تعتبر المعاملات التجارية التي تنطوي على دفع عملة مقابل سلعة أو خدمة من أقدم أنواع المقايضة التي عرفتها البشرية. ومع تطور البشر تطورت أشكال العملات ولكن الشكل السائد الذي بقي معروفاً عنها أنها تأتي في شكل ورق أو عملات معدنية. ومع التطور التكنولوجي ظهر في الآونة الأخيرة ما يُسمى بالعملات الرقمية التي يُراد بها أن تكون الوسيلة الرئيسية عند التعامل التجاري عبر الإنترنت وحتى في المتاجر المادية والتجارة عبر الحدود.
ما هي العملات الرقمية؟
قدم عالم الكمبيوتر والتشفير الأميركي "ديفيد تشوم" (David Chaum) مفهوم العملات الرقمية لأول مرة في ورقة بحثية بعنوان: "التواقيع العمياء لمدفوعات لا يمكن تعقبها" (Blind signatures for untraceable payments) في عام 1983، ويعتبر أول من ابتكر نقوداً رقمية مشفرة مجهولة المصدر، ولاحقاً تم تعريف "العملات الرقمية" (Digital Currency) على أنها وسيلة تبادل يتم إنشاؤها وتخزينها ونقلها إلكترونياً. ولا ترتبط العملات الرقمية عادةً بحكومة أي بلد أو يتم تمثيلها في أشكال مادية مثل العملات المعدنية وأوراق العملات التقليدية.
ليس للعملات الرقمية سمات مادية وهي متوفرة فقط في شكل رقمي، وتتم المعاملات التي تنطوي على عملات رقمية باستخدام أجهزة كمبيوتر أو محافظ إلكترونية متصلة بالإنترنت أو شبكات معينة. في المقابل تعتبر العملات المادية مثل الأوراق النقدية والعملات المعدنية المصكوكة ملموسة، ما يعني أن لها سمات وخصائص مادية محددة. ولا يمكن إجراء المعاملات التي تنطوي على مثل هذه العملات إلا عندما يكون لأصحابها حيازة فعلية لهذه العملات.
فائدة العملات الرقمية مماثلة لفائدة العملات المادية، ويمكن استخدامها لشراء السلع والدفع مقابل الخدمات. بالإضافة إلى ذلك يمكن استخدامها أيضاً بين مجتمعات معينة عبر الإنترنت، مثل مواقع الألعاب أو الشبكات الاجتماعية، كما تعمل العملات الرقمية أيضاً على تمكين المعاملات الفورية التي يمكن تنفيذها بسلاسة عبر الحدود. على سبيل المثال من الممكن أن يقوم شخص موجود في أستراليا بإجراء مدفوعات بعملة رقمية لطرف مقابل مقيم في الولايات المتحدة بشرط أن يكونا متصلين بنفس الشبكة.
اقرأ أيضاً: ما التغييرات الكبرى التي ستحدثها العملات الرقمية في النظام المالي العالمي؟
خصائص العملات الرقمية
يمكن أن تكون العملات الرقمية موجودة في شكل مركزي أو لامركزي. بعكس العملة الورقية التي تكون في شكل مادي ويتم إنتاجها وتوزيعها في نظام مركزي من قبل البنوك المركزية التابعة للدول، وتعتبر "العملات المشفرة" (Cryptocurrencies) الفئة الأكثر شيوعاً من العملات الرقمية وأمثلة على أنظمة العملات الرقمية اللامركزية.
