لماذا يصعب استخدام الذكاء الاصطناعي في تشخيص السرطان؟

5 دقيقة
لماذا يصعب استخدام الذكاء الاصطناعي في تشخيص السرطان؟
خلية سرطانية من مثانة بولية. مصدر الصورة: معهد علم الأمراض، كلية شاريتيه الطبية التابعة لجامعة هامبلوت وجامعة برلين الحرة

تتمحور عملية تفحص الجسم للعثور على السرطان وتشخيصه حول العثور على الأنماط. ويستخدم مختصو الصور الشعاعية الأشعة السينية والتصوير بالرنين المغناطيسي لإظهار الأورام على شكل بقع مضيئة، ويفحص مختصو علم الأمراض الأنسجة من الكلى والكبد وغيرها من المناطق تحت عدسات المجاهر الضوئية بحثاً عن الأنماط التي تُظهر شدة الإصابة بالسرطان، وإمكانية الاستفادة من علاجات معينة، والأماكن المحتملة لانتشار الورم الخبيث.

من الناحية النظرية، من المفترض أن يكون الذكاء الاصطناعي مفيداً جداً في هذه المهمة. يقول مختص علم الأمراض والمدير الطبي لمنصة علم الأمراض الرقمية الخاصة بمؤسسة مايو كلينيك (Mayo Clinic)، آندرو نورغان: "عملنا هو التعرف إلى الأنماط. نحن ننظر إلى الشريحة ونجمع أجزاء المعلومات التي ثبت لنا أنها مهمة".

اقرأ أيضاً: دراسة: «تشات جي بي تي» أفضل من الأطباء في تشخيص الأمراض

الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض

أصبح الذكاء الاصطناعي بارعاً جداً في التحليل المرئي منذ بدأت أولى نماذج التعرف إلى الصور في الظهور قبل 15 عاماً تقريباً.

ومع أنه لا يوجد نموذج مثالي، يمكن أن نتخيل خورازمية تتمتع بقدرات عالية يوماً ما تلتقط شيئاً لم يتمكن مختص بشري في علم الأمراض من اكتشافه، أو يمكنها على الأقل تسريع عملية التشخيص. لقد بدأنا نشهد الكثير من الجهود الجديدة التي تهدف إلى بناء نموذج كهذا -7 محاولات على الأقل في العام الماضي وحده- لكنها ما تزال جميعها في المرحلة التجريبية. ما الذي سيتطلبه الأمر لجعل هذه الأنظمة جيدة بما يكفي لاستخدامها في العالم الحقيقي؟

قادت شركة الذكاء الاصطناعي الطبي آيغنوستيكس (Aignostics)، بالتعاون مع مايو كلينيك، أحدث هذه الجهود الرامية إلى بناء نموذج كهذا، وقد نُشرت تفاصيل هذا العمل على منصة أركايف (arXiv) مؤخراً. لم تخضع الورقة البحثية لمراجعة الأقران، لكنها تكشف الكثير حول التحديات المقترنة بتوفير أداة كهذه في المرافق الصحية.

يحمل النموذج اسم أتلاس (Atlas)، وقد تدرب على 1.2 مليون عينة أنسجة من 490,000 حالة. وقد اختُبرت دقته مقارنة بدقة 6 نماذج ذكاء اصطناعي أخرى رائدة في مجال علم الأمراض. تتنافس هذه النماذج في اختبارات مشتركة، مثل تصنيف صور سرطان الثدي أو تصنيف الأورام، حيث تجري مقارنة دقة تنبؤات النماذج بالإجابات الصحيحة التي يقدمها مختصو علم الأمراض البشر. تفوّق أتلاس على النماذج المنافسة في 6 من أصل 9 اختبارات. وحصل على أعلى درجة له في تصنيف الأنسجة السرطانية من القولون والمستقيم، حيث توصل إلى الاستنتاجات نفسها التي توصل إليها مختصو علم الأمراض البشر في 97.1% من الحالات.

وفي مهمة أخرى، وهي تصنيف الأورام من خزعات سرطان البروستات، تفوّق أتلاس على أعلى درجات النماذج الأخرى بنتيجة 70.5% فقط. أما متوسط درجاته في الاختبارات التسعة فقد أظهر أنه قدم إجابات مطابقة لإجابات الخبراء البشر في 84.6% من الحالات.

