توطئة: هنالك مجالٌ واسعٌ في الأسفل!
أثناء الاجتماع السنوي للجمعية الفيزيائية الأميركية سنة 1959 في معهد كاليفورنيا للتقنية (كالتيك Caltech)، وقف عالم الفيزياء النظرية الشهير ريتشارد فاينمان ليلقي محاضرةً تاريخية يُنظر لها -على نحوٍ واسع- بأنها حجر الأساس في انطلاق الأبحاث والجهود العلمية المرتبطة بتصغير تقنيات التصنيع لتصل حتى الأبعاد الذرية، وهي التقنية المعروفة اليوم باسم "التقانة النانوية Nanotechnology". حملت محاضرة ريتشارد فاينمان خلالها عبارة لا يزال صداها يتردد في كل مرة يتم الحديث عن التقانة النانوية؛ "هنالك مجالٌ واسعٌ في الأسفل There's plenty of room at the bottom"، وهو اصطلاحٌ عنى به فاينمان أن كل التقنيات التي نمتلكها قابلة للتحسين على نحوٍ جذريّ إن تم تصغير تقنيات معالجة المواد لتصل حتى الحدود الذرية.
يقول فاينمان خلال محاضرته الشهيرة: "مبادئ الفيزياء -كما أرى- لا تتعارض مع إمكانية التلاعب بالأشياء ذرةً تلو الأخرى. لا يمثل هذا محاولة للإخلال بأي قانون فيزيائي، وبدلاً من ذلك فهو يمثل أمراً قابلاً للتطبيق من حيث المبدأ، ولكن الواقع يشير إلى أنه لم يتم تطبيقه لأننا ما زلنا نعمل على مقياسٍ كبيرٍ جداً". لم يعلم ريتشارد فاينمان آنذاك كيف سنكون قادرين على التلاعب بالأمور ذرةً تلو الأخرى؛ إذ لم تتوافر آنذاك التقنيات اللازمة لذلك، ولكنه كان من المبشرين والمتحمسين لمشاهدة ما الذي يمكن صنعُه عند توافر مثل تلك التقنية.
بعد حوالي ربع قرنٍ من هذه المحاضرة الشهيرة، أتى شخصٌ آخر يحمل معه أحلاماً وطموحاً كبيرين يُدعى منير نايفة، فساهم عبر أبحاثه وعمله الطويل والدؤوب في تحويل أحلام وأفكار ريتشارد فاينمان إلى حقيقةٍ ملموسة؛ حيث قام بدراسة الذرات وطور تقنيات كشفها والتلاعب بها بشكلٍ منفرد، وابتكر تقنيات اصطناع المواد عند الأبعاد الذرية، ليُصبح أحد رواد التقانة النانوية وأبرز أعلامها في يومنا هذا.
النشأة والدراسة
ولد البروفيسور منير نايفة في قرية شويكة في فلسطين بالقرب من مدينة طولكرم سنة 1945، وانتقل مع عائلته للأردن بعد حرب النكبة سنة 1948، حيث أتم تعليمه الثانوي هناك لينتقل بعد ذلك للجامعة الأميركية في بيروت ويحصل منها على درجة الإجازة ثم الماجستير في الفيزياء سنة 1970، وحصل بعد ذلك على منحةٍ دراسية ليتخصص بمجال الفيزياء الذرية والعلوم الليزرية ويحصل على درجة الدكتوراه من جامعة ستانفورد الأميركية سنة 1974.
عمل منير نايفة باحثاً لمرحلة ما بعد الدكتوراه في مختبر أوك ريدج الوطني حتى سنة 1977، كما قام بالتدريس في جامعة يال ضمن قسم الفيزياء إلى أن انتقل للعمل في جامعة إلينويز سنة 1978، حيث لا يزال يعمل هناك حتى وقتنا هذا في منصب أستاذ الفيزياء. قام البروفيسور نايفة بتأليف أكثر من 180 ورقة بحثية والعديد من الكتب المرجعية في مجالات الفيزياء والليزر والتقانة النانوية، ويحمل في جعبته العديد من براءات الاختراع في مجال اصطناع الجزيئات السيليكونية النانوية.
عمل بحثي وقيمة صناعية
ُيّركز البروفيسور نايفة ضمن عمله البحثي في الوقت الحاليّ على خطين بحثيَّيْن: الأول عبارة عن برنامج نظري يركز على البحث في دور ديناميك الفوضى الكلاسيكي في ذرات الهيدروجين، وذلك ضمن الحقول الكهربائية عالية الشدة والناتجة عن التيار الكهربائي المستمر. أما الخط البحثي الآخر فهو برنامج تجريبي قام البروفيسور نايفة بتسميته "الكتابة بالذرات Writing with Atoms"؛ يهدف هذا البرنامج لإنشاء أنماط وأشكال دقيقة بأبعاد من المرتبة الذرية (أي النانومتر)، وذلك بالاعتماد على تقنيات مجهر المسح النفقي (STM) والليزرات عالية الطاقة، وهي التقنية التي يعود الفضل الأساسيّ للبروفيسور نايفة في تطويرها. وبشكلٍ عام، فإن اسم البروفيسور نايفة وسمعته في المجال العلمي والأكاديمي مبنيّان على أبحاثه المبتكرة في مجال الجزيئات النانوية والمواد السليكونية.
