تحذير: لا أحد مستعد للذكاء الاصطناعي العام
عندما استقال مايلز برونداغ، كبير مستشاري شركة "أوبن أيه آي" للجاهزية للذكاء الاصطناعي العام (AGI Readiness)، قبل أسبوعين، أطلق تحذيراً صارخاً: لا أحد مستعد للذكاء الاصطناعي العام، بما في ذلك "أوبن أيه آي" نفسها.
وفي خطاب إلى زملائه، قال برونداغ: باختصار، لا أوبن أيه آي ولا أي من المختبرات الأخرى الأكثر تقدماً في هذا المجال جاهزة، والعالم كذلك غير جاهز للذكاء الاصطناعي العام. وأضاف عالم الأبحاث السابق في فريق السياسات بالشركة وباحث ما بعد الدكتوراة في جامعة أكسفورد، أن "القيود أصبحت أكثر من اللازم"، مشيراً إلى رغبته في المزيد من الاستقلالية في عمله والمزيد من الحرية في النشر.
تزامنت استقالة برونداغ مع إعلان الشركة حل فريق الجاهزية للذكاء الاصطناعي العام، وذلك بعد أشهر قليلة من الإعلان عن حل فريق آخر هو فريق الالتزام الفائق (Superalignment team) الذي كان يركّز على المخاطر الطويلة المدى للذكاء الاصطناعي، واستقالة عدد كبير من قادة الشركة بمن فيهم المؤسس المشارك وكبير العلماء السابق، إيليا سوتسكيفر، الذي أسس شركته الخاصة "للتركيز على تطوير الذكاء الاصطناعي العام الآمن".
ربما تكون هذه الاستقالات أمراً طبيعياً في شركة تكنولوجية ناشئة تعمل في مجال سريع التغير، لكنها قد تحمل في طياتها انقساماً أعمق سواء داخل "أوبن أيه آي" نفسها أو بين العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي بشكلٍ عام، لأنها تأتي في وقتٍ بدأ فيه العديد من قادة هذه الصناعة الحديث عن أننا على أعتاب عصر الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، بل وذهبوا إلى حد تقديم جداول زمنية لهذه التكنولوجيا المختلف على مضمونها حتى الآن.
اقرأ أيضاً: أوبن إيه آي تعلن تطويرها نموذجاً يصل إلى مستوى الذكاء الاصطناعي العام
تكنولوجيا تُعالج معظم الأمراض خلال 10 سنوات
يستخدم الباحثون والخبراء مصطلحات مختلفة للإشارة إلى الذكاء الاصطناعي الذي يصل إلى مستوى الذكاء البشري ويحاكي القدرات الإدراكية للبشر أو يتجاوزها، مثل الذكاء الفائق (Superintelligence) أو الذكاء الاصطناعي القوي (powerful AI). ومن الناحية النظرية، يمكن للذكاء الاصطناعي العام تنفيذ أي مهمة يمكن للإنسان القيام بها، وربما أداء العديد من المهام التي يعجز عنها البشر.
يرى بعض قادة الذكاء الاصطناعي أن القدرات التي كانت تبدو بعيدة المنال قبل بضع سنوات فقط أصبحت الآن في متناول اليد، ومن بين هؤلاء الرئيس التنفيذي لشركة جوجل ديب مايند، ديميس هاسابيس. قبل حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء، كرر هاسابيس عدة مرات هذا العام الحديث عن اعتقاده بإمكانية الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام بحلول عام 2030، مضيفاً أنه قد يسهم في "علاج معظم الأمراض في غضون العقد أو العقدين المقبلين".
وفي حديثه خلال "قمة ذا تايمز التقنية"، التي عُقِدت مؤخراً، قال هاسابيس إن هناك حاجة إلى "ابتكارين أو 3 ابتكارات كبيرة" لجعل الذكاء الاصطناعي العام ممكناً، وأضاف: "كان هذا هو الهدف الأصلي للذكاء الاصطناعي كمجال، وهذا هو الهدف الذي تسعى إليه ديب مايند".
البكاء تأثراً بالذكاء الاصطناعي القوي
رؤية هاسابيس قد تبدو متفائلة، لا سيما فيما يتعلق بالتوقيت، لكنها تظل أكثر واقعية إذا ما قورنت بتوقعات الرئيس التنفيذي لشركة أنثروبيك (Anthropic)، داريو أمودي.
كتب أمودي، الذي تسعى شركته إلى جمع تمويلات تصل إلى 40 مليار دولار، مقالاً مفصّلاً يشرح فيه نظرته لمستقبل الذكاء الاصطناعي العام، الذي يفضّل تسميته الذكاء الاصطناعي القوي (powerful AI). يتوقع أمودي أن نصل إلى هذا النوع من الذكاء بحلول عام 2026، مضيفاً أن هذه التكنولوجيا ستسهم في القضاء على أغلب الأمراض خلال فترة تتراوح بين 5 و10 سنوات، وستعزز "الحرية البيولوجية والمعرفية"، وتنتشل مليارات البشر من براثن الفقر، إلى جانب تغيرات جذرية أخرى قد تجعل الكثيرين "يتأثرون حرفياً إلى حد البكاء".