بالإضافة إلى ارتباطها بمعاملات البيع والشراء للسلع والخدمات عبر الإنترنت دون الحاجة إلى امتلاكها بشكل مادي، يمكن للعملات الرقمية أيضاً تحويل القيمة. على سبيل المثال يمكن استخدام عملة رقمية في منصة ألعاب لإطالة عمر اللاعب أو تزويده بأدوات إضافية للعب، وتعتبر مثل هذه الحالات ليست معاملة شراء أو بيع فعلية ولكنها تمثل تحويلاً للقيمة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن تأسيس عملات رقمية خاصة بشعبٍ ما؟
أنواع العملات الرقمية
العملة الرقمية هي مصطلح شامل يمكن استخدامه لوصف أنواع مختلفة من العملات الموجودة في المجال الإلكتروني. وبشكل عام، هناك ثلاثة أنواع مختلفة من العملات الرقمية:
-
العملات المشفرة
"العملات المشفرة" (Cryptocurrencies) هي عملات رقمية تستخدم تكنولوجيا التشفير لتأمين المعاملات والتحقق منها في الشبكة. وتُستخدم تكنولوجيا التشفير أيضاً لإدارة وإنشاء هذه العملات والتحكم فيها. وتعتبر عملتا "البيتكوين" (Bitcoin) و"الإيثيريوم" (Ethereum) من أشهر العملات الرقمية وأكثرها قيمة في الوقت الحالي.
-
العملات الافتراضية
"العملات الافتراضية" (Virtual Currencies) هي شكل غير منظم من أشكال العملات الرقمية. يتم إصدارها من قبل جهات خاصة، مثل مجموعة من المطورين أو الشركات، وهي مخصصة للاستخدام عبر الإنترنت فقط وليس لها تجسيد مادي مثل النقود الورقية. يصدرها ويتحكم فيها مطوروها وتستخدم كوسيلة دفع بين مجموعات أو منصات محددة مثل مجتمعات الألعاب.
-
العملات الرقمية المدعومة من البنوك المركزية
"العملات الرقمية المدعومة من البنك المركزي" (Central Bank Digital Currencies) –اختصاراً CBDC- هي عملات رقمية منظمة يصدرها البنك المركزي للدولة، وتعتبر مكملة وفي بعض الحالات بديلة للعملة الورقية التقليدية، ولكن على عكس العملة الورقية توجد العملة الرقمية المدعومة من البنك المركزي في شكل رقمي فقط.
اقرأ أيضاً: ما هي أسباب الانهيار غير المسبوق في أسعار العملات الرقمية المستقرة؟
ما هي أبرز مزايا العملات الرقمية؟
-
أوقات تحويل ومعاملات سريعة
نظراً إلى وجود العملات الرقمية بشكل عام داخل الشبكة نفسها فإن المعاملات المرتبطة بها لا تحتاج إلى وسطاء، ما يؤدي إلى تسريع مقدار الوقت المطلوب للتحويلات، حيث أن المدفوعات بالعملات الرقمية ستتم مباشرة بين الأطراف المتعاملة دون الحاجة إلى أي وسطاء، فهذا يؤدي إلى معاملات فورية ومنخفضة التكلفة، مقارنة بطرق الدفع التقليدية التي تشمل البنوك أو غرف المقايضة.
-
تسهيل تنفيذ السياسة النقدية والمالية
يمكن أن تساعد العملات الرقمية المدعومة من البنوك المركزية بتمكين الحكومات والوكالات المالية الرسمية من إجراء المدفوعات لمواطنيها بطريقة مباشرة وسريعة، بالإضافة إلى أن العملات الرقمية غير مكلفة وتبسط طرق الإنتاج والتوزيع من خلال تجنب الحاجة إلى التصنيع المادي ونقل الأوراق النقدية من موقع إلى آخر.
-
جعل تكاليف المعاملات أقل
تتيح العملات الرقمية تفاعلات مباشرة داخل الشبكة. على سبيل المثال يمكن للعميل أن يدفع لصاحب المتجر مباشرة طالما أنه موجود في نفس الشبكة. وحتى التكاليف التي تنطوي على معاملات بالعملة الرقمية بين الشبكات المختلفة ستكون أقل نسبياً مقارنة بتلك التي تستخدم العملات المادية أو العملات الورقية، فمن خلال الاستغناء عن الوسطاء يمكن للعملات الرقمية أن تجعل التكلفة الإجمالية للمعاملة أقل.
