إذا كنت تعتقد أن التهديد الأكبر الذي يواجه سوق العمل اليوم هو استبدال البشر بالروبوتات، فأنت لا ترى الصورة كاملة، إذ لم يعد السؤال: "أي الوظائف ستختفي؟" بل أصبح: "كيف سيُغيّر الذكاء الاصطناعي التوليدي طبيعة العمل ذاته؟". لا نتحدث هنا عن مجرد تطور تكنولوجي آخر، بل عن لحظة تحوُّل تُعيد رسم حدود الإنتاجية، وتُجبرنا على إعادة التفكير في مفاهيم مثل المهارات، والقيمة، وحتى معنى "العمل" نفسه.
وفقاً للتقارير الحديثة، يُفضّل العديد من أصحاب العمل اليوم توظيف الخوارزميات والروبوتات بدلاً من الموظفين المبتدئين. من الناحية الاقتصادية، يبدو الأمر منطقياً؛ فالذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى إجازة مرضية، كما لا يطالب برفع الأجور، ولا يرتكب أخطاءً ناتجة عن الإرهاق، وليس هذا فحسب، فحتى تعريف مبتدئ قد اختلف حقاً، فقد وجد تقرير أن 35% من الوظائف المُعنونة بوصف "مستوى مبتدئ" (Entry-Level) تتطلب فعلياً ثلاث سنوات من الخبرة على الأقل. ولكن، هل يعني هذا أننا على وشك فقدان وظائفنا لصالح الآلات؟ ليس بالضرورة!
لعل التصور القائل بأن سوق العمل هو ساحة تُستَبدل فيها الوظائف بآلات أكثر كفاءة هو تبسيط مخلّ.
في الواقع، لا يخفى على أحدٍ أن سوق العمل منظومة متجددة تُعيد تشكيل نفسها باستمرار. مع كل ابتكار جديد، تظهر وظائف لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة، كما اختفت وظائف كانت تبدو أساسية! وبينما يتكامل البشر والذكاء الاصطناعي في هذه المنظومة، لا تزال معالم هذا التكامل غير واضحة بالكامل، لكنها تفتح الباب أمام فرص لم يكن بالإمكان تصورها سابقاً، ولكن فقط إذا أهّلنا الأفراد لتلك الفرص الجديدة.
اقرأ أيضاً: تكنولوجيا مراقبة الموظفين: وسيلة لتعزيز الإنتاجية أمْ تهديد للخصوصية؟
أعتقد بشدة أن أحد التحديات الكبرى التي نشهدها اليوم هو الفجوة بين الجامعات وسوق العمل، إذ لم يعد التعلُّم الأكاديمي يدور فقط حول القاعات الدراسية، بل بات مرتبطاً أكثر بالصناعة وسوق العمل الحقيقي، وستكون المؤسسات الأكاديمية التي تدرك أنها جزء من منظومة الذكاء الاصطناعي، لا مجرد مراكز لإنتاج الشهادات، بل أكثر قدرة على تجهيز طلابها لعالم سريع التغير.
ما نحتاج إليه حقاً هو نماذج تعليمية تركّز على المهارات العملية والتفكير النقدي، بدلاً من الاقتصار على المعرفة النظرية، فالطالب الذي يتخرَّج دون أن يكون مستعداً للتعامل مع الأدوات التي تفرضها سوق العمل الحديث، هو خريج يحمل شهادة لا أكثر. ليس الهدف فقط توفير المعلومات، بل بناء تجربة تعليمية متكاملة تجمع بين التعليم والتفاعل مع السوق والتواصل الاجتماعي.
وبصراحة، رغم التقدم كلّه الذي يحرزه الذكاء الاصطناعي التوليدي في محاكاة التفكير البشري، فإنه لا يزال يفتقر إلى شيء جوهري وهو القيم الإنسانية. نعم، يمكن للذكاء الاصطناعي اتخاذ قرارات أسرع، وتحليل بيانات أكثر، لكنه لا يمتلك القدرة على التعاطف، ولا يستطيع استيعاب التعقيدات الأخلاقية التي تتخلَّل قراراتنا اليومية، نحن لا نتخذ القرار الأربح والأمثل رياضياً فقط في الحياة.
وهنا، يأتي دور الجامعات ليس فقط كمراكز لإكساب المعرفة، بل كحصونٍ لحماية القيم الإنسانية. إذا كان الذكاء الاصطناعي سيصبح جزءاً من نسيج حياتنا اليومية؛ فعلينا أن نضمن أن المستخدمين البشريين لهذه التكنولوجيا يمتلكون الإحساس الأخلاقي والمسؤولية الاجتماعية التي تعجز الخوارزميات عن امتلاكها.
اقرأ أيضاً: كيف يُمكن للبحث باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي أن يُفسد عملية البحث؟
إذاً، ما هو التحدي الحقيقي؟
بصراحة، ليس في استبدال البشر، بل في كيفية تدريب القوى العاملة على استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي بفاعلية من خلال هندسة الأوامر، فمن يتقن هذه الأدوات سيحظى بميزة تنافسية هائلة، بينما سيجد مَن يرفضها نفسَه متخلفاً عن الركب، لأن المستقبل لا يتمثَّل في صراعٍ بين البشر والروبوتات، بل في شراكةٍ بينهما، إذ سيكون على البشر تعلم كيفية استغلال هذه التكنولوجيا لتعزيز إنتاجيتهم بدلاً من مقاومتها.
لكن يتطلب تحقيق هذا التوازن إصلاحات جوهرية مثل: تطوير المناهج التعليمية، وسن سياسات تنظيمية مرنة، وتشجيع نماذج أعمال تدمج بين الذكاء البشري والقدرات الاصطناعية. في الواقع، لسنا أمام خيار بين التكيُّف أو المقاومة، بل أمام واقع لا مفر منه.
لن يسرق الذكاء الاصطناعي وظائفنا، لكنه بالطبع سيجبرنا على إعادة تعريف ما يعنيه "أن تكون موظفاً"، وأن التكيُّف مع هذا الواقع الجديد ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان مستقبل أكثر ازدهاراً في ظل الثورة الرقمية.