الذكاء الاصطناعي ليس مجرد صيحة تسويقية، بل هو تطور تكنولوجي استغرق عقوداً من الزمن. كان طرح مصطلح الذكاء الاصطناعي أول مرة عام 1956، ومنذ ذلك الحين، مرَّ الذكاء الاصطناعي بمراحل عديدة من التحولات الجذرية، بدءاً من تطوير الأنظمة الخبيرة في الثمانينيات والتسعينيات، وصولاً إلى الإنجازات غير المسبوقة في تقنيات التعلم الآلي خلال الفترة الممتدة من 2012 إلى 2015، لا سيما في مجال التعرف إلى الصور ومعالجة اللغة الطبيعية. كان إطلاق "تشات جي بي تي" (ChatGPT) في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2022، متبوعاً بنموذج "جي بي تي 4" (GPT-4) في مارس/آذار من عام 2023، بمثابة بزوغ فجر حقبة جديدة من قدرات الذكاء الاصطناعي عبر ظهور نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي المتطورة، وهي حقبة تَعِدنا بتحولات جذرية تضاهي التحولات التي نجمت عن ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية أو الإنترنت.
يمثّل هذا التطور الأخير، خصوصاً في الذكاء الاصطناعي التوليدي، تحولاً نوعياً في كيفية عمل الشركات، لا سيما في مجال التسويق. وعلى عكس أنظمة الذكاء الاصطناعي التقليدية التي تركّز على التحليل والتنبؤ، يستطيع الذكاء الاصطناعي التوليدي أن ينشئ المحتوى ويعدّله ويحسّنه على نطاقٍ واسع، ما يفتح أفقاً جديداً في مجالَي التسويق الشخصي ومشاركة العملاء. يتسم هذا التحول بأهمية خاصة بالنسبة إلى مختصي التسويق، الذين يمكن أن يستفيدوا من 6 مزايا رئيسية من الذكاء الاصطناعي التوليدي كالتالي: تعزيز الكفاءة من خلال إنشاء المحتوى آلياً، والتسويق الشخصي على نطاقٍ واسع، وحلول دعم العملاء التي يولّدها الذكاء الاصطناعي، والتحليل التنبؤي بنتائجه الإبداعية، والميزة التنافسية التي تولّدها استراتيجيات المحتوى المبتكرة، وتحسين الإيرادات من خلال تحسين الحملات بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي.
اقرأ أيضاً: كيف يُحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في التسويق عبر المؤثرين؟
التحول من الذكاء الاصطناعي التقليدي إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي في التسويق
تشير الأبحاث الحديثة التي أجرتها شركة غارتنر (Gartner) إلى أن 32% من أقسام التسويق طبّقت حلول الذكاء الاصطناعي التقليدي. وعلى الرغم من هذا، فإن تبنّي الذكاء الاصطناعي التوليدي يتسارع بوتيرة غير مسبوقة، حيث تبذل نسبة 43% من المؤسسات جهوداً حثيثة لاختبار أدوات مثل "تشات جي بي تي"، و"دال-إي" (DALL-E) وغيرها من النماذج التوليدية. يمثّل هذا التبني المتسارع تحولاً جذرياً في كيفية تعامل المؤسسات مع إنشاء المحتوى ومشاركة العملاء وصناعة القرارات المستندة إلى البيانات.
لنتأمل أسلوب شركة نتفليكس (Netflix) المتطور في تطبيق التعلم الآلي في مجال تخصيص المحتوى. فوفقاً للمدونة الهندسية التابعة لشركة البث الرقمي العملاقة، فقد انتقلت الشركة من استخدام خوارزميات التوصية البسيطة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنشاء إصدارات متعددة من الأعمال الفنية والتوصيفات المتعلقة بالمحتوى، فنجمت نسبة 80% من مشاركة المشاهدين عن التوصيات المخصصة. يُظهر هذا المستوى من التخصيص التوليدي قدرة التكنولوجيا على التأثير في سلوك المستهلك مباشرة عند تطبيقها على نحو استراتيجي.
