هل يقود الاعتماد على الذكاء الاصطناعي إلى خمول العقل؟

4 دقيقة
هل يقود الاعتماد على الذكاء الاصطناعي إلى خمول العقل؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/Rob Hyrons

ما الذي سيحدث للكاتب الذي لم يعد يجد صعوبة في اختيار العبارة المثالية أو المصمم الذي لم يعد يرسم عشرات الأشكال المختلفة قبل أن يجد الصيغة المناسبة؟ هل ستضعف قدراتهم كما أضعف الاعتماد على نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" مهارات الملاحة لدى البشر؟

هذه التساؤلات يثيرها أستاذ إدارة الأعمال الدولية في جامعة ساوث كارولاينا بالولايات المتحدة، وولفغانغ ميسنر، الذي يرى أن ما بدأ كطريقة سهلة لأتمتة المهام المتكررة قد يتحول إلى حلقة مفرغة من تراجع الأصالة، ليس لأن أدوات الذكاء الاصطناعي تنتج محتوى رديئاً، بل لأنها تضيق بهدوء نطاق الإبداع البشري نفسه.

مخاوف من تأثير الذكاء الاصطناعي في القدرات الذهنية للبشر

شهدنا خلال السنوات الأخيرة تطوراً هائلاً في تقنيات الذكاء الاصطناعي ودخولها في شتى مجالات حياتنا اليومية. فالذكاء الاصطناعي يكتب النصوص ويرسم الصور ويحلل البيانات، بل ويساعدنا على اتخاذ القرارات عبر تطبيقات وتوصيات ذكية. لكن هذا التغلغل يثير مخاوف حول مستقبل القدرات الذهنية للبشر. فعلى الرغم من أن صعود الذكاء الاصطناعي قد يدفع باتجاه ثورة معرفية، لكنه يحمل في طياته جوانب سلبية قد تقود إلى الرتابة والتقليد في الإنتاج الفكري والجمود في الإبداع.

بيد أن هذه المخاوف ليست وليدة اللحظة، إذ أثارت التقنيات الجديدة تاريخياً قلقاً بشأن آثارها المعرفية، بدءاً من اعتراض سقراط على الكتابة بدعوى أنها تضعف الذاكرة، مروراً بمخاوف رجال الدين في العصور الوسطى من المطبعة، وانتهاءً بقلق معلمي الرياضيات من الآلة الحاسبة والإنترنت.

وتشير دراسة حديثة نشرها باحثون من شركة مايكروسوفت إلى أنه على الرغم من الفوائد التي أثبتتها هذه التقنيات لاحقاً، فإن التحذيرات التي أثيرت في البداية كانت مبررة. إذ أثبت التاريخ أن الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا يمكن أن يؤدي إلى تدهور في القدرات الذهنية. وكما تضعف العضلات الجسدية عند قلة الاستخدام البدني، قد يفضي الاعتماد المبالغ فيه على تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى ضمور معرفي أو تراجع في ملكات التفكير والتعلم لدى الإنسان.

يحذر ميسنر، في مقالة نشرتها جامعة ساوث كارولينا الأسبوع الماضي، من أن الخطر الحقيقي لا يكمن في فشل الذكاء الاصطناعي نفسه بقدر ما يكمن في رضا الناس بمخرجاته المتوسطة وقبولهم لها كمعيار جديد. فعندما يصبح كل شيء سريعاً وسهلاً وجيداً بما فيه الكفاية، فإننا نخاطر بفقدان العمق والتفاصيل والثراء الفكري الذي يميز العمل البشري. ويشير إلى أن الثورة الصناعية، حين استبدلت الحرف اليدوية بالإنتاج الآلي، أتاحت تصنيع السلع بكفاءة وعلى نطاق واسع، لكنها في المقابل جردت المنتجات من طابعها الفردي وتراجعت الحرفية إلى الهامش، لتبدو وكأنها نوع من الترف. واليوم، ثمة خطر مماثل مع أتمتة عمليات التفكير.

اقرأ أيضاً: كيف نجعل الذكاء الاصطناعي معزّزاً للذكاء البشري؟

الذكاء الاصطناعي قد يضعف التفكير النقدي والقدرة على اتخاذ القرار

على الرغم من الفوائد الواسعة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، فإن الاعتماد المفرط عليه في مجالات التفكير واتخاذ القرارات يطرح مخاطر حقيقية على المستويين المعرفي والسلوكي. أحد هذه المخاطر هو ما يسميه العلماء تفويض المهام العقلية أو "التفريغ المعرفي" الذي يحدث عندما يعهد الإنسان إلى الآلة بأداء المهام الذهنية نيابة عنه بشكل متكرر.

وتشير دراسة نشرت في مجلة "سوسيتيز" إلى أن الاعتماد المتكرر على أدوات الذكاء الاصطناعي قد يؤثر سلباً في قدرتنا على حل المشكلات الروتينية وتذكر المعلومات واتخاذ القرارات، كما يظهر الأشخاص الذين استخدموا أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل متكرر ضعفاً في قدرات التفكير النقدي. وكان هذا التأثير أكثر وضوحاً بين الأفراد الأصغر سناً، بينما يميل أصحاب التعليم العالي إلى الاحتفاظ بمهارات تفكير نقدي أقوى بغض النظر عن مدى اعتمادهم على أدوات الذكاء الاصطناعي.

