورة حياتها. وتقول سيجر إن الغاية من هذه الدراسة كانت المساعدة في “سد فجوة” من خلال تقديم الأفكار حول هذه البيئة.
لقد تم العثور على الفوسفين في غيوم كوكب الزهرة من قِبل جاين جريفز، عالمة الكواكب في جامعة كارديف وفريقها. قام الفريق بدراسة الكوكب باستخدام تلسكوب جيمس كليرك ماكسويل (JCMT) في هاواي، ومصفوفة مرصد أتاكاما المليمتري (ALMA) في تشيلي. ويقوم كلاهما بعملية الرصد في أطوال موجية دون المليمتر تغطي مجالاً يمتد من أمواج الأشعة تحت الحمراء وصولاً إلى الأمواج الميكروية، ما يسمح للعلماء بالتحديد الدقيق لخصائص التركيب الكيميائي للغلاف الجوي.
وجد الفريق آثاراً لغاز الفوسفين بتركيز يبلغ حوالي 20 جزءاً من المليار. وتشير البيانات إلى أن الغاز موجود في مناطق أقرب إلى خط الاستواء وعلى ارتفاعات تبلغ حوالي 55 كيلومتراً، حيث تكون درجات الحرارة باردة نسبياً (حوالي 30 درجة مئوية) ويكون الضغط في الواقع مشابهاً للضغط على سطح الأرض. وتقول جريفز: “يدلّ هذا إلى أنه جزء من نمط الدوران العام للغلاف الجوي، حيث يهبط الغاز إلى ارتفاعات أدنى قبل أن ينتقل ويصل حتى منطقة القطبين”.
يتكون الفوسفين من الفوسفور المرتبط بثلاث ذرات هيدروجين. وتقول كلارا سوزا سيلفا، عالمة الفيزياء الفلكية الجزيئية في إم آي تي والمؤلفة المشاركة في الدراسة الجديدة، إنه يتم إنتاج هذا الغاز بشكل رئيسي على الأرض من قِبل الكائنات الحية بشكل طبيعي في النظم البيئية الفقيرة بالأكسجين. وتضيف: “لا نعرف لماذا تنتج الكائنات الحية على الأرض الفوسفين، نحن نعلم فقط أنها تنتجه”. فالبكتيريا اللاهوائية تنتجه في أماكن مثل الصرف الصحي والمستنقعات والأهوار وحقول الأرز وفي أمعاء معظم الحيوانات، إنه في الواقع جزيء خطير للغاية بالنسبة للكائنات الحية التي تتنفس الأكسجين.
وفي غياب الكائنات الحية، فإن تصنيع الفوسفين يتطلب درجات حرارة عالية جداً وكميات كبيرة من الطاقة (مثل الظروف الموجودة في أعماق الغلاف الجوي لكوكب المشتري). كما أنه أحد منتجات النشاط الصناعي البشري على الأرض.
لقد استبعد الباحثون حتى الآن أي طرق طبيعية معروفة لإنتاج الفوسفين على كوكب الزهرة، بما في ذلك البرق أو النشاط البركاني أو سقوط النيازك.
إذن، من أين يأتي الفوسفين؟ هل تنتجه الكائنات الحية؟ ليس لدى جريفز وفريقها أي دليل حتى الآن، وتقول: “هناك صعوبة كبيرة في إثبات أي من النظريات لتفسير ذلك”. ربما يكون مصدر الفوسفين عبارة عن نوع من “الكيمياء الغريبة” التي لم يتم ملاحظتها على الأرض، أو بعض الكائنات الحية القوية القادرة على البقاء في البيئات الحمضية جداً على السطح والتي تستطيع تسخين الفوسفور المتاح بما يكفي لتصاعده (على الرغم من أن هذا التفسير يثير أسئلة جديدة حول كيفية وصول الفوسفور إلى هناك في الأساس).
لا يعلم الفريق حتى الآن ما إذا كان الغاز يتشكل بالفعل عند الارتفاعات “المعتدلة” التي تم رصدها في غيوم كوكب الزهرة، أو ما إذا كان يتم إنتاجه بالقرب من السطح ثم يرتفع إلى السحاب. علاوة على ذلك، يعتمد تحليل الدراسة على نماذج لسلوك الفوسفين بناءً على ما نلحظه على الأرض؛ وقد يختلف هذا السلوك جذرياً على كوكب آخر. تؤكد سيجر: “نحن لا ندَّعي أننا وجدنا الحياة على كوكب الزهرة”.
لا شك أن هذه النتائج بحد ذاتها تلهم مزيداً من الاهتمام بكوكب الزهرة، كما أنها تقدم فرصاً للعلماء لفهم النشاط البيولوجي المحتمل في عوالم أخرى. يقول كين: “نحن ندرك الآن وجود علاقة قوية بين كوكب الزهرة وصلاحية السكن”. وعلى الرغم من أن كوكب الزهرة غير صالح حقاً لاستضافة الحياة اليوم، لكن “من المحتمل أن الأرض والزهرة كانت لهما ظروف بداية متشابهة جدًا، وقد أظهرت الدراسة الأخيرة أن الزهرة ربما كان صالحاً للسكن يوماً ما، وبوجود محيطات المياه السطحية السائلة، منذ مليار سنة فقط”، كما يقول.
في نهاية المطاف، يريد الباحثون اكتشاف المزيد حول كيفية توزيع الفوسفين في الغلاف الجوي، ومعرفة ما إذا كان بإمكانهم تحديد مصدره ومكان إنتاجه على الكوكب. ومع أن إجراء عمليات رصد إضافية على سطح الكوكب ستكون مفيدة، لكن قدرة الباحثين على القيام بذلك لا تزال محدودة. وتقول سيجر: “نأمل أن يشجع عملنا على إطلاق مهمات فضاء مستقبلية تذهب إلى كوكب الزهرة وترصد الغلاف الجوي هناك بشكل مباشر”.
لسوء الحظ، لا توجد بعثات جديدة مقررة إلى كوكب الزهرة في المستقبل. لكن ناسا تناقش حالياً مقترحين لمسبارين، يمكن لكليهما المساعدة في إجراء هذا النوع من الاستكشاف. ومن شأن النتائج الجديدة أن تساعد في تعزيز الدعم للمضي قدماً في أحد المقترحين أو كليهما.