أظهر تقرير نشرته شركة الاستشارات الإدارية ماكنزي، الأسبوع الماضي، أن المؤسسات العاملة في دول مجلس التعاون الخليجي سارعت إلى تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي، ومع ذلك فإن القليل منها تمكن حتى الآن من تحقيق عوائد استثمارية كبيرة من هذا المجال، ما يعني وجود فرص نمو كبيرة وإمكانات واسعة لجني فوائد أكبر من هذه التكنولوجيا.
قدرت أبحاث الشركة، التي نُشرت نتائجها ضمن تقرير حالة الذكاء الاصطناعي التوليدي في دول مجلس التعاون الخليجي لعام 2024، أن تطبيق الذكاء الاصطناعي التوليدي في 63 حالة استخدام يمكن أن يولّد قيمة اقتصادية تتراوح بين 2.6 و4.4 تريليونات دولار سنوياً على المستوى العالمي. أما في دول مجلس التعاون الخليجي، فيمكن أن تسهم حالات استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي نفسها في تحقيق عوائد تتراوح بين 21 و35 مليار دولار سنوياً، بالإضافة إلى 150 مليار دولار يمكن أن توفّرها تقنيات الذكاء الاصطناعي الأخرى مثل التعلم الآلي والتحليلات المتقدمة والتعلم العميق.
وأوضح التقرير أن هذه الأرقام تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يسهم بما بين 1.7% و2.8% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي غير النفطي الحالي في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، وقد ساعدت هذه الإمكانات الكبيرة على تعزيز الاستثمارات والشراكات في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي في المنطقة.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي التوليدي يصل إلى مرحلة جديدة: من التجارب الفردية إلى التطبيق المؤسسي
ما مدى استعداد المؤسسات لجني فوائد الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
للإجابة عن التساؤل الخاص بما إذا كانت المؤسسات العاملة في المنطقة مستعدة لجني فوائد الذكاء الاصطناعي التوليدي، أجرت ماكنزي، بالتعاون مع معهد مجالس الإدارات في دول مجلس التعاون الخليجي، استطلاعاً للرأي شارك فيه 140 مسؤولاً تنفيذياً يمثلون 8 قطاعات مختلفة في المنطقة.
توصل الاستطلاع إلى أن العديد من المؤسسات تتخذ إجراءات سريعة للاستفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث قال ما يقرب من ثلاثة أرباع المشاركين في الاستطلاع إن الذكاء الاصطناعي التوليدي يُستخدم بالفعل في وظيفة واحدة على الأقل في مؤسساتهم، وذلك مقارنة بنسبة 65% من المشاركين في استطلاع عالمي مماثل أجرته ماكنزي في وقتٍ سابق من هذا العام. ومع ذلك، فإن عدداً قليلاً من هذه المؤسسات بدأ فعلياً توسيع نطاق تطبيق الذكاء الاصطناعي التوليدي وتحقيق استفادة ملموسة من استثماراته في هذا المجال.
يوضّح التقرير، في المقابل، وجود عدد محدود من المؤسسات التي تمكنت بالفعل من توليد أكثر من 5% من أرباحها من الذكاء الاصطناعي التوليدي. وهذه المؤسسات، التي يُشار إليها باسم المؤسسات المحققة للقيمة (Value Realizers)، هي التي أحرزت أكبر قدر من التقدم في بناء القدرات اللازمة لتبني الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وذكر 57% من المشاركين في دول مجلس التعاون الخليجي أن مؤسساتهم تستثمر ما لا يقل عن 5% من ميزانياتها الرقمية في الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهو ما يزيد على النسبة التي توصل إليها الاستطلاع العالمي والتي تبلغ 33%، كما قال نصف المشاركين إن مؤسساتهم وضعت خارطة طريق لتنفيذ حالات الاستخدام ذات الأولوية على نطاقٍ أوسع، وهو ما يزيد أيضاً على المعدل العالمي البالغ 26%.
