العلم وقطاع الأعمال والضجيج الإعلامي: التعلم الآلي كحالة نموذجية

4 دقائق
مصدر الصورة: كيفين كو عبر أنسبلاش

في هذه المقالة، أقوم بتحليل العلاقة بين العلم وقطاع الأعمال، وأستخدم التعلم الآلي كحالة معبرة عن السمات الرئيسية لهذه العلاقة. ويمكن توسيع هذا التحليل بسهولة ليشمل مجالات علمية أخرى.

كيف يمكنك كسب المال؟

تتلخص جميع أساليب جني المال بشكل أساسي -سواء بصورة شرعية أو غير شرعية- في طريقتين اثنتين:

  1. الإجراءات: تقوم بعمل أو بناء شيء يرغب الناس في دفع المال مقابل الحصول عليه. وهذا يشمل على سبيل المثال تطويرَ بعض البرامج، وتنظيف الحمامات، والسرقة، وما إلى ذلك.
  2. الوعود: أنت تَعِد المشتري بأنك ستمنحه شيئاً سيكون مستعداً لدفع ثمنه. وفي هذه الفئة لدينا الأسهم والتأمين وما شابه ذلك. بالطبع، لا تحمل هذه الوعود أية قيمة إلا في مجتمع يمتلك بنية لإنفاذها، ويمكن أن تشمل هذه البنية: القوانين أو المحاكم أو الشرطة أو العلاقات القبلية أو غيرها.

من الواضح أن الإجراءات والوعود لا تنفصلان تماماً عن بعضهما البعض؛ فعلى سبيل المثال، يمكنك أن تقرر العمل في الصناعة المالية والبدء في تداول وعود الآخرين، أو تقديم وعود باتخاذ بعض الإجراءات في حالة عدم تمكن شخص ما من الوفاء بوعوده.

إن بعض الإجراءات أحياناً قد تجعل بعض الوعود أكثر قيمة؛ فإجراء إنشاء مجموعة بحثية في شركة سيارات ذاتية القيادة يزيد من إمكاناتها لتحقيق الربح، وبالتالي سيصبح الناس أكثر استعداداً لشراء وعدها، أي أسهمها.

بين قطاع الأعمال والتعلم الآلي

يمكننا الاستفادة مما سبق في فهم الوضع الحالي للتعلم الآلي. يتم تصور التعلم الآلي على أنه المجال الذي يدرس إنشاء إجراءات "ذكية"، ويتم تقديم الإنجازات التقنية لواتسون (Watson) وديب بلو (DeepBlue) وألفاجو (AlphaGo) وغيرها باعتبارها أمثلة رئيسية ومحددة حول قدرات هذا المجال.

وفي مرحلة معينة، تبدأ الإنجازات الرئيسية بلعب دور النموذج. فمن منظور الشخص العادي اليوم، هذا الحقل هو ما جعل واتسون وديب بلو حقيقة واقعة، ويعتبر هذا الانتقال من المجرّد إلى الملموس هو الأمر اللازم حقاً لخلق الضجيج الإعلامي، وموجة الطلب، والتبني الواسع، والحماس في قطاع الأعمال. وتتجسد أحدُ الشروط الضرورية لتوليد الضجيج في وجود نموذج، أي مثال حقيقي يلعب دور تحديد ماهية المجال. يتيح هذا النموذج إمكانية توليد أساطير قابلة للتصديق، وهذه نقطة مهمة للغاية تستحق بعض الشرح.

يستند قطاع الأعمال العصري إلى العلامة التجارية، وهي عبارة عن شكل من أشكال التواصل؛ فأنت لا تشتري هاتفاً محمولاً، بل تشتري جهاز آيفون. وتحدد العلامة التجارية -من بين أمور أخرى- درجةَ الإيمان بصدق وعودها. وحتى يكون التواصل فعالاً، فإن العنصر الجوهري هنا هو المصداقية وليس الحقيقة؛ لذلك مثلاً إذا نظرنا إلى حقيقة أنه لدينا سيارة نصف مؤتمتة، فمن القابل للتصديق أن نتمكن من الحصول على سيارة مؤتمتة بالكامل. وعلى الرغم من أن هذا الاستنتاج لا ينبع من الفرضية، إلا أن ذلك ليس مهماً؛ لأن المصداقية متجذرة في الخيال، وليس في الحقيقة. وبعبارة أخرى: ما نحتاجه هو بناء حالة يمكننا فيها أن نتخيل ما يمكن تصديقه. وهنا بالضبط تجد العلامة التجارية مكانها، في هذه المنطقة الدقيقة بين البديهي وما لا يصدق.

