الرجل الذي يحول الصين إلى قوة عظمى كمومية

7 دقائق
مصدر الصورة: نوا شيلدون

في 29 سبتمبر من العام 2017، أصبح من الممكن تحقيق الاتصال المباشر بالفيديو بشكل غير قابل للاختراق بين فيينا وبكين، اللتين تفصل بينهما مسافة شاسعة، وذلك بفضل القمر الاصطناعي الصيني ميسيوس. فخلال عبوره السماءَ بسرعة 29,000 كيلومتر في الساعة، قام القمر الاصطناعي ببث رزمة بيانات صغيرة إلى محطة أرضية في شينجلونج، التي تبعد حوالي ساعتين بالسيارة عن بكين، وبعد أقل من ساعة، عبر القمر فوق النمسا وأطلق رزمة بيانات أخرى إلى محطة قرب مدينة جراز.

كانت الرزمتان عبارة عن مفاتيح تشفير لحماية بث البيانات. وقد تميز هذا الحدث بأن المفاتيح التي بثها القمر كانت مرمّزة على شكل فوتونات في حالة كمومية حساسة؛ بحيث تؤدي أية محاولة لفك ترميزها إلى انهيار هذه الحالة وتدمير المعلومات، مما يشير إلى وجود محاولة متعمدة للاختراق. وهو ما يعني أن هذه المفاتيح كانت أفضل حماية بكثير من المفاتيح التي تُرسل على شكل بتات تقليدية، أي سلسلة من النبضات الكهربائية أو الضوئية التي تمثل مجموعة من الآحاد والأصفار، التي يمكن قراءتها ونسخها.

شُفر اتصال الفيديو بشكل تقليدي، لا كمومي، ولكن كانت حمايته مضمونة بفضل المفاتيح الكمومية المطلوبة لفك تشفيره، وهكذا حصلنا على أول وصلة فيديو كمومية التشفير وعابرة للقارات.

ويعود معظم الفضل في هذا الإنجاز إلى جيان وي بان، وهو بروفسور في جامعة الصين للعلوم والتكنولوجيا (USTC)، التي تُعرف في بعض الأحيان باسم "معهد كالتيك الصيني"؛ فقد حقق بان البالغ من العمر 48 سنة مجموعة من الإنجازات التي أوصلته إلى موقع النجومية العلمية في بلاده، وحاز عمله على عدة ثناءات من الرئيس شي جينبيغ، كما يشير إليه الإعلام المحلي في أغلب الأحيان بلقب "الأب الكمومي".

ما زالت تكنولوجيات الاتصالات والحوسبة الكمومية في بداياتها، ولكنها تُعتبر جزءاً من "المشاريع العملاقة" التكنولوجية التي تريد الحكومة الصينية تحقيق إنجازات فيها بحلول العام 2030، حيث ترى الصين أنها قد تتمكن من قيادة الحقبة الكمومية الجديدة بنفس الطريقة التي هيمنت فيها الولايات المتحدة على تكنولوجيات الحواسيب وثورة المعلومات التي أطلقتها. ويُعتبر بان -الذي أصبح في 2011 أصغر عضو على الإطلاق في الأكاديمية الصينية للعلوم- مركزياً في هذا التوجه.

وفي مقابلة مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو، تحدث بان عن أهمية التعاون الدولي، ولكنه أوضح أيضاً أن الصين ترى في هذا العمل فرصةً فريدة حتى تقود عملية صياغة النقلة الضخمة الجديدة في المشهد التكنولوجي، قائلاً: "لطالما كنا في موقع التابع والمتعلم في بدايات علوم المعلومات الحديثة، أما الآن فلدينا فرصة للتحول إلى قادة".

يطمح بان إلى بناء شبكة عالمية من الأقمار الاصطناعية التي ستُبنى عليها شبكة إنترنت كمومية تتمتع بحماية شديدة. كما تتضمن قائمة طموحاته مساعدة الصين على اللحاق بالولايات المتحدة -بل ربما التفوق عليها- في بناء الحواسيب الكمومية القوية؛ حيث تعتمد الآلات على وحدات أساسية للقيام بعملية الحوسبة تحمل اسم الكيوبت، وعلى عكس البتات التقليدية، تستطيع الكيوبتات أن تحمل الحالتين الكموميتين 1 و0 في نفس الوقت. وبربط الكيوبتات عن طريق ظاهرة (شبه سحرية) تسمى التشابك الكمومي، تستطيع الحواسيب الكمومية توليد زيادة مضاعفة في استطاعة الحوسبة.

