تتسم شرايين التجارة العالمية -أنظمة الدفع عبر الحدود- بشكل متزايد بعدم الكفاءة والتعقيد، إذ إنه على الرغم من عقود من التقدم التكنولوجي، فإن البنية التحتية الحالية، التي تعتمد بشكل كبير على شبكة البنوك المراسلة، بطيئة ومكلفة وغامضة، ما يفرض عبئاً كبيراً على التجارة الدولية، حيث تستغرق عمليات التسوية غالباً ما بين يوم عمل وخمسة أيام عمل لإتمامها.
وتؤدي هذه المدة إلى تجميد رأس المال العامل الحيوي، وتسبب ظهور مخاطر التسوية، لا سيما في الأسواق العالمية سريعة الحركة. علاوة على ذلك، يؤدي هذا الهيكل المعقد إلى ارتفاع رسوم المعاملات ونقص الشفافية، ما يخلق حاجزاً كبيراً بشكل غير متناسب أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة التي غالباً ما يعوق نموها نقص السيولة وارتفاع التكاليف مقارنة بالشركات الكبيرة.
استجابة لهذه الحاجة الملحة للتحديث، ظهرت العملات الرقمية المستقرة من محيط نظام العملات المشفرة لتقدم حلاً عملياً رقمياً أصلياً لنقل القيمة شبه الفوري عبر الحدود. فما هي العملات المستقرة وأسباب بقائها مستقرة ومزاياها وحالات استخدامها في التجارة عبر الحدود؟ ومتى تكون العملات المستقرة منطقية ومتى لا تزال الخدمات المصرفية التقليدية هي المنتصرة؟
ما هي العملات الرقمية المستقرة وآلية عملها؟
العملة الرقمية المستقرة هي عملة رقمية مشفرة صممت قيمتها بحيث تبقى ثابتة تقريباً مقارنة بأصل مستقر، عادةً ما يكون عملة ورقية رسمية. عملياً، ترتبط العملات المستقرة بعملة ورقية رئيسية مثل الدولار الأميركي بحيث تكون قيمة كل عملة تساوي دولاراً أميركياً واحداً.
بمعنى آخر، تكون كل عملة مستقرة صادرة مدعومة باحتياطيات يحتفظ بها المصدر. ويهدف هذا الدعم إلى منع التقلبات الحادة التي تحدث في أسعار العملات المشفرة مثل بيتكوين أو إيثريوم. على سبيل المثال، تحتفظ معظم العملات المستقرة الرئيسية اليوم باحتياطيات في سندات الخزانة الأميركية أو الودائع المصرفية لضمان إمكانية استرداد كل عملة بما يعادل قيمتها بالدولار.
ما هو الفرق بينها وبين البيتكوين والعملات النقدية التقليدية؟
تحتل العملات المستقرة مكانة وظيفية فريدة في مشهد الأصول الرقمية، وتختلف اختلافاً جوهرياً عن العملات المشفرة غير المدعومة وأموال البنوك التقليدية؛ إذ غالباً ما تتميز الأصول الرقمية غير المدعومة مثل البيتكوين بتقلبات عالية، ما يجعلها مناسبة في المقام الأول للاستخدام كاستثمارات مضاربة أو مخازن قيمة طويلة الأجل.
أما العملات المستقرة فهي صادرة عن القطاع الخاص ومدفوعة بالسوق وتعتمد على الضمانات والتنظيم من أجل الثقة، وصممت خصيصاً للتخلص من مخاطر العملات الرقمية المشفرة، ما يمكنها من العمل بفاعلية كوسيلة رقمية موثوقة للتبادل في المدفوعات وتسوية المعاملات، بينما يتمحور الفرق بينها وبين العملات التقليدية (مثل الودائع المصرفية) حول البنية التشغيلية وقابلية البرمجة والعائد.