ويتصور الرئيس التنفيذي لأكبر شركة منافسة لـ "أوبن أيه آي" مستقبلاً يتمكن فيه الذكاء الاصطناعي من تعزيز التقدم في مجالات مثل علم الأحياء وعلم الأعصاب، مضيفاً أن هذه التكنولوجيا -التي ستكون أكثر ذكاءً من الفائزين بجوائز نوبل- ستتحكم في الروبوتات والمعدات الأخرى، وسيمكنها العمل على حل المشكلات الكبيرة والمعقدة بشكلٍ مستقل، وستضغط 100 عام من التقدم الطبي في عقد واحد، وستُعالج الأمراض العقلية، وتحمل العقول البشرية إلى السحابة، وغيرها من الأهداف التي تبدو مفرطة في التفاؤل.
بالطبع، يعترف أمودي بأن رؤيته هذه طموحة للغاية، وأنها "من المرجح أن تبدو للكثيرين وكأنها خيال سخيف".
اقرأ أيضاً: لماذا فاز رائد النزعة التشاؤمية تجاه الذكاء الاصطناعي جيفري هينتون بجائزة نوبل في الفيزياء؟
سيتجاوز قدرات البشر جميعهم خلال 5 سنوات
وإذا كان أمودي مبالغاً في قدرات الذكاء الاصطناعي المتوقعة، فإن الرئيس التنفيذي لشركة تسلا، إيلون ماسك، هو الأكثر تفاؤلاً فيما يتعلق بالجدول الزمني. في وقتٍ سابق من هذا العام، توقع ماسك أن تطوير الذكاء الاصطناعي العام سيحدث على الأرجح بحلول العام المقبل أو في عام 2026. وقال في مقابلة أُذيعت على منصة "إكس": "إذا كنت تُعرّف الذكاء العام الاصطناعي بأنه أذكى من أذكى إنسان، فأعتقد أن الوصول إليه ربما يحدث خلال العام المقبل أو في غضون عامين"، كما أعرب عن اعتقاده بأن هذا النوع من الذكاء سيتجاوز قدرات البشر جميعهم مجتمعين في غضون 5 سنوات.
وخلال حديثه مع المستثمرين عن أرباح تسلا، الأسبوع الماضي، أشار ماسك إلى صعوبة توظيف مهندسي الذكاء الاصطناعي للعمل في الشركة، لأن "العديد من المرشحين أو الموظفين يركزون فقط على تطوير الذكاء الاصطناعي العام"، بدلاً من العمل على حل مشكلات الشركة. وأضاف: "لقد حاولت توظيفهم في تسلا، بما في ذلك [القول] مثلاً: يمكنكم العمل على الذكاء الاصطناعي العام إذا كنتم تريدون، لكنهم رفضوا. لذلك أنشأت شركة إكس أيه آي".
لكن الجداول الزمنية التي يضعها ماسك لا تؤخذ في الكثير من الأحيان على محمل الجد في وادي السيليكون، لأنه أطلق سابقاً الكثير من الوعود والتنبؤات التي لم تتحقق. وقد عرض غاري ماركوس، الرئيس التنفيذي لشركة جيومتريك إنتلجنس (Geometric Intelligence)، على ماسك رهاناً بمبلغ مليون دولار على أن الذكاء الاصطناعي لن يصبح "أذكى" من البشر بحلول نهاية عام 2025. وفي وقت لاحق، رفع أحد المستثمرين في مجال التكنولوجيا قيمة هذا الرهان إلى 10 ملايين دولار.
سنصل في غضون بضعة آلاف من الأيام
في خضم هذه التوقعات المبالغة في تفاؤلها حول قدرات الذكاء الاصطناعي العام، كانت رؤية الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أيه آي"، سام ألتمان، أكثر توازناً.
قال ألتمان، في مقالة نشرها على مدونته الشخصية في نهاية شهر سبتمبر الماضي، إننا قد نصل إلى مرحلة الذكاء الفائق (superintelligence) في غضون بضعة آلاف من الأيام. وعبّر ألتمان عن اعتقاده بأن المستقبل سيكون مشرقاً إلى الحد الذي يجعل من المستحيل وصفه بمجرد محاولة الكتابة عنه الآن، وأن الرخاء الهائل سيكون من السمات المميزة لهذا المستقبل.
