هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي مكان مدير الموارد البشرية؟

6 دقيقة
هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي مكان مدير الموارد البشرية؟
حقوق الصورة: envato.com/ fotodestock

يشهد قطاع الموارد البشرية تحولاً كبيراً مع توسع تبني الذكاء الاصطناعي، إذ تستخدمه 45% من المؤسسات حالياً، ويرى نحو 65% من خبراء الموارد البشرية أن لهذا التحول أثراً إيجابياً في أعمالهم.

  • %92 من الشركات تخطط لزيادة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي خلال 3 سنوات، ما يعكس الث…

شهد قطاع إدارة الموارد البشرية تحولاً ملحوظاً مع تزايد اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم.

وتشير الإحصائيات إلى أن ما يقارب 45% من المؤسسات تطبق الذكاء الاصطناعي بالفعل في وظائف الموارد البشرية، ويرى نحو 65% من خبراء الموارد البشرية أن لهذا التحول أثراً إيجابياً في أعمالهم.

وتخطط الغالبية العظمى من الشركات أي نحو 92% منها لزيادة استثماراتها في تقنيات الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الثلاث المقبلة، ما يدل على تنامي الثقة بقدرة هذه التقنيات على إحداث نقلة نوعية في كفاءة إدارة رأس المال البشري.

ولا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على تحسين الكفاءة فحسب، بل يمتد إلى إعادة تشكيل تجربة الموظف، وتقليل التحيز، وتعزيز اتخاذ القرارات المستندة إلى البيانات. في ظل هذه المؤشرات، أصبح من الواضح أن الذكاء الاصطناعي سيغدو جزءاً جوهرياً من منظومة الموارد البشرية الحديثة، ما يثير التساؤلات حول حدود هذا الدور وإمكانية أن يحل محل المدير البشري التقليدي.

اقرأ أيضاً: قوة الذكاء الاصطناعي في تحسين كفاءة خدمات وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في السعودية

التطبيقات الأساسية للذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد البشرية

برزت عدة تطبيقات رئيسية يوظف فيها الذكاء الاصطناعي لدعم عمليات إدارة الموارد البشرية وتحسينها:

  • التوظيف واستقطاب المواهب: يستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد في مراجعة السير الذاتية واختصار قائمة المرشحين وفحصهم الأولي. حالياً، نحو 44% من المؤسسات تستعين بالذكاء الاصطناعي في عمليات التوظيف والاختيار، حيث تساعد أدوات التوظيف المدعومة بالذكاء الاصطناعي على تسريع عملية التوظيف عبر إجراء مقابلات أولية آلية وتحليل أنماط المتقدمين، ما يخفض كلفة التوظيف بنحو 30% ويقلص مدة شغل الشواغر بنحو 50% في المتوسط. كما يمكن لتقنيات التحليلات التنبؤية مطابقة المرشحين بالوظائف بدقة أعلى، وتحسين التنوع من خلال تقليل التحيز البشري في الفرز. هذه القدرات جعلت عملية إيجاد الموظف المناسب في المكان المناسب أكثر سلاسة وفاعلية.
  • تحليل الأداء وإدارة المواهب: تستعين إدارات الموارد البشرية بالذكاء الاصطناعي في تتبع أداء الموظفين وتقييم إنتاجيتهم بصورة أكثر موضوعية وانتظاماً. تشير دراسات حديثة إلى أن نحو 58% من المؤسسات حول العالم تستخدم حلول الذكاء الاصطناعي في إدارة الأداء وتقييمه، حيث تحلل بيانات الأداء مثل مؤشرات الإنتاجية ونقاط القوة والضعف تلقائياً لاستخلاص رؤى قابلة للتنفيذ. ويرى نحو 65% من المختصين أن هذه الأدوات تحسن كفاءة عملية إدارة الأداء عبر تحديد الاتجاهات وتقديم تقييمات موضوعية وسريعة. على سبيل المثال، يمكن لنظام مدعوم بالذكاء الاصطناعي رصد تراجع نمط أداء موظف ما والتنبيه مبكراً للتدخل بالدعم أو التدريب المناسب. كما تستخدم خوارزميات التعلم الآلي لاكتشاف المواهب الكامنة وترشيح الموظفين أصحاب الإمكانات العالية لبرامج تطوير قيادية.
  • التعلم المؤسسي والتطوير: يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً متنامياً في برامج التدريب وتنمية المهارات داخل المؤسسات. تفيد الإحصائيات بأن نصف الشركات عالمياً -نحو 50%- باتت تطبق حلولاً للذكاء الاصطناعي في التدريب والتطوير المهني. تتيح منصات التعلم الذكية إنشاء خطط تدريب مخصصة تفصيلياً وفقاً لاحتياجات كل موظف، حيث توظف خوارزميات تحليل البيانات لتحديد فجوات المهارة لدى الفرد وتوصي بمسارات تدريبية مناسبة. هذه المقاربة الشخصية عززت مشاركة الموظفين في برامج التعلم بنسبة تصل إلى 72% مقارنة بأساليب التدريب التقليدية. كذلك، تعتمد بعض المؤسسات على تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتقديم تجارب تعليمية غامرة تحاكي سيناريوهات العمل الفعلية، ما يرفع كفاءة اكتساب المهارات. والنتيجة هي قوة عاملة أكثر تأهيلاً وقابلية للتكيف مع متطلبات المستقبل بفضل التعلم المستمر المدعوم تقنياً.
  • الدعم الذاتي وإدارة شؤون الموظفين: شهدت السنوات الأخيرة انتشار المساعدات الافتراضية في مجال الموارد البشرية لتقديم الدعم الفوري للموظفين والإجابة عن استفساراتهم. تعتمد هذه المساعدات على تقنيات فهم اللغة الطبيعية للرد على أسئلة شائعة مثل سياسات الإجازات ومزايا الموظف وإجراءات الموارد البشرية على مدار الساعة. ووفق تقديرات حديثة، جرى التعامل مع نحو 75% من الاستفسارات الروتينية للموظفين عالمياً في 2023 عبر بوتات الدردشة الذكية، ما وفر آلاف الساعات التي كان سيقضيها موظفو الموارد البشرية في الإجابة عن أسئلة متكررة. هذا التحول مكن فرق الموارد البشرية من تركيز جهودها على القضايا الأكثر تعقيداً وإنسانية بدلاً من الانشغال بالمهام الإدارية اليومية. إضافة إلى ذلك، توفر هذه الحلول الذاتية تجربة أكثر سلاسة للموظفين؛ فبدلاً من انتظار الردود من إدارة الموارد البشرية، يحصل الموظف على إجابات فورية وإجراءات ذاتية مثل طلب إجازة أو استخراج وثيقة، ما يعزز الرضا العام عن الخدمة.

اقرأ أيضاً: 3 مهارات أساسية لتصبح خبيراً في البيانات الضخمة دون تغيير مسارك الوظيفي الحالي

أمثلة تطبيقية من الإمارات على توظيف الذكاء الاصطناعي

تبنت المؤسسات والجهات الحكومية في دولة الإمارات عدداً من الحلول المبتكرة في مجال الموارد البشرية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، ما جعلها نموذجاً رائداً إقليمياً في هذا المجال. فيما يلي بعض الأمثلة الواقعية المحلية التي تجسد هذا التوجه:

  • مساعد الموارد البشرية الافتراضي في الحكومة الاتحادية لدولة الإمارات: أطلقت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية مؤخراً وكيلاً افتراضياً مدعوماً بالذكاء الاصطناعي لخدمة موظفي الحكومة الاتحادية. يغطي هذا المساعد ما يزيد على 50 ألف موظف حكومي، ويقدم في مرحلته الأولى 108 خدمات ذاتية للموظفين عبر منصة رقمية سهلة الاستخدام. يتميز النظام بقدرته على معالجة 80% من إجراءات الموارد البشرية الذاتية مثل طلب الإجازات وإصدار خطابات التعريف تلقائياً، إضافة إلى الإجابة الفورية عن 80% من الاستفسارات المتعلقة بسياسات الموارد البشرية ولوائحها دون تدخل بشري. وقد أسهم ذلك في توفير نحو 170 ألف ساعة عمل سنوياً كانت تستهلك في أعمال الدعم الفني والرد على الأسئلة الروتينية. يتعلم المساعد الافتراضي بمرور الوقت بفضل تقنيات التعلم المستمر، ويتفاعل باللغتين العربية والإنجليزية عبر واجهة دردشة نصية وصوتية على مدار الساعة. هذه الخطوة الريادية انسجمت مع استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031، وتهدف إلى تصفير البيروقراطية وتحسين كفاءة الخدمات الحكومية، حيث تعكس رؤية الحكومة في تسخير التكنولوجيا لدعم الموظف وتعزيز إنتاجيته.
  • تحليلات التنبؤ بالمواهب في حكومة أبوظبي: ضمن سعيها لتكون أول حكومة رقمية رائدة في الذكاء الاصطناعي بحلول 2027، تبنت حكومة أبوظبي -عبر دائرة التمكين الحكومي- استخدام التحليلات المتقدمة والتنبؤية لإدارة الكوادر والمواهب في القطاع الحكومي. على سبيل المثال، طورت دائرة التمكين الحكومي أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لـتحديد المواهب الواعدة والتخطيط للإحلال الوظيفي خلافة للمناصب بشكل استباقي. هذه الأدوات تقرأ بيانات الموظفين وتقيس مؤشرات الأداء والقدرات لتحديد من يمتلك إمكانات قيادية أو خبرات نادرة، ما يساعد صناع القرار على اتخاذ قرارات مدروسة بشأن التطوير والترقية. إضافة إلى ذلك، تستخدم حكومة أبوظبي تحليلات استشرافية للتنبؤ بمخاطر دوران الموظفين وتركهم العمل قبل حدوثها، وذلك عبر خوارزميات ترصد أنماط الرضا الوظيفي والارتباط المؤسسي للموظفين. فإذا أشارت النماذج إلى احتمال ارتفاع نسبة المغادرين في إدارة ما أو وظيفة معينة، فتتخذ تدابير استباقية مثل برامج تعزيز الرضا أو مسارات تطوير مهني للاحتفاظ بالمواهب. هذه المقاربات التنبؤية تسهم في تقليل فقدان الخبرات وتعزز التخطيط الطويل الأمد للقوى العاملة. الجدير بالذكر أن هذه الجهود تأتي ضمن رؤية أبوظبي للحوكمة المستقبلية التي تجعل الموظف محوراً للتحول الرقمي، من خلال توفير أدوات تعزز رفاهه وتطور مهاراته.
  • أتمتة توزيع حصص تصاريح العمل لدى وزارة الموارد البشرية والتوطين: أطلقت وزارة الموارد البشرية والتوطين عدة مبادرات ذكية لتطوير سوق العمل، من أبرزها إدخال الذكاء الاصطناعي في منظومة توزيع حصص تصاريح العمل للمنشآت. تهدف هذه المنظومة المبتكرة إلى تعزيز آلية تخصيص حصص استقدام العمالة للشركات بطريقة عادلة وفعالة، بحيث تسرع القرارات الروتينية وتقلل البيروقراطية في منح تصاريح العمل. فعوضاً عن الاعتماد الكلي على الاجتهاد البشري أو الإجراءات الورقية المطولة لتحديد عدد التصاريح المسموح بها لكل منشأة، تحلل خوارزميات الذكاء الاصطناعي مجموعة واسعة من البيانات -مثل حجم الشركة ونشاطها ونسب الامتثال للقوانين- ومن ثم تقديم توصيات فورية بشأن الحصة المناسبة لكل منشأة. هذا النهج يوازن بين احتياجات سوق العمل وقدرة كل شركة على استقطاب العمالة، كما يضمن الشفافية في التوزيع. إلى جانب ذلك، كشفت الوزارة في معرض جيتكس 2025 عن نظام العين المدعوم بالذكاء الاصطناعي، الذي يعمل على أتمتة معالجة طلبات تصاريح العمل والتحقق الرقمي من المستندات المطلوبة مثل صور الجوازات والشهادات بدقة عالية. هذا النظام يقلل الحاجة إلى التدخل البشري في عملية إصدار التصاريح إلا في حالات استثنائية، ما أدى إلى تسريع إنجاز المعاملات وتقليص الأخطاء البشرية. وتعد هذه المبادرات جزءاً من توجه أشمل لدى الوزارة نحو تصفير زيارات المتعاملين لمراكز الخدمة وتقليص الوثائق المطلوبة، من خلال دمج الخدمات في منصات رقمية موحدة مثل منصة أعمل في الإمارات. النتيجة هي تجربة أسهل لأصحاب العمل والعمال على حد سواء، ونقلة نوعية في حوكمة سوق العمل باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.