وفي المستقبل، يمكن استخدام هذه الآلات لاكتشاف مواد وأدوية جديدة عن طريق عمليات محاكاة التفاعلات الكيميائية التي تعجز عنها الحواسيب التقليدية، كما يمكن أيضاً أن تقدم دفعة كبيرة للذكاء الاصطناعي. وباستخدام طريقة توزيع المفاتيح الكمومية (QKD) في الشبكات المحمية، فمن الممكن بث بيانات حساسة لأشياء مثل التعاملات المالية، وتأمين أقصى درجة من السرية للعمليات والاتصالات العسكرية. ويعمل الباحثون أيضاً على بناء حساسات كمومية تسمح للغواصات بالحركة دون الاعتماد على إشارات الأقمار الاصطناعية، بالإضافة إلى رادار كمومي قد يتمكن من كشف الطائرات الشبحية.

تبين صورة نظام الاستقبال الليزرَ الإرشادي المستخدم لمساعدة القمر الاصطناعي على الاتصال بالمحطة الأرضية.

جهود مشتركة
على الرغم من اشتداد التنافس الأميركي الصيني في التكنولوجيات الكمومية، فإن اتصال الفيديو الذي نُفذ باستخدام القمر الاصطناعي ميسيوس -الذي يحمل اسم عالم وفيلسوف صيني قديم- يمثل نتيجة تعاون دولي.

فقد نتج هذا العمل عن تعاون بين فريق يقوده بان وفريق آخر يقوده أنتون زيلينجر، وهو فيزيائي كمومي في الأكاديمية النمساوية للعلوم. كان زيلينجر مشرف رسالة الدكتوراه التي قدمها بان في التسعينيات، ورأى في ذلك الوقت القدراتِ الكامنةَ في ذلك الطالب الصيني الشاب. ويستذكر زيلينجر قائلاً: "عندما أتى إلى هنا، كان يركز بالكامل على الفيزياء النظرية. ولكنني أدركت أنه قادر على تحقيق المزيد، فاقترحت عليه الانتقال إلى التجارب، وقد حقق ذلك بنجاح باهر".

كان نجاح بان كافياً لدرجة أن أستاذه السابق شعر بالسرور عندما عرض بان عليه التعاون في تجربة QKD عبر القارات في 2011. كان فريق بان قد أجرى تجارب سابقة خلال عدة سنوات لإثبات إمكانية نجاح نظام فضائي كهذا، وحصل في نهاية المطاف على موافقة الحكومة الصينية لبناء قمر اصطناعي مخصص لذلك، وقد تم إطلاق هذا القمر إلى الفضاء في 2016.

وبما أن نجاح نظام QKD على الأرض أمر صعب بحد ذاته، فإن بناءه باستخدام قمر اصطناعي يتطلب حل عدد من المشاكل الإضافية؛ بدءاً من تحقيق التراصف الدقيق للقمر الاصطناعي مع المحطات الأرضية لإنجاح عمليات البث، وصولاً إلى تقليل ضياع الفوتونات في الغلاف الجوي. يرى هوي كوونج لو، وهو بروفسور فيزياء في جامعة تورونتو، أن التجربة أثارت إعجاب المراقبين، ويقول: "تكرس الصين موارد كبيرة للتكنولوجيات الكمومية، مما يعني إنها قادرة على تحقيق إنجازات تعجز عنها البلدان الأخرى".

ويتوقع بان أن مراكز البيانات حول العالم ستصبح يوماً ما متصلة عبر شبكة الأقمار الاصطناعية الكمومية التي يخطط لبنائها.

