تقرير خاص

العقود الذكية: مستقبل الأعمال بين القانون والتكنولوجيا الرقمية

5 دقيقة
العقود الذكية: مستقبل الأعمال بين القانون والتكنولوجيا الرقمية والعناوين
حقوق الصورة: Shutterstock.com/GoodStudio

في عصر النهضة الرقمية المتسارعة، تعد العقود الذكية من أبرز الابتكارات التقنية التي تعيد تعريف مفاهيم العمل والعلاقات القانونية. وتعتمد هذه العقود على تقنية البلوك تشين لتنفيذ العقود دون الحاجة إلى وسيط بشري، ما يفتح أبواباً جديدة لتحسين الكفاءة وتوسيع الأفق القانونية. ولكن في الوقت الذي تتسارع فيه خطوات تطبيق هذه التقنية، يظل السؤال الأهم: هل يمكن أن تحل العقود الذكية محل العقود التقليدية أم أنها ستظل مجرد أداة داعمة لها؟

ما هي العقود الذكية؟

العقود الذكية هي برامج تضمن تنفيذ بنودها تلقائياً استناداً إلى شروط مبرمجة مسبقاً، وتستفيد من شبكة البلوك تشين لتخزين البيانات بشكل موزع، ما يجعلها غير قابلة للتعديل أو التلاعب. هذه العقود تعمل كشروط قابلة للتنفيذ تضمن التزام الأطراف كافة وفقاً لما تم الاتفاق عليه دون الحاجة إلى التدخل البشري. على سبيل المثال، في حالة شراء سيارة عبر الإنترنت، يكون العقد الذكي مصمماً وفق النحو الآتي:

  1. الحصول على بيانات العميل طالب الشراء.
  2. تقديم طلب العميل باختيار السيارة المطلوبة.
  3. التأكد من بنود العقد، وتتمثل البنود في (قيمة السيارة ونوعها ولونها وتفاصيلها الداخلية وطريقة الدفع والتزامات العميل والتزامات الشركة).

وستكون الطريقة العملية لإبرام العقد هي عبر الموقع الإلكتروني لشركة السيارات، الذي يطلع العميل من خلاله على العقد الذي يرغب فيه، وتتم تعبئة البيانات المطلوبة وتسديد قيمة السيارة والضغط على زر الـ "شراء". وتُحول ملكية السيارة فوراً إلى المشتري بمجرد تحقق الشروط المتفق عليها (مثل الدفع الكامل إلى حساب البائع عبر شبكة البلوك تشين)، وكل ذلك دون الحاجة إلى إجراءات قانونية تقليدية أو تدخل محامٍ.

تقنية البلوك تشين هي الأساس الذي تبنى عليه العقود الذكية، لأنها تتيح تخزين المعلومات عبر شبكة موزعة من الخوادم، ما يجعلها غير قابلة للتعديل. هذه المزايا تضمن الشفافية والأمان، إذ لا يمكن لأي طرف التلاعب بالبيانات أو تغيير بنود العقد إلا بموافقة الأطراف المعنية كافة. لذلك، تمثل العقود الذكية تحولاً جذرياً في الطريقة التي يتم بها توثيق المعاملات وتنفيذها.

وكما في المثال السابق، فإن إحدى أبرز مزايا هذه التقنية هي التنفيذ التلقائي، حيث تُنفذ العقد فوراً بمجرد تحقق الشروط المتفق عليها. وهذه العمليات التلقائية تعمل على تقليل التكاليف بشكل كبير، فضلاً عن تقليل فرص الخطأ البشري الذي قد يحدث في المعاملات القانونية التقليدية.

كيف يمكن للعقود الذكية تحويل عالمنا الواقعي؟

مؤخراً بدأت بعض الشركات العالمية استخدام العقود الذكية لتسهيل العمليات التجارية. على سبيل المثال، شركة دي بيرس De Beers الرائدة في مجال التنقيب عن الألماس تعتمد على تقنية البلوك تشين لتوثيق سلسلة توريد الألماس، بدءاً من استخراج المواد الخام للألماس حتى البيع النهائي، ما يضمن الشفافية والأصالة، هذا التطبيق لتلك التقنية يعزز الثقة بين الأطراف جميعهم ويقلل احتمالات التلاعب في الجودة أو المصدر.

