كيف نجعل الذكاء الاصطناعي معزّزاً للذكاء البشري؟

5 دقيقة
6 ابتكارات تكنولوجية أسهمت في حل القضايا التي تواجه البشرية بشكل فعّال
حقوق الصورة: shutterstock.com/ PopTika

داعبت فكرة وجود ذكاء اصطناعي يتمتّع بذكاء شبيه بالذكاء البشري خيال الباحثين وكُتّاب الخيال العلمي عقوداً من الزمن، فمنذ بداياته حتى الآن، حقق الذكاء الاصطناعي تقدماً ملحوظاً متفوقاً على البشر في العديد من المجالات، مثل تحليل البيانات ومعالجتها، ودُمِج في العديد من المجالات مثل السيارات ذاتية القيادة والمساعدة في التشخيصات الطبية.

ولكن قدرته على اجتياز الاختبارات المعرفية المصممة للبشر أصبحت مسألة معقّدة ودقيقة، فحتى الآن وعلى الرغم من تطوره الكبير في السنوات القليلة الماضية، لا يمكنه العمل بشكلٍ جيد عند مواجهة الاختبارات المعرفية الشائعة المصممة لقياس الذكاء البشري، خاصة في المهام التي تتطلب تفكيراً مجرداً وفهماً عاطفياً ووعياً سياقياً.

ما هي الاختبارات المعرفية ودورها في تقييم أنظمة الذكاء الاصطناعي؟

تُعدُّ الاختبارات المعرفية (Cognitive Tests) ضرورية لقياس الجوانب المختلفة للذكاء البشري، بما في ذلك الذاكرة والتفكير وحل المشكلات والوعي المكاني، إذ تُستخدم بشكلٍ شائع في الإعدادات السريرية لتشخيص حالات مثل مرض آلزهايمر والخرف، ما يلقي نظرة ثاقبة حول كيفية عمل الدماغ في ظل سيناريوهات مختلفة، التي تعتبر ضرورية لتقييم قدرة الدماغ على التنقل في البيئات المعقّدة، وهي مهارات ضرورية في الحياة اليومية.

وعند تطبيقها على أنظمة الذكاء الاصطناعي، فإن النتائج بدت مختلفة تماماً. فعلى الرغم من تفوق نماذج الذكاء الاصطناعي مثل جي بي تي وجيميناي في مهام مثل التعرف إلى الأنماط وإنشاء النصوص، لكنها لاقت صعوبة كبيرة مع جوانب الإدراك التي تتطلب فهما أكثر عمقاً. على سبيل المثال، بينما يمكن أن يتبع الذكاء الاصطناعي تعليمات صريحة لإكمال مهمة ما، فإنه يفتقر إلى القدرة على التفكير بشكلٍ تجريدي أو تفسير المشاعر أو تطبيق السياق، وهي عناصر أساسية للتفكير البشري.

لهذا تُعدُّ الاختبارات المعرفية المصممة للبشر مهمة للغاية عند تقييم أنظمة الذكاء الاصطناعي، من خلال توفير أُطر متعددة الأبعاد لقياس القدرات المعرفية للذكاء الاصطناعي ومقارنتها، ما يساعد الباحثين على فهم قدرات النماذج الحالية وقيودها في سعيهم لتطوير ذكاء اصطناعي يُضاهي القدرات البشرية أو يتفوق عليها، أو ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي العام.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يتنبأ بمرض باركنسون قبل 7 سنوات من ظهوره

كيف يبدو أداء الذكاء الاصطناعي في الاختبارات المعرفية المعيارية البشرية حتى الآن؟

قارنت العديد من الدراسات أداء نماذج الذكاء الاصطناعي مباشرة بأداء البشر في الاختبارات المعرفية المعيارية، ما أسفر عن رؤى قيمة حول قدرات نماذج الذكاء الاصطناعي وقيودها الحالية. من ضمنها دراسة حديثة اختبرت العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي، باستخدام تقييم مونتريال المعرفي (MoCA)، وهو أداة مصممة لقياس القدرات المعرفية البشرية.

إذ كشفت الدراسة عن وجود فجوة واضحة بين نقاط قوة الذكاء الاصطناعي في المهام المنظمة وفشله مع الوظائف المعرفية الأكثر تعقيداً، إذ أحرز نموذج جي بي تي 4 أو (GPT 4o)  26 درجة من أصل 30 درجة ممكنة، بينما أحرز جي بي تي 4 وكلود 25 درجة ونموذج جيميناي 16 درجة  فقط، ما يعكس ضعفاً إدراكياً شديداً.