اقرأ أيضاً: متى سيتم تعدين كل عملات البيتكوين؟ وماذا سيحصل للعملة حينئذ؟
ما هي أبرز العيوب المتعلقة بالعملات الرقمية؟
مع ذلك، فإن العملات الرقمية لها عدد من العيوب يتطلب العمل على حلها، إذا أُريد لها أن تُطبق بشكل واسع وأن تُسهل ولو جزءاً من عمليات المدفوعات، ومن أبرز هذه العيوب:
- ضرورة توفر اتصال بالإنترنت: على الرغم من أنها لا تتطلب محافظ مادية، إلا أن العملات الرقمية لها مجموعة متطلباتها المتعلقة بعمليات التخزين والمعالجة، على سبيل المثال، يعد الاتصال بالإنترنت ضرورياً لإجراء المعاملات، وكذلك الهواتف الذكية ذات التكنولوجيا المتوسطة والخدمات المتعلقة بتوفيرها.
- عرضة للسرقة: يمكن للقراصنة سرقة العملات الرقمية من محافظ الإنترنت أو تغيير بروتوكول العملات الرقمية، ما يجعلها غير قابلة للاستخدام.
- متقلبة من حيث القيمة: يمكن أن يكون للعملات الرقمية المستخدمة في التداول تقلبات حادة في الأسعار. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي الطبيعة اللامركزية للعملات الرقمية إلى الوفرة وقد تكون أسعارها عرضة للتغييرات المفاجئة بناءً على أهواء المستثمرين أو الحكومات.
اقرأ أيضاً: كيف سيواجه مناصرو العملات المشفرة المحنة التي تمر بها؟
هل تكون العملات الرقمية الحكومية بديلاً للعملات الرقمية المشفرة؟
ترى العديد من الحكومات أن العملات الرقمية المشفرة مثل البيتكوين وغيرها والتي تُعرف غالباً باسم "الأصول المشفرة" (Crypto-Assets) يتم الاحتفاظ بها كاستثمارات من قبل الأشخاص الذين يتوقعون ارتفاع قيمتها- على أنها فئة أصول متقلبة ومضاربة، وأن ارتباطها بتكنولوجيا سلاسل الكتل "البلوك تشين" المشفرة واللامركزية، تمثل وسيلة أساسية في استخدامها في أنشطة غير مشروعة مثل غسيل الأموال وتمويل الإرهاب والتهرب الضريبي.
ومن ثم ترى معظم الحكومات في العملات الرقمية، خاصة المدعومة من البنوك المركزية، بديلاً حقيقياً، وذلك وفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، ذُكر فيه أنه في حالة وجود قوانين تنظم سوق العملات الرقمية يمكن أن توفر فوائد عامة كبيرة بكفاءة أكبر وتكاليف أقل لكل من أنظمة المدفوعات المحلية والدولية على وجه الخصوص. وتساعد في ضمان وصول الخدمات المالية إلى مئات الملايين من الأشخاص، خاصة في البلدان النامية، دون الحاجة إلى حسابات بنكية.
الصين نموذجاً
اتخذت الحكومة الصينية إجراءات صارمة ضد عملة البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى، وتسعى بدلاً من ذلك إلى توفير بديل رقمي يخضع لعقوبات حكومية وخاضع للرقابة، حيث أطلقت عملتها الرقمية المدعومة من البنك المركزي "إي- سي إن واي" (e-CNY) في 2020 في أكثر من 20 مدينة، حيث تُستخدم هذه العملة الرقمية الآن ليس فقط في شراء السلع الاستهلاكية بل حتى في منتجات إدارة الثروات والقروض المصرفية.
وتخطط الحكومة لأن تلغي عملتها الرقمية الحاجة إلى كل من معاملات النقد المادي وخدمات الدفع عبر الإنترنت مثل "باي بال" (PayPal)، بعدما بلغ حجم معاملاتها إلى ما يصل إلى 87.6 مليار يوان (13 مليار دولار) بنهاية عام 2021، حيث تخطط لاستخدامها مستقبلاً في المزيد من القطاعات الحيوية مثل العلاج الطبي والتعليم والتمويل.
اقرأ أيضاً: هل سيصمد المال النقدي في وجه إغراء العملات الرقمية؟
ونتيجة هذا النجاح، تدرس العديد من الحكومات والبنوك المركزية الأخرى في العالم، ولا سيما البنك المركزي الأوروبي، إطلاق عملة رقمية رسمية مدعومة من أجل تحقيق مبدأ الحكم الذاتي الاستراتيجي، حيث يمكن لليورو الرقمي أن يعزز هذا الهدف، بالإضافة إلى تعزيز الدور الدولي لعملة اليورو، علاوة على ما توفره العملات الرقمية من كفاءة في أنظمة الدفع والمعاملات اليومية، ولكن في الوقت نفسه فإن دوافعها تختلف وتتجاوز حجة الكفاءة.
