في خضم التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، خصوصاً في ظل التحولات الجذرية التي يدفع بها الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات وجوانب الحياة، أضحت صياغة استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي أكثر أهمية من أي وقتٍ مضى، ولا يمكن المبالغة في أهمية وجود استراتيجيات كهذه للدول التي تتطلع إلى تعظيم قدرات الذكاء الاصطناعي وتسخيرها من أجل تعزيز مستهدفات النمو الاجتماعي والاقتصادي.
تركّز الدول عادة على نموذج من ثلاثة نماذج استراتيجية متاحة عند تطوير استراتيجياتها الوطنية للذكاء الاصطناعي: أولها نموذج "التمكين الوطني"، والذي يهدف إلى تسخير حلول الذكاء الاصطناعي وتبنّيها لدعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة، ونموذج "التميّز" الذي يركّز على تأصيل مواقع الدول كمراكز تميّز إقليمية أو عالمية في مجالات الذكاء الاصطناعي والتي تمتلك فيها خبرات وطنية أو قدرات تنافسية استثنائية، بالإضافة إلى نموذج الريادة العالمية"، الذي يهدف إلى الوصول إلى مرتبة القيادة والهيمنة الشاملة في مجال الذكاء الاصطناعي. وتعمل هذه النماذج على توجيه مسارات التخصيص الاستراتيجي للموارد والاستثمارات في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، بما يضمن تحقيق مستهدفات الابتكار التقني والتقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي.
ومن خلال مواءمة الاستراتيجيات الوطنية للذكاء الاصطناعي مع أحد هذه النماذج يمكن للدول خوض مسيرة الذكاء الاصطناعي وفق رؤية واضحة، يتم خلالها تعزيز الابتكار وضمان توافق تطوير الذكاء الاصطناعي مع الأهداف الوطنية والاحتياجات المجتمعية. وعند التعمق في فهم وتحليل تفاصيل وتداخلات تلك الاستراتيجيات، يأتي دور إطار أسباير ليكون بمثابة دليل يوجّهنا خلال هذه الرحلة.
أسباير: إطار نموذجي لصياغة الاستراتيجيات الوطنية للذكاء الاصطناعي
لا تزال دول العالم تستكشف آفاقاً جديدة في المجالات والتطبيقات المتنامية للذكاء الاصطناعي، ولدعم هذا التوجه، نقدّم إطار أسباير، الذي يوفّر خطة مصممة بعناية لتطوير استراتيجيات الذكاء الاصطناعي الوطنية الفعّالة. يوفّر هذا الإطار الذي تقترحه شركة بوسطن كونسلتينغ جروب ستة عناصر محورية وهي: الطموح، والمهارات، والسياسات والأطر التنظيمية، والاستثمار، والبحث والابتكار، والمنظومة المتكاملة.
الطموح هو القلب النابض للاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، حيث ينبغي على الدول اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن أولوياتها، تضمن التوافق مع نموذج شامل يعزز النمو الاقتصادي ويُمكّن القطاع الخاص. يتجاوز هذا النهج الاستراتيجي مجرد الاختيار بين متناقضات أو نماذج متباينة؛ حيث يتطلب موازنة دقيقة بين الاستثمارات الكبيرة وتوزيع الموارد بفاعلية لتعزيز النمو الاقتصادي وتحفيز الابتكار في القطاع الخاص.
بينما تُبرز المهارات الدور الأساسي لرأس المال البشري في زمنٍ يُهيمن عليه الذكاء الاصطناعي. فالأمرُ ليس مجرد مجموعة من الآلات؛ بل هو في جوهره مرتبطٌ بالبشر، ومهاراتهم، وقدرتهم على التكيُّف والازدهار، وينبغي على الدول -في سبيل تطوير وجذب واستبقاء أفضل الكفاءات- التركيز على تثقيف المواطنين حول الذكاء الاصطناعي وتوسعة معرفتهم به، وفي الوقت ذاته رعاية نخبة متخصصة من خبراء الذكاء الاصطناعي. ومع احتمالية إحداث الذكاء الاصطناعي طفرة في وظائف محددة، يصبح اكتساب المهارات الجديدة ضرورة مُلحّة ومفتاحاً للنجاح المستقبلي.