بحسب الدراسة، فإن أحد أهم التحديات -وهي المهام البصرية المكانية مثل رسم ساعة أو تكرار الأشكال الهندسية- التي تتطلب فهم العلاقات المكانية وتنظيم المعلومات المرئية، هي المجالات التي فشلت فيها نماذج الذكاء الاصطناعي. فعلى الرغم من تلقيها مطالبات صريحة، فإنها عانت بشدة لإكمالها بدقة.

اقرأ أيضاً: استكشف أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي وطريقة استخدامها

وجهات نظر الخبراء حول القدرات المعرفية للذكاء الاصطناعي

يحمل خبراء العلوم المعرفية والذكاء الاصطناعي وجهات نظر مختلفة حول مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق قدرات معرفية بمستوى الإنسان، وتتمثل إحدى نقاط النقاش الرئيسية في الفرق الجوهري بين القدرات التنبؤية القائمة على البيانات لأنظمة الذكاء الاصطناعي والاستدلال السببي القائم على النظريات البشرية.

حيث يجادل البعض بأنه بينما يتفوق الذكاء الاصطناعي في معالجة كميات هائلة من البيانات الضخمة والتعرف إلى الأنماط، إلّا أنه يفتقر إلى الفهم الحقيقي والقصد والحس العاطفي الذي يُميّز الإدراك البشري، حيث إن الإدراك البشري يُنظر إليه على أنه تطلعي وقادر على توليد ابتكارات حقيقية، بينما تستمد معرفة الذكاء الاصطناعي إلى حدٍّ كبير من البيانات التي قد تكون قديمة ما يجعله مُقلّداً أكثر منه مبتكراً.

يكتسب هذا التمييز أهمية خاصة عند النظر في أداء الذكاء الاصطناعي في المهام الإبداعية، حيث تُشير مقالة لعميد مدرسة هيوستن ماكويليامز للمعلوماتية الطبية الحيوية (UTH) الدكتور جياجي تشانغ (Jiajie Zhang) إلى أنه على الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد مخرجات قد تبدو إبداعية، فإنه قد لا يُحاكي التفاعل المعقّد بين الحدس والعاطفة والخبرة الذي يحرك الإبداع البشري.

اقرأ أيضاً: هل يتفوق نموذج شركة أنثروبيك على تشات جي بي تي والنماذج الأخرى؟

هل الاختبارات المعرفية البشرية كافية لتقييم نماذج الذكاء الاصطناعي؟

يُجادل العديد من الخبراء بأن أساليب تقييم الذكاء الاصطناعي الحالية، بما في ذلك الاختبارات المعرفية، قد لا تكون كافية لتقييم القدرات المعرفية الشبيهة بالإنسان بدقة، وأن هذه الاختبارات قد لا تلتقط الطيف الكامل للذكاء البشري، بما في ذلك جوانب مثل الوعي والخبرة الذاتية والقدرة على التكيُّف مع المواقف الجديدة.

من المثير للاهتمام أن بعض الخبراء يقترحون أن الذكاء الاصطناعي العام الشبيه بالذكاء البشري قد لا يكون الهدف الوحيد أو حتى الأكثر ضرورة، لتطوير الذكاء الاصطناعي. ويجادلون بأنه قد يكون هناك العديد من أشكال الذكاء المختلفة، وقد يكون تطوير الذكاء الاصطناعي أكثر فاعلية في تعزيز الذكاء البشري، داعين في الوقت نفسه إلى أن ينصب التركيز على الاستفادة من نقاط قوة الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل معالجة البيانات والأتمتة لتعزيز القدرات البشرية في المجالات التي تتطلب الإبداع والذكاء العاطفي والحكم الدقيق.

يعود هذا التوجه بحسب دراسة أجراها الأستاذ في كلية إس بي سي (SBC) السويسرية للأعمال مايكل غيرلش (Michael Gerlich) إلى أن الإفراط في الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي في المهام التي تتطلب التفكير وحل المشكلات قد يؤدي إلى تفريغ معرفي، ما قد يؤدي إلى انخفاض في قدرات التفكير النقدي البشري والانخراط في المشكلات المعقدة، وهو ما يُثير تساؤلات حول العواقب طويلة المدى لدمج الذكاء الاصطناعي في مختلف جوانب حياتنا، وأهمية الحفاظ على المشاركة المعرفية البشرية.