وتتضمن الإنجازات الصينية أيضاً بناء أطول شبكة QKD أرضية. وقد تم بناء الوصلة الأرضية بين بكين وشنغهاي بطول 2,032 كيلومتر بإشراف بان أيضاً، وتقوم بإرسال المفاتيح المشفرة كمومياً بين المحطات الوسطية، مما يزيد من أمان الشبكة إلى حد كبير، ويسمح ببث البيانات المالية مثلاً، أو غير ذلك من البيانات الحساسة. كما أن بعض المدن الصينية بدأت تبني شبكات محلية خاصة بها.

وليس من السهل أن نحدد بالضبط استثمارات الصين في هذه المشاريع الكمومية وغيرها؛ لأن تفاصيل تمويل البرامج الحكومية ليست متاحة للجميع. ولكن بان يقول إن الأموال المخصصة لمشروع كمومي مستقبلي على مستوى الصين ستكون "على الأقل من نفس مرتبة" مشروع التكنولوجيات الكمومية الأساسية الذي أطلقته أوروبا مؤخراً، وهو مبادرة تمتد على فترة 10 سنوات بقيمة مليار يورو، أو 1.1 مليار دولار.

لا شك في أهمية المسائل المالية بطبيعة الحال، ولكن نجاح الصين لا يقتصر على تمويل بناء الأقمار الاصطناعية أو غير ذلك من المشاريع؛ حيث إن البلاد تستفيد أيضاً من إستراتيجية تعود إلى عدة عقود من الزمن وتقوم على إرسال الباحثين الشباب إلى الخارج للتعلم من الخبراء مثل زيلينجر، ومن ثم تشجيعهم على متابعة العمل داخل الوطن.

ويُذكر أن الصين تنتج الكثير من الأبحاث العلمية عالية المستوى حول التكنولوجيات الكمومية، كما تم تسجيل عدد كبير من براءات الاختراع الصينية في مجالات مثل الاتصالات الكمومية والتشفير الكمومي، بحيث تخطت في عددها براءات الاختراع المسجلة في الولايات المتحدة وغيرها.

وتعمل الصين على بناء المختبر الوطني لعلوم المعلومات الكمومية في مدينة هيفي للمساعدة على تأهيل الباحثين المستقبليين في المجالات الكمومية، وسيُفتتح هذا المختبر في 2020، وتصل تكلفته إلى مليار دولار، وسيتضمن مجموعة كبيرة ومتنوعة من الخبراء في عدة اختصاصات، مثل الفيزياء والهندسة الكهربائية وعلوم المواد. كما سيُخصَّص جزءٌ من التمويل لبناء مجمع جديد لجامعة الصين للعلوم والتكنولوجيا في نفس المكان لتدريب الباحثين في المجالات الكمومية. يقول بان: "نحن نعمل بجد على تطوير قوة العمل التي سنعتمد عليها في المستقبل من أجل التكنولوجيا الكمومية".

وقد أسَّس بان من قبل مركز المعلومات الكمومية والفيزياء الكمومية في جامعة الصين للعلوم والتكنولوجيا، وفي يونيو من 2018، أعلن فريقٌ في المركز أنه حقق رقماً قياسياً جديداً في عدد الكيوبتات المتشابكة، حيث وصل إلى 18. وبفضل إنجازات كهذه، بدأنا نقترب من المرحلة التي ستتمكن فيها الآلات الكمومية أخيراً من التفوق حتى على أقوى الحواسيب الخارقة التقليدية في بعض المهام.

هناك أيضاً طموحات لتوسيع العمل في الفضاء؛ حيث يقول بان إن الصين ستقوم خلال السنوات الثلاثة أو الأربعة المقبلة بإطلاق المزيد من الأقمار الاصطناعية الكمومية إلى المدار الأرضي الأدنى، كما ستتبعها بعد ذلك بفترة قصيرة أقمار اصطناعية أخرى في أعالي المدار الأرضي المستقر. وتتضمن الخطة بعيدة المدى بناء شبكة إنترنت كمومية الحماية تمتد على عدة قارات، ويمكن أن تتفوق بسهولة على الشبكة الحالية. ولاحقاً، يمكن أن تُستخدم هذه التكنولوجيا يوماً ما لحماية كل شيء، بدءاً من الهواتف الذكية وصولاً إلى الحواسيب المحمولة.