كيفية تحقيق القيمة من الذكاء الاصطناعي التوليدي
أوضحت النتائج أن القطاع الذي يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يقدم فيه أكبر قيمة اقتصادية محتملة في دول مجلس التعاون الخليجي هو قطاع الطاقة، حيث من الممكن تحقيق مكاسب سنوية تتراوح بين 5 و8 مليارات دولار، يليه قطاع المشروعات الرأسمالية والبنية الأساسية، ثم قطاع الخدمات المالية.
وتركّز المؤسسات في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام جهودها المبكرة على الوظائف التي تُظهر أبحاث ماكنزي أنها من المرجح أن تحقق أكبر قيمة. وتشمل هذه الوظائف التسويق والمبيعات، وهندسة البرمجيات، وتكنولوجيا المعلومات.
ويستعرض التقرير ما يميز "المؤسسات المحققة للقيمة"، وهي تلك المؤسسات التي تحقق 3 معايير أساسية: تبنّي الذكاء الاصطناعي التوليدي في وظيفة واحدة على الأقل، وتطوير نماذجها الخاصة أو تخصيص نماذج متاحة للجمهور، وتوليد أكثر من 5% من أرباحها من الذكاء الاصطناعي التوليدي.
اقرأ أيضاً: تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي في الإنتاجية المهنية للبشر
تظهر النتائج أن هذه المؤسسات حققت تفوقاً في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي من خلال اتباع استراتيجية واضحة لتطبيق هذه التكنولوجيا، إذ وضعت 80% منها خارطة طريق متكاملة لإدخال استخدامات الذكاء الاصطناعي التوليدي ذات الأولوية، مقارنة بنسبة 48% بين المؤسسات الأخرى. كما أن المؤسسات المحققة للقيمة تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي في مجموعة أوسع من الوظائف، بما في ذلك إدارة المخاطر، والقانون والامتثال، وتطوير المنتجات والخدمات. بالإضافة إلى ذلك، أفادت 70% من "المؤسسات المحققة للقيمة" المشاركة في الاستطلاع بأن لديها نظاماً لقياس وتتبع مؤشرات الأداء الرئيسية، مقارنة بـ 39% لدى غيرها من المؤسسات.
التركيز على 5 عناصر أساسية
تقول ماكنزي إن دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي على نطاق واسع يستلزم إتقان قدرات معينة في 5 مجالات: التكنولوجيا والبيانات والمواهب ونموذج التشغيل وإدارة المخاطر.
بالنسبة للجانب التكنولوجي، لدى المؤسسات 3 خيارات للنماذج: يمكنها استخدام نماذج جاهزة ومتاحة للجمهور، أو تخصيص النماذج باستخدام بياناتها وأنظمتها الخاصة، أو تطوير نماذج أساس خاصة بها من الصفر، وهذا الخيار الأخير مُكلف للغاية. ووفقاً للاستطلاع، تخصص 63% من المؤسسات في دول مجلس التعاون الخليجي النماذج أو تطوّر نماذجها الخاصة، وهو ما يزيد على المعدل العالمي البالغ 47%.
ويوضّح التقرير أن إدارة البيانات الفعّالة ينبغي أن تتضمن وضع استراتيجية بيانات شاملة، للحصول على البيانات اللازمة وتحويلها إلى تنسيق قابل للاستخدام، ثم العثور على الأشخاص المناسبين لتنفيذ هذه الاستراتيجية، كما ينبغي أن تنشئ المؤسسات مستودع بيانات مركزياً لتسهيل عملية دمج البيانات ومعالجتها. وتواجه المؤسسات في دول مجلس التعاون الخليجي تحديات أخرى تتعلق بالبيانات، إذ تفرض لوائح خصوصية البيانات في بعض الأحيان مكان وكيفية تخزين البيانات، لا سيما تلك المتعلقة بالأفراد أو التي قد تمس الأمن القومي، وهو ما يمكن أن يصعّب على المؤسسات جمع كل بياناتها معاً وتحليلها على نحو فعال.