وفي القطاع المالي، تتيح منصات مثل إيثيريوم إجراء المعاملات المالية عبر العقود الذكية دون الحاجة إلى وسطاء تقليديين. وهذه العمليات لا تقتصر على التحويلات المالية فحسب، بل تمتد أيضاً إلى إنشاء أسواق لمنتجات مبتكرة مثل الرموز غير القابلة للاستبدال المسماة NFTs، التي تمثل نوعاً من الأصول الرقمية التي تستخدم لتوثيق ملكية أصل معين عبر تقنية البلوك تشين، وتتميز تلك الأصول الرقمية أو الرموز غير القابلة للاستبدال بأنها:

  • غير قابلة للاستبدال، أي أن كل رمز هو رمز فريد من نوعه ولا يمكن استبداله بآخر بالقيمة نفسها. مثلاً، إذا كان لديك صورة رقمية أو مقطع موسيقي على شكل رمز غير قابل للاستبدال، فسيكون لديك ملكية رقمية لهذا العنصر لا يمكن تداولها بالطريقة نفسها التي تتداول بها العملات الرقمية.
  • التوثيق عبر البلوك تشين: تعتمد الرموز غير القابلة للاستبدال على تقنية البلوك تشين لتوثيق الملكية، حيث إن البلوك تشين يعد سجلاً رقمياً لا يمكن التلاعب به، ما يجعل ملكية الرمز غير القابل للاستبدال موثوقاً وشفافاً.
  • استخداماته متنوعة: تستخدم الرموز غير القابلة للاستبدال في مجالات متعددة مثل الفن الرقمي والألعاب الإلكترونية والموسيقى والعقارات الرقمية والعوالم الافتراضية، وأي أصول رقمية يمكن تحويلها.

كيف ستعيد العقود الذكية تشكيل العدالة القانونية؟

على الرغم من الفوائد العديدة التي تقدمها العقود الذكية، فإن هناك العديد من التحديات القانونية التي قد تقف عائقاً أمام تبنيها الواسع، ومن أبرز هذه التحديات هو تفسير الأكواد البرمجية لتلك العقود، حيث تعرف باسم الشيفرة البرمجية وتمثل مجموعة من الأوامر والتعليمات التي يكتبها المبرمج باستخدام لغة برمجة معينة، والتي تستخدم لتوجيه الكمبيوتر لأداء مهام معينة، وتتم كتابة العقد وتنفيذه على منصات بلوك تشين التي تدعم العقود الذكية مثل إيثيريوم، وهي منصة تسمح للمطورين بكتابة أكواد لتطبيقات لامركزية (dApps).

ومن لغات البرمجة المستخدمة سوليديتي (Solidity) التي تسمح للمطورين بكتابة تعليمات تحدد ما يجب أن يحدث في العقد الذكي. على سبيل المثال، يمكن أن يتضمن العقد الذكي تفاصيل مثل:

  • من هو الشخص الذي سيوقع العقد.
  • الشروط المالية (مثل تحويل الأموال عند التحقق من شرط معين).
  • تنفيذ إجراءات محددة عند تحقيق شروط معينة.

وعلى عكس العقود التقليدية التي تعتمد على لغة قانونية يمكن تفسيرها في المحكمة، في حال حدوث نزاع حول بنود العقد، فإن العقود الذكية تتطلب فهماً عميقاً للكود البرمجي الذي يحكم تنفيذها، ما يخلق صعوبة في تفسير النوايا البشرية وراء الشروط.

علاوة على ذلك، قد تواجه العقود الذكية مشكلات قانونية في المعاملات العابرة للحدود. على سبيل المثال لا الحصر، إذا نُفذ عقد ذكي بين أطراف في دول مختلفة، كيف يمكن تحديد أي قانون يجب أن يطبق في حالة نشوء نزاع؟ وهل سيكون للسلطات القضائية المحلية السلطة على هذه العقود؟ هذه الأسئلة تعد من التحديات الأساسية التي قد تؤخر تطبيق العقود الذكية في سياق قانوني عالمي.

وعلى الرغم من هذه التحديات، نلاحظ زيادة التوجه العالمي نحو تشريع العقود الذكية وتطوير إطار قانوني يواكب هذا التطور التقني. على سبيل المثال، تعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة من الدول الرائدة في هذا المجال، حيث أصدرت استراتيجية "بلوك تشين الإمارات" بهدف تمكين المؤسسات الحكومية من استخدام البلوك تشين والعقود الذكية في العديد من القطاعات مثل العقارات والخدمات العامة.