وبالعودة إلى موضوعنا، بمجرد أن يتم وضع تصور للمجال من خلال نماذجه وتأسيس أساطيره القابلة للتصديق، فإن طبيعة المجال ستشهد تحولاً. سيتوقف عن تأدية وظيفته باعتباره مجالاً علمياً مدفوعاً إلى حد كبير برغبة حقيقية في الاكتشاف العلمي، وستعتمد بنيته التحفيزية بدرجة كبيرة على تحقيق أهداف اقتصادية. واليوم، تستطيع الشركات زيادة مصداقية وعودها -وبالتالي قيمتها- من خلال الإعلان عن اعتمادها على التعلم الآلي. ويمكن أن يتخذ هذا الإعلان أشكالاً مختلفة؛ تتراوح من إنشاء مجموعاتها الخاصة للتعلم الآلي، إلى تغيير أسمائها إلى شيء مثل: القهوة الذكية اصطناعياً.

وكلما استطاعت الشركات إبراز اعتمادها على هذا المجال، بدت وعودها أكثر أصالة، واكتسبت قيمة أكبر. لكن هذا النهج ترافقه تداعيات واسعة النطاق؛ أولاً، سيخلق سوقاً مربحة للباحثين في المجال، ما سيحرم الجامعات من عدد كبير من الموارد، وسيدفع مَن تبقى من العاملين نحو أجندة قطاع الأعمال. ومن ناحية أخرى، فإن الميزانيات الكبيرة للشركات ستطلق حملات شرسة من أجل التسويق لمجموعات أو أرقام أو إنجازات معينة. علاوة على ذلك، فإن الرغبة الملحَّة للشركات في تحديد الكميات سوف تؤدي إلى تقييم أداء هذه المجموعات من خلال عدد المنشورات، بدلاً من جودتها التي يصعب قياسها إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، سيتم توجيه المجال نحو نظام إضافة المزيد من القدرات الحاسوبية؛ لأنه يمثل إحدى الطرق المباشرة للنشر. يتمتع هذا النظام بلا شك بحافز طبيعي آخر في قطاع الأعمال؛ حيث إن امتلاك المعدات الأفضل يمنح وعود الشركة مصداقية أكبر.

ولعل أسوأ تبعات ذلك يتمثل في انتقال عدوى هذا النهج إلى وكالات التمويل الحكومية، ومردُّ ذلك إلى الخصخصة. ويكمن الجانب المظلم من هذه المقولة في أنه إذا لم يتم نقل المهمة للقطاع الخاص، فيفترض بالحكومة أن تدَّعي أنها تمتلك قدرات تضاهي القطاع الخاص. فمثلاً في بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية -حيث السجون هناك نفسها تتم خصخصتها- يكون لدى الحكومة جميع الحوافز لإزاحة مشكلة التمويل ونقلها إلى القطاع الخاص. وفي المناطق التي لا تقوم فيها بذلك، فيجب أن تتبنى نفس معايير قطاع الأعمال لتقييم وتخصيص التمويل.

وهنا يبرز سؤال مهم: هل هذا الأسلوب مستدام؟ 

الجواب: لا؛ حيث تمتلك هذه العملية شكل موجة، ويكمن السبب وراء ذلك في أنها -في جوهرها- تعتمد على قابلية تصديق الأساطير التي تم إنشاؤها حول الإنجازات التي أطلقت العملية. لا يمكننا أن نحدد فعلاً ما سيقضي على موجة معينة، ولكن الأساطير ستموت بالتأكيد مع مرور الوقت؛ ويرجع ذلك إلى أن الشيء الوحيد الذي منح هذه الأساطير ضجيجها هو الزج بالخيال الذي وفَّره نموذج المجال. وبطبيعة الحال، يمكن لبعض الظروف تسريع عملية التخميد مثل ظهور موجة أخرى في مجال آخر.

أخيراً، أرى أنه لا توجد أي مشكلة تحتاج إلى حل في هذا الموضوع. أعتقد أنه ينبغي الاحتفاء بهذا باعتباره التفاعل الدوري الطبيعي بين العلم وقطاع الأعمال. من المؤكد أن له آثاره الجانبية، وبلا شك سيشعر العاملون في هذا المجال أثناء الموجة بتوترات التطور السريع تحت ضغط العمل، وهو تطور لا يسير بالضرورة في الاتجاه الأمثل. ومع ذلك، فإنهم سيتمتعون بالكثير من الفوائد.

المحتوى محمي