يشير التقرير أيضاً إلى جانب تعيين المواهب أو الكفاءات والاحتفاظ بها باعتباره من أكثر القدرات أهمية عندما يتعلق الأمر بنشر الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكلٍ فعّال داخل المؤسسة، خاصة أنه يشكّل مصدرَ قلقٍ كبيراً للعديد من المؤسسات في دول مجلس التعاون الخليجي. ومن ضمن الخطوات التي يمكن اتباعها تعيين قائد مخصص للذكاء الاصطناعي التوليدي، وتطوير استراتيجية مواهب مصممة جيداً بحيث لا تقدم مزايا تنافسية فحسب بل وفرص نمو أيضاً، ووضع برنامج تطوير مهني مخصص لكل موظف.
ومع ذلك، فإن اعتماد هذه الاستراتيجية لا يضمن حل المشكلة بالكامل، إذ لا تزال 48% من المؤسسات التي تمتلك استراتيجية للمواهب في دول مجلس التعاون الخليجي تقول إن التوظيف والاحتفاظ بالموظفين يشكلان تحدياً. وينخفض هذا الرقم إلى 20% بين المؤسسات المحققة القيمة.
لمواجهة هذا التحدي، تعتمد الحكومات في المنطقة مبادرات مختلفة. فمثلاً، توفر كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة برامج لتدريب الموظفين على الذكاء الاصطناعي التوليدي. كما تنفذ بعض المؤسسات المحققة للقيمة برامج مكثفة لتعليم موظفيها مهارات الذكاء الاصطناعي التوليدي. ونقل التقرير عن مسؤول في إحدى المؤسسات الكبيرة في دولة الإمارات قوله إن تنظيم ورش عمل أسبوعية لتثقيف الموظفين حول هذه التكنولوجيا لم يساعد فقط على تطوير مهاراتهم، بل أظهر أيضاً كيف أن يمكن لهذه التكنولوجيا أن تكمل عملهم، وهو ما ساهم في زيادة الحماس نحو تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وفيما يتعلق بنموذج التشغيل (Operating Model)، تشير ماكنزي إلى 3 عوامل رئيسية يمكن أن تساعد على توسيع نطاق مبادرات الذكاء الاصطناعي التوليدي. أولاً، إنشاء مركز تميز (Center of Excellence) يعمل من خلاله فريق مركزي واحد لتنسيق تنفيذ الذكاء الاصطناعي التوليدي عبر أقسام المؤسسة، ودفع الانتقال بطريقة منظمة من التجارب الأولية إلى الإنتاج، ثم التبني على نطاق واسع. ثانياً، التركيز على عامل المرونة، فالعمليات والمعايير والميزانيات المرنة تعزز التعاون والإنتاجية. وأخيراً، تنفيذ برنامج قوي لإدارة التغيير يتضمن خطة اتصال توضح للجميع أهمية الذكاء الاصطناعي التوليدي وتوفر فرصاً لبناء المهارات.
أمّا العنصر الخامس والأخير الذي يشير إليه التقرير لضمان دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي على نطاق واسع، فهو إدارة المخاطر المرتبطة بهذه التكنولوجيا. حددت 66% من المؤسسات في دول مجلس التعاون الخليجي الأمن السيبراني باعتباره الخطر الأهم، يليه الامتثال التنظيمي (52%) وعدم الدقة (45%)، وهو ترتيب يتفق مع النتائج التي توصل إليها الاستطلاع العالمي.
اقرأ أيضاً: كيف سيغيّر الذكاء الاصطناعي التوليدي تجربة البحث على جوجل؟
وتشير الدراسة في النهاية إلى أن المؤسسات كلها في دول مجلس التعاون الخليجي لديها فرصة لتحقيق فوائد أكبر من الذكاء الاصطناعي التوليدي، كما أن إمكانات النمو لا تزال كبيرة في هذا المجال، نظراً إلى أن 10 أشخاص فقط من أصل 140 مشاركاً في الدراسة أفادوا بأن مؤسساتهم تولد أكثر من 5% من أرباحها من هذه التكنولوجيا.