حيث تعتمد الودائع المصرفية التقليدية على وسطاء، وتقتصر على ساعات العمل والأنظمة المصرفية التقليدية، بينما العملات المستقرة قابلة للتحويل من نظير إلى نظير بالاعتماد على بنية سلاسل الكتل، ما يسمح بتسوية مستمرة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع خارج قيود جداول التشغيل التقليدية، ما يتيح إجراء معاملات آلية تعتمد على العقود الذكية.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن تسهم التقنية المالية في إدارة المخاطر في المؤسسات المالية؟
مثال توضيحي:
عند تحويل الدولارات إلى عملة مستقرة، عادةً ما تحفظ هذه الدولارات في حساب احتياطي للشركة (وليس على سلسلة الكتل)، والعملات التي تستلمها تتداول على السلسلة. هذا الهيكل يعني أن العملات المستقرة توفر سرعة وسهولة برمجة العملات المشفرة، ولكن يجب على المستخدمين الثقة بأن الجهات المصدرة تحتفظ بالاحتياطيات حقاً.
فإذا فقدت الأصول الاحتياطية قيمتها أو تراجعت الثقة في المُصدر، فقد ينكسر ربط العملة المستقرة، كما حدث في حادثة انهيار عملة يو إس تي ولونا عام 2022، بمعنى: تسلك العملات المستقرة سلوك النقود الرقمية على سلسلة الكتل -مستقرة نظرياً- بينما تشبه العملات المشفرة مثل البيتكوين بالذهب الرقمي المتقلب، والودائع المصرفية تسجل كعملة ورقية في سجل مدعوم حكومياً.
العملات الرقمية المستقرة في المدفوعات عبر الحدود والتجارة العالمية
تكمن الميزة الرئيسية للعملات المستقرة في قدرتها على معالجة أوجه القصور الجوهرية في البنية التحتية للمدفوعات العالمية، ما يمهد الطريق لتجارة عالمية أكثر كفاءة وشمولاً، إذ يمثل نظام البنوك المراسلة الحالي، الذي يعتمد على نقل الرسائل متعدد المراحل (عبر سويفت)، عوائق تشغيلية كبيرة مثل بطء السرعة ومحدودية الوصول وارتفاع تكاليف رسوم التحويلات وافتقارها إلى الوضوح الفوري وتحديثات الحالة طوال العملية.
تؤثر هذه العوامل مجتمعة بشكل كبير في الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تواجه تكاليف معاملات أعلى بشكل غير متناسب وفترات تسوية مطولة، كما أن قيود السيولة وأعباء الامتثال الناتجة عن ذلك مثل التعامل مع قوانين مكافحة غسل الأموال عبر ولايات قضائية متنوعة، تعوق قدرتها على المشاركة بفاعلية في التجارة الدولية.
ويزيد انكماش شبكة البنوك المراسلة من تفاقم هذه المشكلة، حيث يستثني الدول الأصغر أو الأفقر بسبب تعقيد الامتثال وانخفاض حجم المعاملات، وهذا النقص في الوصول يخلق الفراغ الاقتصادي الذي تملأه العملات المستقرة الآن بنجاح في عمليات التجارة الدولية.
إذ تقدم العملات المستقرة مزايا مميزة من خلال استبدال سلسلة البنوك المراسلة متعددة الطبقات بآلية تحويل مباشرة من نظير إلى نظير مبنية على تقنية دفتر الأستاذ الموزع، مثل التسويات الفورية والوصول الدائم وانخفاض تكاليف المعاملات من خلال إلغاء دور الوسطاء، والأهم تحسين الشفافية وقابلية التدقيق.
حيث تنشئ تقنية سلسلة الكتل دفتر أستاذ عام (أو مصرح به) يمثل مصدراً واحداً لحقيقة غير قابلة للتغيير للمعاملات جميعها، ومن ثم تتيح هذه الشفافية المتأصلة للشركات مراقبة المعاملات في الوقت الفعلي، ما يحسن بشكل كبير تخطيط التدفق النقدي ويبسط عمليات التدقيق والتسوية المالية.
اقرأ أيضاً: قوة التكنولوجيا: السر وراء صعود شركات التكنولوجيا المالية
أمثلة ملموسة على تبني العملات الرقمية المستقرة عالمياً:
شهد إجمالي حجم معاملات العملات المستقرة ارتفاعاً هائلاً، فوفقاً لتقرير حالة العملات الرقمية لعام 2025 الصادر عن شركة أندريسن هورويتز، فقد عالجت العملات المستقرة حجم معاملات إجمالي قدره 46 تريليون دولار خلال العام الماضي، بزيادة 106% مقارنة بالعام السابق، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف حجم العمليات التي تتم تعالج بواسطة فيزا.