اقرأ أيضاً: علماء يطوّرون أداة ذكاء اصطناعي لتحديد العلاج الأمثل لمرضى السرطان

كيف يساعدنا الذكاء الاصطناعي في الكشف عن الأورام؟

لنفكر في معنى هذا الأمر. الطريقة الأفضل لمعرفة ما يحدث للخلايا السرطانية في الأنسجة هي أن يفحص مختص في علم الأمراض عينة منها، ما يعني أن هذا هو الأداء المرجعي الذي يجب أن نقيس أداء نماذج الذكاء الاصطناعي على أساسه. تقترب أفضل النماذج من البشر من حيث البراعة في مهام كشف معينة، لكنها تتخلف عنهم في العديد من المهام الأخرى. إذاً، أي درجة من البراعة يجب أن يبلغها النموذج كي يكون مفيداً سريرياً؟

يقول كبير المسؤولين الطبيين في شركة بروفيدنس جينوميكس (Providence Genomics) والمصمم المشارك لنموذج "غيغا باث" (GigaPath)، أحد نماذج الذكاء الاصطناعي الأخرى المخصصة في مجال علم الأمراض التي خضعت للاختبارات في دراسة مايو كلينيك، كارلو بيفولكو: "ربما لا تكون نسبة 90% جيدة بما يكفي. بل يجب أن تكون أكثر براعة من هذا". لكن بيفولكو يقول إن نماذج الذكاء الاصطناعي التي لا تحقق نتائج مثالية يمكن أن تكون مفيدة على المدى القصير، ومن الممكن أن تساعد مختصي علم الأمراض على تسريع عملهم وإجراء التشخيصات بسرعة أكبر.

ما هي العقبات التي تمنع تحقيق أداء أفضل؟ المشكلة الأولى هي بيانات التدريب.

يقول نورغان: "تبلع نسبة ممارسات علم الأمراض المرقمنة أقل من 10% في الولايات المتحدة". وهذا يعني أن عينات الأنسجة توضع على الشرائح وتخضع للتحليل تحت المجاهر الضوئية، ثم يجري تخزينها في سجلات ضخمة دون أي توثيق رقمي لها على الإطلاق. وعلى الرغم من أن الممارسات الأوروبية تميل للتحول إلى الأساليب الرقمية بدرجة أكبر، وهناك جهود جارية لإنشاء مجموعات بيانات مشتركة من عينات الأنسجة لاستخدامها في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، فإن البيانات المتاحة حالياً ما تزال محدودة جداً للعمل عليها.

في ظل غياب مجموعات بيانات متنوعة، تلاقي نماذج الذكاء الاصطناعي صعوبة في كشف مجموعة كبيرة من الحالات الشاذة التي تعلم مختصو علم الأمراض البشر تفسيرها. وهذا يتضمن بعض الأمراض النادرة، على حد قول المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في آيغنوستيكس، ماكسيميليان ألبر. فعند البحث في قواعد البيانات المتاحة للعامة عن عينات الأنسجة للأمراض النادرة على وجه الخصوص، "ستجد 20 عينة على مدى 10 سنوات"، على حد قوله.

في عام 2022 تقريباً، توقعت مايو كلينيك أن هذا الافتقار إلى بيانات التدريب سيشكل مشكلة. وقررت أن ترقمن ممارسات علم الأمراض جميعها لديها بدءاً من تلك اللحظة، إضافة إلى 12 مليون شريحة في سجلاتها الأرشيفية التي تعود إلى عقود سابقة من الزمن (حيث وافق المرضى على استخدام عيناتهم للأغراض البحثية).

استأجرت مايو كلينيك شركة لبناء روبوت بدأ يلتقط صوراً عالية الدقة للأنسجة، بسرعة وصلت إلى مليون عينة في الشهر. ومن خلال هذه الجهود، تمكن الفريق من جمع 1.2 مليون عينة عالية الجودة استخدمها في تدريب نموذج مايو.