بدأت الإنجازات البحثية للبروفيسور نايفة خلال إعداده لنيل درجة الدكتوراه في جامعة ستانفورد؛ إذ عمل تحت إشراف البروفيسور ثيودور هانش (Theodor Hansch) والبروفيسور آرثر شوالو (Arthur Schalow) -اللذَيْن حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 2005- على إجراء قياسٍ دقيق لثابت ريدبرج، الذي يُعتبر أحد الأساسيات في مجال القياسات الليزرية وأبحاث ذرات الهيدروجين، وهو العمل الذي تم اعتباره أحد أهم الأحداث في مجال الفيزياء سنة 1974، وتم تضمينه كأحد أهم الأعمال في النشرة الخاصة الصادرة عن الدورية العلمية المرموقة "مراجعة الفيزياء الأميركية (American Physical Review)" ضمن احتفاليتها بمناسبة 100 عام على تأسيسها، كما تم الاحتفاء بهذا الإنجاز من قِبل مختبر أوك ريدج الوطني ضمن الاحتفالية الخاصة بالذكرى الخمسين على تأسيسه. نتج عن هذا العمل ورقة بحثية شهيرة تعتبر من المراجع الهامة في مجال الفيزياء الذرية.
عمل البروفيسور نايفة بعد التحاقه بجامعة إلينويز على تطوير برنامجٍ تجريبيّ من أجل دراسة التفكك اللاخطي للفوتونات؛ وذلك بهدف تحسين انتقائية التفكك، وكان أول من أظهر انفصال النظائر اعتماداً على هذه الطريقة، كما أنه يعتبر أول عالم فيزياء تمكن من توضيح وإظهار سلوك جزيئات الهيدروجين في حقول الليزر الشديدة. أولى الأعمال البحثية الهامة كانت العمل على كشف ذرات السيزيوم (Cesium) المنفردة اعتماداً على تقنية المطيافية الشاردية الاهتزازية (Resonance Ionization Spectroscopy)، الذي نتج عنه ورقة بحثية هامة صدرت سنة 1977 ضمن الدورية المرموقة "رسائل الفيزياء التطبيقية (Applied Physical Letters)". تكمن أهمية هذا البحث بقدرة التقنية المطورة به على كشف ذرات السيزيوم المنفردة ضمن تجمعاتٍ ذرية كبيرة.
انتقل البروفيسور نايفة بعد ذلك للبحث في مجال اصطناع الجزيئات على الأبعاد النانوية، وهي نفسها الأبعاد الذرية، وتحديداً في مجال اصطناع الجزيئات السيليكونية النانوية؛ حيث يلعب السيليكون دوراً بالغ الأهمية في الصناعة الإلكترونية وتقنية أشباه الموصلات، ويعتبر العمود الفقري للكثير من التطبيقات التي نستخدمها كل يومٍ في حياتنا اليومية، مثل الحواسيب الشخصية والهواتف الذكية. ومن أجل استثمار أعماله البحثية بشكلٍ تطبيقيّ، قام البروفيسور نايفة بتأسيس شركة نانوسي NanoSi المختصة بتطبيقات الجسيمات السيليكونية في مجالاتٍ متعددة، وكان من أهم إنجازاته الأخيرة في هذا المجال هو تطوير تقنيات قادت لاصطناع جسيمات سليكونية نانوية عالية السطوع بالألوان الأحمر والأخضر والأزرق، والتي يمكن تشكيلها ضمن شرائح رقيقة بالغة النحف. لقي هذا الإنجاز حفاوةً كبيرة في المجتمع العلميّ، وتم ذكره من قِبل العديد من المجلات والدوريات العلمية المرموقة مثل عالم الفيزياء (Physics World) ودورية نيتشر.
منشورات علمية ومناصب أكاديمية
بالإضافة للأوراق البحثية المتعددة التي قام البروفيسور نايفة بنشرها، فقد ساهم أيضاً في نشر العديد من الكتب العلمية المرجعية، وأشهرها كتاب "الكهرباء والمغناطيسية (Electricity and Magnetism)" الصادر عن دار نشر وايلي سنة 1985، وثاني كتبه الهامة هو "الذرات في الحقول الشديدة (Atoms in Strong Fields)" الصادر سنة 1990 عن دار نشر سبرينجر (Springer) والذي يمثل تلخيصاً لمجموعةٍ من المحاضرات الملقاة ضمن معهد الأبحاث المتقدمة التابع لحلف الناتو، والتي تغطي موضوعين أساسيين: الأول هو ديناميكية الحالات المثارة في الحقول الكهربائية والمغناطيسية الساكنة، والآخر هو تفاعل الذرات والجزئيات ضمن الحقول الليزرية الشديدة. قام البروفيسور نايفة مؤخراً بنشر كتابٍ مرجعيّ من خبرته الكبيرة في مجال اصطناع الجسيمات النانوية السيليكونية هو "أساسيات وتطبيقات السيليكون النانوي في المواد البلازمونية والفوليرنية: الاتجاهات الحالية والمستقبلية (Fundamentals and Applications of Nano Silicon in Plasmonics and Fullerines)" الصادر سنة 2018 عن دار نشر إلسفير (Elsevier).
لا تقتصر السيرة الذاتية للبروفيسور نايفة على الإنجازات التي حققها أثناء عمله باحثاً في الولايات المتحدة الأميركية أو الكتب والمنشورات التي ساهم في إصدارها؛ إذ شغل العديد من المناصب الأكاديمية الهامة في المنطقة العربية مثل ترأس المجلس الاستشاري لمركز التميز البحثي للتقانة النانوية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ومنصب نائب رئيس مجلس العلوم الدولي في معهد الملك عبد الله لتكنولوجيا النانو في جامعة الملك سعود، وأيضا بدور مستشار مركز تميز تقنية النانو في جامعة النجاح في فلسطين، كما ساهم في تأسيس وإدارة شبكة العلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج، وقام مراراً بزيارة مؤسسات البحوث والتنمية في العالم العربي وتعاون معها، كما أن له العديد من المحاضرات الهادفة لنشر مبادئ وأفكار التقانة النانوية في المنطقة العربية، وخصوصاً في بلده الأم فلسطين.