يريد الاتحاد الأوروبي كبح الدور المهيمن للدولار في التجارة والتمويل الدوليين، بعد أن فرضت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عقوبات ثانوية على بعض شركات الاتحاد الأوروبي، ما يساعد في الحد من تضرر الشركات في حال توقيع عقوبات عليها من أطراف ثالثة وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية التي تعتمد بشكل كبير على مكانة الدولار المتميزة في التمويل الدولي.
لماذا يجب على الحكومات إطلاق عملتها الرقمية بدلاً من ترك الأمر للشركات؟
نظراً إلى مجالات الربح الواسعة التي يمكن أن تحققها العملات الرقمية، فإن شركات التكنولوجيا الكبرى تعرف جيداً أن دخولها هذا المجال سيعزز من مكانتها المالية وأرباحها، وهذا ما تخشاه معظم الدول حول العالم والبنوك والقطاعات المالية العالمية. فشركات التكنولوجيا غير مقيدة في الوقت الحاضر باللوائح والقوانين المصرفية، ومن ثم مع الموارد التكنولوجية الفائقة وقاعدة العملاء العالمية التي تصل إلى المليارات، والقدرة المؤكدة على توسيع نطاق الأعمال بسرعة، فإن السماح لهم بإطلاق عملاتها الرقمية يمكن أن يُهدد بشكل كبير النظام المالي العالمي، وقد يلغي دور الحكومات تماماً في السيطرة المالية والتنظيمية.
ترك الحكومات أن دخول شركات التكنولوجيا العملاقة هذا المجال مهدد كبير لاستقرار النظام المالي العالمي، ونتيجة لذلك فإن الجهود لإطلاق العملات الرقمية من قبل الحكومات لم تقتصر على الدول الأوروبية فقط، حيث بدأت الولايات المتحدة وهي أكبر اقتصاد في العالم في استكشاف إمكانية إطلاق عملة رقمية وطنية مدعومة من بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي المركزي.
اقرأ أيضاً: لماذا قرر «الدكتاتور العصري» للسلفادور دعم البيتكوين إلى أقصى حد ممكن؟
بالإضافة إلى العديد من الأسباب الأخرى، بما فيها:
- مواجهة التهديد الذي تمثله العملات الرقمية المشفرة والعملات المستقرة.
- تحسين كفاءة وسلامة أنظمة الدفع بالتجزئة.
- تحسين كفاءة الدفع عبر الحدود من خلال تواجد الأطراف المشاركة على مدار 24 ساعة.
- تسريع الانتقال إلى مجتمع غير نقدي.
- الحد من عمليات التهرب الضريبي وغسل الأموال والمعاملات غير القانونية التي يتم إجراؤها بالعملات الورقية التقليدية.
- تحسين الشمول المالي وتعزيز الإدماج المالي بين السكان الذين لا يتعاملون مع البنوك من خلال منحهم إمكانية حفظ مدخراتهم في مكان آمن يمكن الوصول إليه في أي وقت.
ختاماً، من المتوقع أن تقوم معظم البنوك المركزية في العالم بإصدار عملات رقمية مستقبلاً، نظراً إلى التحرك الكبير نحو الخدمات المصرفية عبر الإنترنت وعمليات التحول الرقمي التي تنتظم في معظم القطاعات، وعلى الرغم من أن تصميم هذه العملات الرقمية قد يختلف بشكل كبير بحسب رؤية كل دولة، إلا أنه في جميع الحالات من المؤكد أن تظل البنوك المركزية مسؤولة عن هذه العملة، ما يؤدي إلى تمكين المزيد من الأشخاص من إجراء المعاملات المالية بسرعة وكفاءة، وفي الوقت نفسه تقليل جرائم الاحتيال المرتبطة بالقطاع المالي.