كما تُشير دراسة نُشِرت في فرونتيرز إلى الاختلافات الجوهرية بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي من حيث بنيتهما الأساسية وسرعة المعالجة والاتصال وكفاءة استهلاك الطاقة، إذ تشير الاختلافات إلى أنه حتى لو حقق الذكاء الاصطناعي أداءً كاملاً في الاختبارات المعرفية، فقد تختلف الآليات الأساسية وطبيعة الذكاء نفسه اختلافاً جوهرياً، ما قد يُعيد تعريف المعنى الحقيقي لاجتياز الذكاء الاصطناعي لاختبار معرفي بشري، وما إذا كان هذا الإنجاز سيشير بشكلٍ حقيقي إلى مستوى ذكاء بشري.

اقرأ أيضاً: العلماء قلقون من إجابات الذكاء الاصطناعي عن الأسئلة المتعلقة بالسرطان

أهمية مراعاة الاختلافات الجوهرية بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري

على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي تطور كثيراً ولا يزال يتطور، فإن فهم الفروقات الدقيقة بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري مهماً للغاية، وهو ما يطرح سؤالاً مهماً للغاية: إذا استطاع نظام ذكاء اصطناعي تحقيق نتائج مماثلة للبشر في اختبارات مصممة لقياس الذكاء، فهل يعني ذلك فهماً حقيقياً أمْ مجرد شكل متطور من مطابقة الأنماط؟

من ثَمَّ، فإن إجابة مثل هذا السؤال ضرورية للغاية لفهم حدود الذكاء الاصطناعي وقدراته مقابل الذكاء البشري، إذ إن التداعيات العملية لأداء الذكاء الاصطناعي في الاختبارات المعرفية واسعة النطاق في مختلف المجالات، ففي مجال الرعاية الصحية تمكن بالفعل من تحسين إجراءات التشخيص المبكر للأمراض العصبية مثل آلزهايمر، ما قد يؤدي إلى تدخلات مبكرة وخطط علاج شخصية.

في مجال التعليم يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُمكّن من تطوير تجارب تعلم أكثر تخصيصاً، وطرق تقييم أكثر كفاءة وموضوعية، بينما يمكن أن يشهد مجال التوظيف تحولاً جذرياً في استقطاب المواهب وتقييم المهارات، حيث يُحتمل أن يُساعد على تحديد المرشحين أصحاب القدرات المعرفية المناسبة لأدوار محددة.

ومع ذلك، من الضروري ألّا يقتصر تعريف نجاح نموذج ما على تحقيق درجة معينة في اختبار معرفي فحسب، بل يجب أن يتضمن فهماً أعمق للعمليات المعرفية الكامنة وراء هذا الأداء، إذ يتميز الذكاء البشري بقدرته على التكيُّف والإبداع والذكاء العاطفي والوعي، وهي جوانب لا تُدركها ومن المتوقع ألّا تصل إليها أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكلٍ كامل.

اقرأ أيضاً: كيف يؤثّر تفاعلنا مع الذكاء الاصطناعي في إبداعنا البشري؟

وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي قد يتفوق في جوانب معرفية مختلفة عن البشر، مثل قدرات فائقة على معالجة كميات كبيرة من البيانات أو إجراء حسابات معقدة، فإنه يفتقر إلى المنطق السليم والفهم البديهي للعالم الذي يعيش فيه البشر، ومن ثَمَّ ينبغي تفسير المقارنات المباشرة بين الذكاء الاصطناعي والأداء البشري في الاختبارات المعرفية بحذر، مع مراعاة الاختلافات الجوهرية بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري.

علاوة على ذلك، ربما لا تكمن القيمة في سؤال: "هل يستطيع الذكاء الاصطناعي اجتياز اختبار معرفي بشري؟"، بل في سؤال أعمق: "هل يُمكننا بناء شراكة معرفية حقيقية بين الإنسان والآلة؟". فبين ذكاء اصطناعي يزداد تطوراً وإنسانية تبحث عن المعنى، تكمن فرصة نادرة لبناء مستقبل أكثر اتزاناً لا تُهيمن فيه أنظمة الذكاء الاصطناعي على الإنسان بل تعينه على أن يكون أكثر إنسانية.

المحتوى محمي