يظهر هذا سرعة عالية في المعاملات واعتماداً عملياً واسع النطاق. وقد برزت المدفوعات العابرة للحدود بين الشركات كحالة استخدام رئيسية، كما تشير الدراسات الاستقصائية إلى أن 77% من الشركات الكبيرة مهتمة باستخدام العملات المستقرة لدفع مستحقات الموردين الأجانب، بسبب ميزتها في تبسيط حسابات الدفع، وأتمتة تمويل التجارة وتسويات الفواتير، وتحسين إدارة سيولة الخزانة العالمية.
كما تكتسب العملات المستقرة زخماً متزايداً في سوق التحويلات المالية، حيث تمثل حالياً نحو 3% من حجم التحويلات المالية العالمية، وبشكل خاص في الاقتصادات الناشئة، حيث وجدت دراسة أجرتها جامعة كورنيل أن الهند ونيجيريا وإندونيسيا من بين أكثر مستخدمي العملات المستقرة عالمياً، مدفوعة بالعجز الهيكلي في بنيتها التحتية المالية المحلية والتكاليف المرتفعة المرتبطة بها.
عدم اليقين التنظيمي: تعقد الطبيعة العالمية واللامركزية للعملات الرقمية المستقرة
على الرغم من أن العملات المستقرة واعدة، فإنها تثير أيضاً مخاطر وشكوكاً جديدة تواجهها الجهات التنظيمية؛ إذ تسلط هيئات عالمية مثل صندوق النقد الدولي ومجلس الاستقرار المالي الضوء على العديد من المخاطر المشتركة منها:
الاستقرار المالي
إذا أصبحت العملات المستقرة ضخمة جداً، فقد يؤدي التدافع على عملة مستقرة رئيسية إذا حاول المستخدمون جميعهم استردادها في وقت واحد إلى بيع الاحتياطيات الأساسية بأسعار بخسة، ما قد يسبب صدمة للأسواق. وقد أظهرت بالفعل حادثة عملتي يو إس تي ولونا كيف يمكن أن تتلاشى الثقة.
غسيل الأموال وحماية المستهلك
إن طبيعة العملات المستقرة العابرة للحدود، التي تحمل أسماء مستعارة، تجعلها جذابة للتمويل غير المشروع إذا لم تخضع للتنظيم. فدون إجراءات صارمة لمعرفة هوية العميل على منصات التداول والمحافظ يمكن استخدامها لتجاوز عمليات التحقق من مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
الفجوات التنظيمية
نظراً إلى حداثة العملات المستقرة فإن بعض الدول تفتقر إلى أي قواعد منظمة لها، حيث يشير مجلس الاستقرار المالي إلى أنه حتى أواخر عام 2025، لم يطبق سوى عدد قليل من الدول معايير العملات المستقرة العالمية بشكل كامل. هذا التأخر يعني أن بعض العملات المستقرة تعمل في ظل غياب الرقابة التنظيمية.
اقرأ أيضاً: الدروس المستفادة من تجربة دولة الإمارات في صناعة السياسات التقنية المواكبة للثورة الصناعية الرابعة
مثال:
تسعى الدول العربية خاصة الخليجية جاهدة إلى ترسيخ مكانتها مركزاً للأصول الرقمية المتوافقة مع قواعد السوق العالمي، حيث وضعت السلطات المالية في الإمارات والبحرين أطراً تنظيمية للأصول الرقمية والعملات المستقرة بهدف تسهيل استخدامها في المدفوعات عبر الحدود والتجارة الدولية، مع الالتزام بمعايير صارمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وقد وضعت البحرين خصوصاً أول إطار تنظيمي للعملات المستقرة يعد الأكثر وضوحاً في دول مجلس التعاون الخليجي، بينما بدأت السعودية العمل على إعداد إطار عمل منظم للعملات المستقرة لقدرتها على إجراء تسوية فورية وكفاءة سيولة أعلى، لا سيما لقطاعات التكنولوجيا المالية والعقارات وتجارة التجزئة.