وهذا يقودنا إلى المشكلة الثانية المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في كشف السرطان. فعينات الأنسجة المأخوذة من الخزعات صغيرة الحجم -لا يتجاوز قطرها في أغلب الأحيان بضعة ميليمترات فقط- لكنها مكبرة إلى درجة أن صورها الرقمية تحتوي على أكثر من 14 مليار بيكسل. أي أنها أكبر من الصور المستخدمة لتدريب أفضل نماذج الذكاء الاصطناعي المخصصة للتعرف إلى الصور حتى الآن بمقدار 287,000 ضعف تقريباً.

يقول الباحث في مجال الذكاء الاصطناعي في شركة مايكروسوفت، هويفونغ بون، الذي عمل مع بيفولكو على بناء غيغا باث الذي ظهر في مجلة "نيتشر" (Nature) العام الماضي: "من الواضح أن هذا يعني الكثير من تكاليف التخزين وما إلى ذلك". لكن هذا يفرض أيضاً اتخاذ قرارات مهمة بشأن اختيار أجزاء الصور التي تستخدمها في تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي، والخلايا التي يمكن أن تفوتك ملاحظتها خلال هذه العملية. عند بناء أتلاس، استخدمت مايو كلينيك طريقة تسمى "طريقة البلاط" (tile method)، وهي تتضمن عملياً أخذ الكثير من اللقطات من العينة نفسها لتلقيم نموذج الذكاء الاصطناعي بها. إن تحديد كيفية اختيار هذه "البلاطات" ينطوي على جوانب علمية وفنية في الوقت نفسه، وليس من الواضح بعد أي الطرق المستخدمة تعطي أفضل النتائج.

ثالثاً، هناك مسألة تحديد الاختبارات القياسية الأهم التي يجب أن يحقق نظام الذكاء الاصطناعي المخصص لكشف السرطان نتائج جيدة فيها. اختبر باحثو أتلاس نموذجهم باستخدام الاختبارات القياسية الصعبة في مجال الجزيئات، والتي تتضمن محاولة العثور على أدلة في صور عينات الأنسجة لتخمين ما يحدث على المستوى الجزيئي. وفيما يلي مثال على هذا: تُشكل جينات ترميم الحمض النووي غير المتطابق في الجسم مصدر قلق خاص فيما يتعلق بالسرطان، لأنها تلتقط الأخطاء التي تحدث عند استنساخ الحمض النووي. وإذا أفلتت هذه الأخطاء من الالتقاط، فقد تؤدي إلى تطور السرطان وانتشاره.

اقرأ أيضاً: تقنية حديثة مستوحاة من الخلايا البشرية لتخزين البيانات في الحمض النووي

بماذا يتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في التشخيص؟

يقول نورغان: "قد يخبرك بعض مختصي علم الأمراض بأن حدسهم ينبئهم بوجود مشكلة تتعلق بإصلاح أخطاء التطابق بناء على مظهر العينة". لكن مختصي علم الأمراض لا يتصرفون بناء على الحدس فقط؛ فهم قادرون على إجراء اختبارات جزيئية للحصول على إجابة أكثر حسماً. ويقول نورغان إنه ماذا لو استخدمنا الذكاء الاصطناعي، بدلاً من ذلك، للتنبؤ بما يحدث على المستوى الجزيئي؟ إنها تجربة: هل يستطيع نموذج الذكاء الاصطناعي اكتشاف التغيرات الجزيئية الكامنة التي لا يستطيع البشر رؤيتها؟

اتضح لهم أن الإجابة عموماً هي "لا"، أو على الأقل، ليس بعد. حقق أتلاس نتيجة وسطية بلغت 44.9% في الاختبارات الجزيئية. وهذا هو أفضل أداء حققته أنظمة الذكاء الاصطناعي حتى الآن، لكنه يُظهر أن أمامنا شوطاً كبيراً حتى نقطعه في هذا النوع من الاختبارات.

يقول بيفولكو إن أتلاس يمثل إحراز تقدم تراكمي لكنه حقيقي، ويضيف قائلاً: "أشعر لسوء الحظ أن الجميع عالقون عند مستويات متقاربة. نحن في حاجة إلى شيء مختلف على صعيد النماذج حتى نتمكن من تحقيق تقدم حقيقي وملحوظ، إضافة إلى أننا نحتاج إلى مجموعات بيانات أكبر".

المحتوى محمي