جيان وي بان، أحد قادة التوجهات الكمومية الصينية، واقفاً أمام المستقبِل المستخدَم في بث الإشارات عالية الحماية من القمر الاصطناعي ميسيوس.

القائد والمتقاعس
إذن، هل يمكننا القول بأن الصين مستعدة فعلاً للهيمنة على الحقبة الكمومية المقبلة؟ وكيف ستستخدم هذه الهيمنة إذا تمكنت فعلاً من تحقيقها؟

تتضمن الإجابة عن السؤال الأول الكثير من التفاصيل. فمن ناحية، تمتلك الصين الأفضلية في الاتصالات الكمومية المحمية بفضل ميسيوس وشبكات QKD الأرضية، ولكن من ناحية أخرى، ما زالت متأخرة عن الولايات المتحدة في الحوسبة الكمومية. غير أن نجاح فريق بان في تحقيق تشابك الكيوبتات يثبت أنها تحقق تقدماً سريعاً، كما أن الشركات التكنولوجية الكبيرة في الصين تستثمر الكثير من الأموال في الحوسبة الكمومية أيضاً، فقد أطلقت علي بابا خدمة حوسبة سحابية تسمح للمستخدمين بإجراء التجارب على المعالجات الكمومية، بشكل مماثل لما تقدمه شركات أميركية مثل آي بي إم وريجيتي.

ويلحظ أيزاك تشوانج، وهو بروفسور في إم آي تي وأحد رواد الحوسبة الكمومية، أن أحد أسباب نجاح الصين في العلوم الكمومية هو التنسيق الوثيق بين مجموعاتها البحثية الحكومية، والأكاديمية الصينية للعلوم، والجامعات الصينية. وقد وضعت أوروبا خطتها الشاملة الخاصة بها لتحقيق تنسيق مماثل، ولكن الولايات المتحدة كانت بطيئة في وضع إستراتيجية شاملة لتطوير هذه التكنولوجيات وبناء قوة العمل الكمومية المستقبلية.

ولكن مهما حدث في أنحاء العالم، فسوف تواصل الصين تقدمها. ويؤكد بان على أهمية الفرص التجارية أيضاً، فقد بدأت الشركات باستخدام الشبكة بين بكين وشنغهاي لنقل المعلومات بشكل محمي، ويتوقع أن مراكز البيانات حول العالم ستصبح يوماً ما متصلة عبر شبكة الأقمار الاصطناعية الكمومية التي يخطط لبنائها.

وبطبيعة الحال، يمكن استخدام هذه الأقمار الاصطناعية للأغراض العسكرية أيضاً. وتقول إلسا كانيا، التي تعمل في مجموعة دراسات في واشنطن العاصمة باسم مركز الأمن الأميركي الجديد، إن العديد من أقسام القوات المسلحة الصينية تقدم التمويل للأبحاث في الاتصالات والحساسات والرادارات الكمومية. كما تعمل الشركات الكبيرة، مثل شركة صناعات بناء السفن الصينية -وهي من أكبر الشركات التي تبني السفن الحربية والغواصات في الصين- بشكل مشترك مع الجامعات في المشاريع الكمومية. وإذا رأت الصين أن هذه التكنولوجيا قد تعطيها أفضلية عسكرية، فقد تخفف من المشاريع المشتركة الدولية وتحتفظ بابتكاراتها لنفسها.

غير أن وجهات النظر الأكثر تفاؤلاً تقول إن الصين ستبقى منفتحة على جميع أنواع العمل المشترك التي ساعدت على تحويلها إلى قوة عظمى كمومية، وستبذل كل ما في وسعها لبناء اقتصاد جديد يعتمد على البيانات الكمومية. ويبدو أن طموح الصين في تحقيق الصدارة أصبح مصدر إلهام لكبار المسؤولين؛ فقد تحدث شي جينبينغ علناً عن أن العلوم الكمومية ستطلق "ثورة صناعية جديدة". ومهما يكن السيناريو الفعلي، فلا شك أن الصين ستعتمد على الأب الكمومي إلى حد كبير لتحقيق النجاح.

المحتوى محمي