اقرأ أيضاً: قوة الذكاء الاصطناعي في تحسين كفاءة خدمات وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في السعودية

نحو نموذج تكاملي بين الإنسان والآلة

لا شك في أن الذكاء الاصطناعي قد أصبح حليفاً قوياً لإدارة الموارد البشرية، حيث أعاد تشكيل الكثير من ممارساتها التقليدية وجعلها أكثر سرعة وفاعلية ودقة. ومن خلال الأمثلة العالمية والمحلية، رأينا كيف يمكن لهذه التقنيات أن ترفع الأداء وتثري التجربة الوظيفية للأطراف كافة. ومع ذلك، برهنت التحليلات أن دور المدير البشري سيظل جوهرياً في قيادة دفة العنصر البشري داخل المؤسسات. فالذكاء الاصطناعي بارع في المعالجة والمعطيات، لكنه يظل أداة في يد صانع القرار ولا يمكنه تجسيد القيم الإنسانية أو بناء العلاقات والثقافة المؤسسية بعمق البشر نفسه.

من هذا المنطلق، تتبلور الرؤية المستقبلية المثلى في نموذج تكاملي يوظف أفضل ما في العنصر البشري وأفضل ما في التقنية معاً؛ أي شراكة متناغمة يكون فيها الذكاء الاصطناعي مسؤولاً عن المهام الروتينية والتحليلية الثقيلة، ما يحرر وقت مدير الموارد البشرية وفريقه للتركيز على الاستراتيجية والتفاعل الإنساني. مدير الموارد البشرية المزود بذكاء اصطناعي سيكون قادراً على اتخاذ قرارات أكثر استنارة وسرعة دون التفريط بلمسته الإنسانية في التواصل والتحفيز وصنع القرار الأخلاقي. وكما أكدت التجارب، فإن المؤسسات التي تتبنى هذا النموذج الهجين تحقق أفضل النتائج: كفاءة تشغيلية عالية يقودها التحليل الذكي، وولاء ومشاركة موظفين مرتفعة يقودها تواصل إنساني فعال.

اقرأ أيضاً: ما دور القوى العاملة البشرية في طفرة الذكاء الاصطناعي؟

في ختام المطاف، لا يتعلق السؤال الحقيقي بمن سيأخذ مكان من، بل كيف سنرسم ملامح بيئة عمل يتكامل فيها الإنسان والآلة من أجل تحقيق أهداف المؤسسة وازدهار مواردها البشرية. إنها دعوة مفتوحة لقادة الموارد البشرية لتبني عقلية المستقبل التي ترى في الذكاء الاصطناعي شريكاً استراتيجياً، وفي الوقت ذاته تحافظ على محورية الدور الإنساني القائم على التعاطف والقيم. هكذا فقط يمكننا بناء مستقبل إداري يطلق إمكانات الذكاء الاصطناعي دون أن يفقد دفء الروح البشرية.

المحتوى محمي