الإمكانات والتوقعات العالمية للعملات الرقمية المستقرة
من غير المؤكد ما إذا كانت العملات المستقرة ستحل محل البنوك (المراسلة) في المستقبل أو ستسير بالتوازي معها، لكن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو التعايش بينهما. حيث قد يدفع التطور السريع للعملات المستقرة، التي تصدرها كيانات خاصة -85 من أصل 93 بنكاً مركزياً حول العالم- إلى دراسة العملات الرقمية للبنوك المركزية كوسيلة لتقديم بديل نقدي رقمي مدعوم رسمياً.
حيث تهدف العملات الرقمية للبنوك المركزية، وهي أشكال رقمية لعملة الدولة، إلى توفير مزايا مماثلة للعملات المستقرة، مثل المدفوعات الأسرع والأقل تكلفة. ويجري حالياً تجربة نوعين منها:
1- العملات الرقمية بالجملة المستخدمة بين البنوك لتحسين كفاءة التسوية.
2- العملات الرقمية بالتجزئة المخصصة للاستخدام العام كنقود رقمية آمنة، بالإضافة إلى دورها كوسيلة لتسريع المدفوعات عبر الحدود وتعزيز الشمول المالي.
ومن ثم فمن المتوقع أن تتعايش العملات المستقرة والعملات الرقمية للبنوك المركزية في "سلسلة متصلة" من العملات الرقمية. فالعملات الرقمية للبنوك المركزية، كونها صادرة عن الحكومات، تتمتع باستقرار قانوني، لكنها قد تتحرك ببطء في الإطلاق.
في المقابل، قد تتطور العملات المستقرة الخاصة بشكل أسرع وتتخصص في مجالات محددة أو ممرات تجارية معينة.
وقد أدى هذا التباين إلى انقسام في السياسات العالمية؛ حيث تفضل الولايات المتحدة العملات المستقرة المنظمة بالدولار وسيلة لتعزيز مكانة الدولار عالمياً وتعارض إصدار دولار رقمي للتجزئة في المدى القريب، بينما يركز الاتحاد الأوروبي على اليورو الرقمي وينظر بحذر أكبر إلى العملات المستقرة الخاصة.
اقرأ أيضاً: كيف أصبحت الصين الرائدة في التكنولوجيا المالية؟ ولماذا يعجز الغرب عن اللحاق بها؟
هل ستحل العملات الرقمية المستقرة محل البنوك المراسلة؟
تشير الأدلة الأولية إلى أن البنوك التقليدية لن تختفي بين عشية وضحاها، بل يجب عليها التكيف وإبرام شراكات. فعلى الرغم أن العملات المستقرة تعتبر "سككاً حديدية عالية السرعة" جديدة للمدفوعات، فإنها تعالج حالياً أقل من 1% من حجم المدفوعات العالمي، مقارنة بـ 5 إلى 7 تريليونات دولار في تحويلات الأموال العالمية اليومية التي تنقلها شبكات المراسلة التقليدية يومياً مثل سويفت.
ولهذا، من المرجح أن تظل البنوك ونظام سويفت مهيمنين على التحويلات الكبيرة جداً حتى تجري مواءمة اللوائح والبنية التحتية بشكل كامل. أما استبدال العملات المستقرة بالكامل للممرات الحالية فيعتمد على مدى التبني وقابلية التشغيل البيني، فإذا أدمجت البنوك الكبرى والبنوك المركزية العملات المستقرة أو العملات الرقمية للبنوك المركزية المرمزة، فيمكنها حينها إعادة هيكلة النظام المالي بالكامل.
منظور مستقبلي: الدور طويل الأمد للعملات الرقمية المستقرة في التجارة العالمية
تقدم العملات المستقرة مجموعة أدوات تحويلية للتجارة العالمية، حيث تشير أبحاث صندوق النقد الدولي إلى أن العملات المستقرة باقية، وقد تصبح ذات تأثير تحويلي كما كانت الإنترنت، ولكن مع محاذير يجب معالجتها أولاً.
لذا من المتوقع إذا خضعت لتنظيم جيد فمن المرجح أن تظل جزءاً حيوياً من التجارة العالمية مكملة للتمويل التقليدي، وفي العقود القادمة، قد تثبت أنها عنصر لا غنى عنه في عملية دولية أسرع وأكثر شمولاً محفزة للابتكار المالي دون زعزعة الاستقرار.