ومن المتوقع أن تسهم هذه التقنية في إعادة تعريف مفهوم الثقة في المعاملات التجارية، حيث تصبح الشفافية والأمان جزءاً من العملية التعاقدية بشكل تلقائي، ما يقلل فرص حدوث التلاعب أو الغش. فالعقود الذكية قد تكون الأداة التي تمكننا من تجاوز العديد من التعقيدات الإدارية والقانونية المعتادة، وتسهم كذلك في تحسين الكفاءة وتقليل التكاليف.

فمثلاً، إذا رغب شخص في شراء سيارة، ففي العقد التقليدي، يتطلب الأمر خطوات عديدة مثل توقيع الأوراق والتحقق من الملكية، وأحياناً تدخل أطراف ثالثة مثل محامٍ أو جهة حكومية. ولكن باستخدام العقد الذكي، تسجل شروط الاتفاق وبنود العقد كلها على منصة بلوك تشين. وعند استيفاء البائع الشروط المتفق عليها، مثل تسليم السيارة، يفعّل العقد تلقائياً لدفع المبلغ المتفق عليه من المشتري. كل ذلك يحدث دون الحاجة إلى وجود طرف ثالث، وتجري المعاملة بشكل آمن وشفاف. حيث يتأكد العقد الذكي من أن كل شيء تم تنفيذه بالشكل الصحيح، ما يضمن حقوق الطرفين ويقلل فرص التلاعب أو الغش.

وعلى الرغم من أن هذه التقنية تحمل في طياتها وعوداً بتغيير القواعد الأساسية لمفهوم التقنية وربطها بالنظام التقليدي، نرى أنها لا تلغي دور المحامين والقضاة، بل على العكس من المتوقع أن تصبح العقود الذكية حليفاً قوياً للنظام القانوني التقليدي وليس بديلاً له.

خلاصة القول، تعدنا العقود الذكية بتنفيذ العقد بمجرد تحقيق شروطه، وتتسارع الإجراءات القانونية دون الحاجة إلى الوسطاء المعتادين. ومن خلالها تصبح المعاملات أكثر شفافية وأقل تكلفة. لا مزيد من الأوراق المكدسة، ولا المواعيد الطويلة للطلبات والإجراءات الحكومية. إلا أنه على الرغم من هذه المزايا كلها، يبقى الإنسان، بحكمته وحسه القانوني العميق، العنصر الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لأن العدالة ليست مجرد تطبيق لخوارزميات أو قوانين جامدة، بل هي تجسيد للقيم الإنسانية التي تأخذ في اعتبارها التعقيدات التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفهمها بالكامل. فحتى مع كفاءة العقود الذكية في المعاملات البسيطة، فإن القضايا التي تتطلب تحكيماً بشرياً وفهماً عميقاً للظروف والأخلاقيات، ستظل بحاجة إلى القضاة والمحامين الذين يستطيعون تقديم حلول عادلة تتجاوز مجرد تنفيذ الشروط.

إذاً في هذا المزيج المدهش بين التقنية والقانون، لا نرى العقود الذكية حلاً نهائياً، بل أداة مبتكرة تعمل جنباً إلى جنب مع القيم القانونية القديمة، وذلك لتحسين الكفاءة وتحقيق العدالة بشكل أسرع وأكثر شفافية.

فكما الحال في أي تحول عميق، ستظل هناك الحاجة إلى توازن بين القوة الرقمية والحكمة البشرية لضمان أن تبقى العدالة حية وواقعية في عالم يتغير بسرعة.

ختاماً:

التكامل بين القانون التقليدي والتكنولوجيا الحديثة سيحتاج إلى توازن دقيق بين استجابة الأنظمة القانونية لأحدث التطورات التقنية، والحاجة إلى تطوير نهج قانوني جديد يتسم بالمرونة والتفهم للتقنيات التي تسهم في تغيير هيكل النظام القضائي.

إن العقود الذكية لا تمثل مجرد ابتكار تقني، بل هي نقلة نوعية في الطريقة التي ندير بها العلاقات القانونية. إذ إنه في الوقت الذي توفر فيه هذه التقنية فرصاً لتحسين الكفاءة وتقليل التكاليف، فإن التحديات القانونية تظل بحاجة إلى حلول مبتكرة لضمان توافقها مع الأنظمة القضائية الحالية.

لذلك لا يزال الطريق نحو تطبيق العقود الذكية طويلاً، لكننا نسير به بسرعة، ما يتيح لنا تصور عالم قانوني أكثر شفافية وأماناً وكفاءة. وهذا يبرز سؤالاً محورياً: هل تعد الأنظمة القانونية الحالية جاهزة أو مستعدة لتبني العقود الذكية وتنظيم تطبيقها؟

المحتوى محمي