بدأت ألمانيا مؤخراً ضخ استثمارات مكثّفة في العديد من التكنولوجيات الدفاعية الحديثة، بما في ذلك ساحة تدريب افتراضية مبنية باستخدام الذكاء الاصطناعي، يُطلق عليها البعض اسم الميتافيرس العسكري (Military Metaverse)، وهي تكنولوجيا يأمل مطوروها في أن تُعيد تشكيل القتال الحربي في المستقبل.
"غوست بلاي": ساحة لاختبار الأسلحة افتراضياً
تعمل شركة الذكاء الاصطناعي الألمانية 21 استراتيجيز (21strategies) مع مجموعة من الشركات الناشئة وخبراء الدفاع على تطوير مشروع غوست بلاي (GhostPlay)، وهو ساحة معركة افتراضية تمكّن المطورين من تجربة أسلحة وأنظمة متعددة في بيئة خالية من المخاطر.
تقول الشركة، التي يقع مقرها في ولاية بافاريا، إنها تطوّر ما تُطلق عليه اسم الموجة الثالثة للذكاء الاصطناعي (Third Wave AI)، التي تستهدف "اتخاذ القرار الأمثل في المواقف المعقدة وغير المؤكدة بسرعة الآلة".
تقود "21 استراتيجيز" المشروع جنباً إلى جنب مع شركة هنسولت (Hensoldt) المتخصصة في تصنيع أجهزة الاستشعار، وجامعة هيلموت شميت (جامعة القوات المسلحة الاتحادية في هامبورغ)، وشركة "بورشيرت" السويسرية للاستشارات والأبحاث.
ومن المتوقع أن تدفع الاستثمارات الجديدة في هذا "الميتافيرس العسكري" إلى إطلاق اختبارات مبدئية قريباً لقياس مستوى أداء مثل هذه الأفكار على أرض الواقع، بحسب تقرير كتبه مدير تحرير مجلة "ديفينس نيوز" السابق والمتخصص في الشؤون الأوروبية سيباستيان سبرينغر.
توضّح "21 استراتيجيز" أن الهدف الأساسي للمنصة هو "دفع حدود التوأم الرقمي لساحة المعركة القائم على الذكاء الاصطناعي، بهدف إحداث تغيير جذري في العمليات العسكرية"، مشيرة إلى أن مثل هذه التطورات يمكن أن تُعيد تشكيل عملية صنع القرار العسكري والحروب المستقبلية.
اقرأ أيضاً: الإعلان عن «جنية»: طائرة إماراتية بدون طيار تستطيع التخفي من الرادار
المرحلة الأولى: تحسين قدرات أنظمة الدفاع الجوي
خلال المرحلة الأولية من "غوست بلاي"، التي انتهت في أواخر عام 2022، كان التركيز على محاكاة السيناريوهات المتعلقة بإخماد الدفاعات الجوية للعدو (SEAD). وتضمنت عمليات المحاكاة تكوين مجموعة دفاع جوي من دبابات الفهد (Flakpanzer Gepard) التي كانت حجر الزاوية بالنسبة للدفاع الجوي في الجيش الألماني، لصد سرب من الطائرات المسيَّرة يضم أكثر من 100 طائرة. ولتحقيق ذلك، توضّح الشركة أن الأمر تطلب إنشاء بيئة محاكاة مناسبة ونظام تدريب للذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى صياغة قواعد وقيود حاسمة للسيناريو.
تشير النتائج إلى أن المشروع رفع من القدرات الدفاعية للتوائم الرقمية لدبابات الفهد المعززة بالذكاء الاصطناعي، حيث تمكن النظام من التصدي لما يصل إلى 60 طائرة مسيَّرة، أي ستة أضعاف الحد المعتاد للدبابة الواحدة، وقد أدّى هذا التقدم المفاجئ إلى تحسين القدرات الدفاعية الإجمالية لنظام الدفاع الجوي المُحاكى بشكلٍ كبير.
يقول غاري شال، مدير مشروع "غوست بلاي" ورئيس قسم العلوم السياسية بجامعة هيلموت شميت: "نحن نتنافس مع الشركات الكبرى في هذا المجال. الميزة الفريدة التي نتمتع بها هي المرونة والقدرة على إظهار النتائج سريعاً".
تموِّل وزارة الدفاع الألمانية المشروع كجزءٍ من حزمة مالية بقيمة 500 مليون يورو (540 مليون دولار) موزعة على أربع سنوات كانت مخصصة لمكافحة كوفيد-19، وتهدف إلى المساعدة على إنعاش قطاع أبحاث التكنولوجيا الدفاعية المتقدمة في البلاد.