ومع صعود الذكاء الاصطناعي، تتصدر السياسات والأطر التنظيمية المشهد وتكتسب أهمية متزايدة. وبينما ركّزت المساعي الأولية عالمياً على وضع إرشادات أخلاقية عامة، إلّا أنه مع استمرار الذكاء الاصطناعي في تشكيل جوانب حياتنا المختلفة، أصبح تحديث التشريعات ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي ومراجعتها ضرورة حتمية، حيث تعالج هذه الأطر التنظيمية المخاطر الناشئة عن التأثيرات الشاملة للذكاء الاصطناعي.
فضلاً عن ذلك، فإن الاستثمار يمثّل وقود مسار الذكاء الاصطناعي، حيث لا يتعلق الأمر بتخصيص الموارد المالية للبحث والتطوير فحسب، بل بتوفير الأدوات المالية التي تدعم ازدهار منظومة الذكاء الاصطناعي. وينبغي على الدول تعزيز الاستثمارات المحلية والدولية، وتسهيل آليات دعم الأعمال وتقديم الحوافز الجذابة.
وفي الوقت ذاته، يمكّن البحث والابتكار التقدم والتطور المستمر للذكاء الاصطناعي. وفي ضوء المشهد المتسارع للذكاء الاصطناعي، يجب على الدول أن تقود المسيرة لتظل في المقدمة، وتستفيد من التوجهات والتطورات العالمية للذكاء الاصطناعي وتسهم فيها، بما يشمل الأبحاث الأساسية والتطبيقية. فضلاً عن ذلك، من المهم التشديد على ضرورة تطوير وابتكار حلول الذكاء الاصطناعي التي تتناغم مع القطاعات ذات الأولوية في الدولة، والتحديات المُلحّة لها، والفرص الناشئة فيها. ومن خلال تركيز أبحاث الذكاء الاصطناعي على هذه الجوانب الاستراتيجية، يمكن للدول تحقيق طفرة في المجالات ذات الأولوية وقيادة نمو غير مسبوق في القطاعات الحيوية.
من جانبٍ آخر، تدور فكرة المنظومة المتكاملة حول بناء بنية تحتية متماسكة وتعزيز مجتمع ذكاء اصطناعي مفعم بالحيوية، حيث يبلغ الذكاء الاصطناعي أقصى إمكاناته وتتضاعف قدراته عندما تتضافر جهود المؤسسات الأكاديمية والصناعة وصُنّاع القرار. ولتعظيم أوجه هذا التكامل، يجب على الدول توفير أدوات الذكاء الاصطناعي ومنصاتها، وإتاحة البيانات على نحوٍ يسهم في تعزيز نمو الشركات الناشئة والكيانات القائمة. كما يمكن للدول من خلال التعاون الدولي الاستفادة من الخبرات المتنوعة، ما يؤمّن لها دوراً محورياً على الساحة العالمية للذكاء الاصطناعي.
من الفكرة إلى الواقع: توجيه الرؤية الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي نحو إنجازات ملموسة
للتمكن من تحقيق رؤى الذكاء الاصطناعي وتحويلها إلى واقع ملموس، نحتاج إلى منظومة حوكمة قوية وتعاون فعّال بين القطاعين العام والخاص. وتجسّد المملكة العربية السعودية نموذجاً جيداً لهذا النهج من خلال استراتيجيتها التي تقودها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، حيث تنظم حوكمة وطنية شاملة للبيانات والذكاء الاصطناعي وتعزز التعاون عبر المنظومة الشاملة لتحقيق رؤية المملكة لعام 2030. ويُبرز هذا المثال الدور الأساسي لوجود نهج منظم بدقة في تطوير استراتيجيات الذكاء الاصطناعي وتفعيلها، وضمان انسجامها وتوافقها مع الأهداف الوطنية ودفع الازدهار الاقتصادي.
تُبرز الرحلة من التخطيط إلى التنفيذ ضرورة وضع رؤية وتنفيذ استراتيجية شاملة مع حوكمة قوية تتضمن إشراك المجتمعات المحلية والدولية، ويوفّر إطار أسباير مساراً واضحاً للمضي قدماً في ذلك، داعياً لاستراتيجية متكاملة تستفيد من الذكاء الاصطناعي وتهدف إلى إحداث ثورة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية ذات الأولوية. وللحصول على رؤى أعمق وفهم شامل لرحلة الدول في هذا المسار التحولي، يقدّم تقريرنا رؤى قيّمة حول التبني الفعّال لاستراتيجيات الذكاء الاصطناعي الوطنية وتنفيذها.