ويتجلى جانب آخر من المخاطر فيما يعرف باسم "الانحياز للآلة"، وهو الميل إلى الثقة الزائدة في قرارات الأنظمة المؤتمتة وتفضيلها على الأحكام البشرية الشخصية. عندما يترسخ هذا الانحياز، قد يقع الشخص في فخ قبول مخرجات الذكاء الاصطناعي دون نقد أو تحقق، ظناً أن الآلة أدق منه. وتظهر خطورة ذلك جلية في مجالات حيوية مثل الطيران والطب. فعلى سبيل المثال، إذا وقع الطبيب فريسة لانحياز الأتمتة، سيقبل بتوصيات النظام دون أن يبحث عن أدلة تأكيدية بنفسه وربما يتراخى في فحص المريض. والأسوأ أنه بمرور الوقت قد تتآكل قدرة الأطباء على اتخاذ القرار المهني بأنفسهم نتيجة اعتمادهم المستمر على الذكاء الاصطناعي.

رافعة إبداعية للأشخاص الأقل خبرة

على الرغم من المخاوف من أن تؤدي هيمنة الذكاء الاصطناعي على الإنتاج المعرفي إلى ارتفاع مستوى التماثل والتقليد في المحتوى المنتج، فإن بعض الدراسات تشير إلى أن هذه التكنولوجيا قد تحدث نقلات نوعية في أداء المهام العقلية وإنتاج المعرفة، لا سيما لدى غير المتخصصين والأشخاص الأقل إبداعاً. توفر خوارزميات التعلم الآلي أدوات قوية لتحليل كم هائل من المعلومات واستخلاص أنماط ومعارف جديدة، وبالتالي تمكن المستخدمين ممن لا يمتلكون خبرات واسعة من توليد نصوص وصور وبرمجيات وتتيح زيادة إنتاجية الأفراد والمؤسسات بشكل عام.

أظهرت تجربة أجراها باحثون من كلية لندن الجامعية وجامعة إكستر أن إشراك أدوات الذكاء الاصطناعي في تأليف القصص أسهم في رفع مستوى الإبداع وجودة الكتابة، بل وجعل القصص أكثر تشويقاً للقارئ. 

تشير النتائج إلى أن الكتاب غير المتخصصين تمكنوا بمساعدة أدوات توليد النصوص من ابتكار حبكات أكثر تشويقاً بنسبة بلغت نحو 9% مقارنة بأولئك الذين لم يستخدموا الذكاء الاصطناعي. والمثير في الأمر أن أكبر استفادة تحققت لدى المشاركين الذين كانوا أقل إبداعاً في الأصل، إذ ساعدتهم اقتراحات الذكاء الاصطناعي على كتابة قصص أكثر أصالة وجودة، حتى تساوت جودة قصصهم مع من هم أعلى منهم إبداعاً، غير أن هذه التجربة تظهر أيضاً جانباً سلبياً يتمثل في ازدياد التشابه بين القصص المكتوبة بمساعدة الذكاء الاصطناعي بنسبة تقارب 10% مقارنة بالقصص الأخرى. وهو ما اعتبره الباحثون معضلة اجتماعية ناشئة مفادها أنه كلما اعتمد الكتاب على أفكار مولدة آلياً لتحقيق مكاسب إبداعية فردية، تراكم على المدى البعيد تأثير سلبي يتمثل في انخفاض الإبداع الجماعي.

اقرأ أيضاً: لماذا تحتاج الروبوتات الشبيهة بالبشر إلى قواعد سلامة تراعي خصوصيتها؟

هل نتحكم في الأجهزة أم تتحكم بنا؟

يقول ميسنر إن الإبداع والابتكار والبحث الحقيقيين لا تختزل في مجرد عمليات إعادة تركيب احتمالية لبيانات الماضي، وإنما تتطلب قفزات مفاهيمية وتفكيراً متعدد التخصصات وتجارب واقعية. وهذه الخصائص لا يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاتها. فهو غير قادر على ابتكار المستقبل، وكل ما يمكنه فعله هو إعادة مزج الماضي. وبالتالي فإننا نخاطر بإغراق الأصالة الحقيقية في بحر من التشابه الخوارزمي.

لكن الصورة ليست قاتمة تماماً، كما تشير باحثة ما بعد الدكتوراة في الفلسفة العملية بجامعة هلسنكي، بي تيلاكيفي. فالدماغ يتغير وفقاً لطريقة استخدامه، وعندما طورنا أدوات جديدة لم تتراجع مهاراتنا في الذاكرة والحساب، بل تغيرت. وكما يحدث لعضلات الجسم، ستضعف الروابط العصبية في الدماغ أو تقوى حسب استخدامها.

على سبيل المثال، تشير الدراسات إلى أن سائقي سيارات الأجرة يتمتعون بزيادة في حجم المادة الرمادية في مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة المكانية والملاحة. لكن في حالة الاعتماد الدائم على تطبيقات الخرائط، تكون هذه المناطق أضعف. وتقول تيلاكيفي: "أين الخط الفاصل بين الشعور بالسيطرة والتلاعب؟ عندما تستخدم جهازاً، هل تشعر أنك تتحكم فيه أم العكس؟".

الخلاصة أنه قد يكون من المغري في عصر الإجابات الفورية أن نسأل "تشات جي بي تي" وغيره من الأدوات عن حل أي مشكلة تواجهنا. لكن الخبراء ينصحون بأن نجعل هذه الأدوات آخر ما نلجأ إليه وليس أول ما نفكر فيه. فالإفراط في استخدام الذكاء الاصطناعي قد يقودنا إلى عالم من المحتوى النمطي متوسط الجودة. عالم يبدو فيه كل شيء "جيداً بما يكفي" لكن يندر فيه التميز والابتكار الحقيقيين.

المحتوى محمي