وتوضّح الرئيسة التنفيذية لشركة "21 استراتيجيز"، إيفون هوفستيتر، أن المنصة تحتوي على محرك ذكاء اصطناعي قائم على التعلم الذاتي والاستقلالية المعززة. وأضافت في مقابلة مع مجلة "ديفينس نيوز"، أن ما يُميّز "غوست بلاي" عن المبادرات العسكرية الأخرى التي ترتبط بالذكاء الاصطناعي هو استخدامها خوارزميات "الموجة الثالثة"، التي تُتيح للأطراف الفاعلة في ساحة المعركة الافتراضية أن تتخذ قرارات أكثر شبهاً بالقرارات البشرية، مع تضمين عوامل المفاجأة وعدم القدرة على التنبؤ. وتختلف هذه عن تكنولوجيات "الموجة الثانية" التي تُستخدم بشكلٍ أساسي لدعم القرارات البشرية وتسريعها، بدلاً من الخروج بخطط عمل جديدة.
اقرأ أيضاً: لماذا ينبغي على باحثي الذكاء الاصطناعي أن يعيدوا النظر في اعتراضهم على المشاركة في المشاريع العسكرية
المرحلة الثانية: محاكاة نشر الذخائر المتسكعة
في المرحلة الثانية من "غوست بلاي"، التي تُنفَّذ في الوقت الحالي، يتعاون مطورو المشروع مع "مكتب تطوير الجيش" الألماني لمحاكاة نشر الذخائر المتسكعة (الطائرات المسيَّرة الانتحارية) (Loitering Munitions) بواسطة المروحيات. وتستهدف التجارب الجديدة الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحسين نشر أسراب هذه الذخائر، وتمكينها من مواجهة الدفاعات الجوية للعدو بشكلٍ فعّال.
تتضمن هذه المرحلة تحديات إضافية، مثل التمثيل الدقيق لظروف التضاريس والمباني والغطاء النباتي. وتشرح هوفستيتر معنى التوائم الرقمية في هذا السياق، قائلة إنه إذا كانت المهمة هي إعادة إنشاء ليتوانيا، على سبيل المثال، من أجل إجراء المحاكاة، فإن المبرمجين سينشئون نسخة مفصّلة من البيئة، باستخدام صور الأقمار الصناعية وقواعد البيانات التي توفّرها السلطات المحلية، بما في ذلك المنازل والبنية التحتية والغطاء النباتي.
وتذكر ورقة بحثية نشرها مطورو "غوست بلاي" العام الماضي، أن النتائج الأولية تشير إلى أن منصة المحاكاة تتعلم تكتيكات اشتباك دقيقة للغاية مع أنواع مختلفة من التهديدات، كما أنها تعلمت تحسين استخدام أجهزة الاستشعار التي تمتلكها لاكتشاف الأهداف وتحديد أولويات التعامل معها بناءً على مدى خطورة تهديد معين. على سبيل المثال، تعلمت خوارزمية التحكم في النيران أن تُطلق النار أولاً على المنصات الحاملة للأسلحة، مثل المروحيات أو الطائرات المسيَّرة التي تحمل صواريخ، ثم الاشتباك مع الذخائر المتسكعة لاحقاً.
اقرأ أيضاً: كيف يساعد التركيز على تطبيقات الذكاء الاصطناعي العادية في درء مخاطره العسكرية؟
أكبر شركة ذكاء اصطناعي في أوروبا
مشروع "غوست بلاي" ليس مجرد مبادرة منفردة، وإنما هو أقرب لأن يكون توجهاً جديداً لاستكشاف إمكانات التكنولوجيا الحديثة، مثل الروبوتات والذكاء الاصطناعي، في السياقات العسكرية. وتقدّم لنا الاستثمارات الكبيرة الأخرى التي تم الإعلان عنها مؤخراً في مجال تطوير الأسلحة وأنظمة المراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي دليلاً على وجود مثل هذا التوجه.
أحد الأمثلة على هذه الاستثمارات الضخمة هو إعلان شركة هيلسينغ (Helsing)، وهي شركة ناشئة متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي الدفاعي (Defense AI)، حصولها على تمويلات بقيمة 209 ملايين يورو (223 مليون دولار).
كان تقييم "هيلسينغ" قبل هذا التمويل الأخير يبلغ 1.5 مليار يورو، وقد يصل الرقم الآن إلى أكثر من 1.7 مليار يورو، ما يجعلها أول شركة ناشئة في أوروبا في مجال الدفاع تتعدى قيمتها مليار يورو، لتتحول إلى شركة "يونيكورن" أو شركة ناشئة أحادية القرن (Unicorn Startup)، كما أن هذا الاستثمار على الأرجح جعل "هيلسينغ" أكبر شركة ذكاء اصطناعي في أوروبا وأكبر شركة أوروبية في مجال تكنولوجيا الدفاع.