وفي المقالة المعنونة "عصر الذكاء"، توقع ألتمان أننا سنكون قادرين، خلال العقدين المقبلين، على تحقيق أشياء كانت تبدو أشبه بالسحر بالنسبة لأجدادنا. وذكر أنه في نهاية المطاف، قد يكون لكل منا فريق ذكاء اصطناعي شخصي، مليء بالخبراء الافتراضيين في مجالات مختلفة، يعملون معاً لإنتاج أي شيء تقريباً يمكننا تخيله. وبفضل هذه القدرات الجديدة، يرى ألتمان أنه "يمكننا أن نتقاسم الرخاء إلى درجة تبدو غير قابلة للتصور اليوم. وفي المستقبل، قد تكون حياة الجميع أفضل من حياة أي شخص الآن".
ولم ينسَ ألتمان أن يضيف إلى رؤيته لمسة فلسفية عندما أشار إلى أن الرخاء وحده لا يجعل الناس سعداء بالضرورة، فهناك الكثير من الأثرياء البائسين، لكنه سيحسّن حياة الناس في مختلف أنحاء العالم على نحو ملموس.
وأشار ألتمان إلى عدة جوانب سلبية، بما في ذلك تأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل، لكنه قال إن: "معظم الوظائف ستتغير على نحو أبطأ مما يعتقده الكثيرون"، مضيفاً أن العديد من الوظائف التي نؤديها اليوم ستبدو وكأنها مضيعة للوقت في المستقبل.
اقرأ أيضاً: هل أصبحنا قريبين حقاً من تطوير الذكاء الاصطناعي العام؟ وماذا ستجني البشرية منه؟
الذكاء الاصطناعي لا يزال أغبى من القطط
في مقابل هذه التوقعات الوردية من قادة الشركات، والتي قد تكون أحياناً نوع من الدعاية لجذب المستثمرين، تتخذ لهجة كبار الباحثين في هذا المجال منحى مختلفاً. على سبيل المثال، لا يعتقد نائب رئيس شركة "ميتا" وكبير علماء الذكاء الاصطناعي فيها، يان لوكون، أن الذكاء الاصطناعي على وشك أن يصبح ذكياً بالفعل.
يعمل لوكون أستاذاً في جامعة نيويورك، وقد فاز بجائزة تورينغ المرموقة التي يُنظر إليها أحياناً على أنها "جائزة نوبل للحوسبة". وفي مقابلة نُشرت الشهر الماضي مع صحيفة "وول ستريت جورنال"، قال لوكون إن النماذج اللغوية الكبيرة الحالية تفتقر إلى بعض القدرات الأساسية التي تتمتّع بها القطط، مثل الذاكرة المستمرة والمنطق والتخطيط وفهم العالم المادي. وفي رأيه، لا تثبت هذه النماذج سوى أنه "يمكنك التلاعب باللغة دون أن تكون ذكياً"، ولن تؤدي أبداً إلى ذكاء اصطناعي عام حقيقي.
تتفق فاي فاي لي، الباحثة المعروفة باسم "الأم الروحية للذكاء الاصطناعي" مع هذا الطرح، قائلة إنها لا تعرف ما هو الذكاء الاصطناعي العام. وخلال قمة "قيادة الذكاء الاصطناعي المسؤول" التي نظّمتها منصة حوكمة الذكاء الاصطناعي (Credo AI) الشهر الماضي، قالت فاي: "بصراحة، لا أعرف حتى ما يعنيه الذكاء الاصطناعي العام. يقول الناس إنك ستعرفه عندما تراه، أعتقد أنني لم أره. والحقيقة هي أنني لا أقضي الكثير من الوقت في التفكير في هذه الكلمات لأنني أعتقد أن هناك الكثير من الأشياء الأكثر أهمية للقيام بها".
من جانبه، يرى عالم الذكاء الاصطناعي الذي حصل مؤخراً على جائزة نوبل للفيزياء، جيفري هينتون، أن الذكاء الاصطناعي العام ليس مصطلحاً تقنياً لكنه "مفهوم جاد، وإن كان غير محدد جيداً". ويفّضل هينتون مصطلح "الذكاء الفائق" للإشارة إلى "أنظمة الذكاء الاصطناعي العام التي تتفوق على البشر".
قد لا يكون الطريق إلى الذكاء الاصطناعي العام واضح المعالم تماماً حتى الآن، وهو ما يتضح من التباين بين قادة الشركات والباحثين. وبالتأكيد لا تزال هناك حواجز كبيرة أمام تطويره، بما في ذلك نقص القدرات الحوسبية والحاجة إلى خوارزميات أكثر تعقيداً قد تتطلب مئات المليارات من الدولارات والكثير من الطاقة غير المتوفرة حالياً. بالإضافة إلى ذلك، هناك قضايا عالقة تتعلق بالخصوصية والتنظيم والمخاطر الوجودية المحتملة. ومع ذلك فإن التأكيدات المتتالية من رؤساء شركات التكنولوجيا، الذين أسهموا في وصول هذه التكنولوجيا إلى ما هي عليه حالياً، تشير إلى احتمالية الوصول إلى هذا النوع المتقدم من التكنولوجيا حتى قبل أن نفهم تماماً تأثيراته العميقة على مستقبلنا.