تعمل الشركة، التي تتخذ من مدينة ميونيخ الألمانية مقراً لها، على تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي للطائرات المقاتلة والغواصات والدبابات. وتقول على موقعها إن "البرمجيات -خاصة الذكاء الاصطناعي- ستكون المفتاح لحماية ديمقراطيتنا".
اقرأ أيضاً: ما أسباب ازدهار شركات الذكاء الاصطناعي في القطاع العسكري؟
دعم "يوروفايتر" بالذكاء الاصطناعي
تكمن أهمية هذا التطور في أمرين؛ الأول أنه كان من الصعب قبل ذلك على الشركات الناشئة أن تجد موطئ قدمٍ لها في قطاع الدفاع، والثاني أن الاستثمارات في تكنولوجيا الدفاع هي توجه جديد نسبياً بالنسبة للعديد من أصحاب رؤوس الأموال الأوروبيين، لأنها كانت تعتبر من المحرمات قبل الحرب في أوكرانيا، بحسب لاريسا هولزكي، قائدة فريق الذكاء الاصطناعي بصحيفة "هاندلسبلات" الألمانية.
في يونيو/ حزيران الماضي، اختارت الحكومة الألمانية الشركة لتوفير قدرات الحرب الإلكترونية المدعومة بالذكاء الاصطناعي للطائرة المقاتلة "يوروفايتر". وبحسب المعلن، تقوم "هيلسينغ" بالتعاون مع شركة الأسلحة السويدية ساب (Saab) حالياً ببناء منصة برمجية يمكن من خلالها تلقي تدفقات بيانات الاستشعار ومعالجتها، لتمكين طائرات "يوروفايتر" من تقييم إشارات الرادار بمساعدة الذكاء الاصطناعي بشكلٍ أسرع وأفضل.
كما اختار المكتب الاتحادي الألماني للمعدات وتكنولوجيا المعلومات والدعم أثناء الخدمة بالجيش (BAAINBw) شركة "هيلسينغ" ضمن اتحاد (ائتلاف) يضم 3 شركات لتوفير العمود الفقري للذكاء الاصطناعي لنظام القتال الجوي المستقبلي (FCAS). وهذا النظام هو مبادرة متعددة الجنسيات، تضم فرنسا وألمانيا وإسبانيا، لتطوير نظام جوي قتالي من الجيل التالي، يتكون من طائرات مقاتلة من الجيل السادس وأنظمة جوية غير مأهولة.
اقرأ أيضاً: ما الدور الذي تؤديه أسلحة الذكاء الاصطناعي في الحرب الروسية الأوكرانية؟
روبوتات للاستخدام العسكري
ثمة شركات أخرى أصغر حجماً تعمل في المجال نفسه بدأت تحظى بالاهتمام مؤخراً. من ضمن هذه الشركات أيه أر إكس لاندسيستمى (ARX Landsysteme)، وهي شركة ناشئة تعمل في مجال التكنولوجيا الدفاعية وتتخصص في تطوير أنظمة غير مأهولة ذاتية الحركة وأجهزة استشعار لقطاع الدفاع الأوروبي وحلف الناتو.
تطوّر الشركة التي أسسها الضابط في الجيش الألماني مارك فيتفيلد، ويقع مقرها أيضاً في ميونيخ، روبوتات مدعومة بالذكاء الاصطناعي متعددة الوظائف، حيث يمكنها خداع الدبابات والعمل كمراكز بيانات متنقلة وتأمين الاتصالات اللاسلكية وتوليد الضباب في حالة الخطر ونقل المعدات العسكرية والجرحى. ويمكن لأصغر نموذج من هذه الروبوتات أن يحمل 7 كيلوغرامات، بينما يمكن لأكبرها أن يحمل ما يصل إلى 450 كيلوغراماً، كما يمكن استخدامها على نحو فردي أو في مجموعات.
اقرأ أيضاً: هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل البشر في اتخاذ القرارات العسكرية؟
العامل المشترك بين معظم الشركات التي تنشط حالياً في مجال الذكاء الاصطناعي الدفاعي في ألمانيا هو أنها شركات تأسست خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة فقط، ما يوضّح التأثير الكبير الذي أحدثته التوترات المستمرة بين الولايات المتحدة والصين ثم الحرب الروسية-الأوكرانية على تنامي أفكار "السيادة التكنولوجية الأوروبية".