قاعدة الأساس: البيانات النظيفة والمنصات الموحدة
على أي حال، يعتمد نجاح تطبيق الذكاء الاصطناعي في التسويق إلى حدٍّ كبير على جودة بياناته الأساسية وتنظيمها. يكشف تقرير حالة التسويق (State of Marketing) من شركة سيلز فورس (ٍSalesforce) أن نسبة 80% من الشركات تعتبر حالياً أن الاستثمار في منصات بيانات العملاء (Customer Data Platforms) بالغ الأهمية لتخصيص المحتوى في الزمن الحقيقي. يُسلّط هذا التركيز على البنية التحتية للبيانات الضوء على حقيقة بالغة الأهمية: فاعلية الذكاء الاصطناعي تتعلق بجودة البيانات التي يُعالجها.
وفقاً لدراسة حالة أجرتها مجلة هارفارد بزنس ريفيو (Harvard Business Review)، فإن استخدام شركة سيفورا (Sephora) توصيات المنتجات القائمة على الذكاء الاصطناعي يوضّح هذا المبدأ بفاعلية. إن نجاح هذه الشركة المختصة بتجارة تجزئة مستحضرات التجميل في عملية التخصيص، يعود إلى وجود بنية تحتية متينة للبيانات توحّد تفاعلات العملاء عبر نقاط التواصل الرقمية والشخصية، ما يُتيح تقديم تجارب مخصصة باستمرار مع الحفاظ على دقة البيانات وأهميتها للعمل.
ما بعد الأتمتة: التطبيق الاستراتيجي
بدأت المؤسسات تكتشف أن نجاح تطبيق الذكاء الاصطناعي في التسويق يتطلب أكثر من مجرد استخدام التكنولوجيا. يوضّح نهج شركة يونيليفر (Unilever) لتحليل المشاعر المدعوم بالذكاء الاصطناعي، الذي وثّقته مجلة فوربس (Forbes)، هذه الاستراتيجية الشاملة. لا تستخدم الشركة الذكاء الاصطناعي في مراقبة انطباع الجمهور عن العلامة التجارية وحسب، بل تستخدمه أيضاً في إطار نظام أكبر يتضمن التحليل البشري، والتخطيط الاستراتيجي للاستجابة، والإدارة الاستباقية للعلامة التجارية.
يُسلّط تقرير التميز في التسويق الرقمي (Digital Marketing Excellence report) من شركة ماكنزي آند كومباني الضوء على استخدام المؤسسات الذكاء الاصطناعي من أجل تحسين إعداد خريطة رحلة العميل. كانت برامج تصميم رحلة العميل التقليدية تتطلب إعدادات يدوية مكثّفة وتحديد الخيارات التي تصمم الخطة الأمثل. أمّا حالياً، فبإمكان الأنظمة الحديثة المعززة بالذكاء الاصطناعي أن تولّد خططاً محسّنة لرحلة العميل تعتمد على البيانات على نحو شبه فوري، وتتكيف باستمرار مع أنماط سلوكيات العملاء في الزمن الحقيقي.
اقرأ أيضاً: ما هي هواتف الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ وما الذي يُميّزها؟
تحدي المشاركة الحقيقية
على الرغم من هذه التطورات، تواجه المؤسسات تحديات كبيرة في الحفاظ على علاقات حقيقية مع العملاء. ويُظهر تقرير الرؤية التكنولوجية (Technology Vision Report) من شركة أكسنتشر (Accenture) أن 63% من المستهلكين يشعرون بأن التفاعلات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي تفتقر إلى اللمسة البشرية، على حين تفيد تقارير سلسلة تحليلات المستهلكين (Consumer Intelligence Series) من شركة برايس ووترهاوس كوبرز، "بي دبليو سي" (PwC)، بأن 82% من العملاء يعربون عن مخاوفهم بشأن خصوصية البيانات في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
ويقدّم تنفيذ تطبيق الهواتف المحمولة لشركة نايكي (Nike)، الذي حللته مجلة إم آي تي سلون مانجمنت ريفيو (MIT Sloan Management Review)، دروساً قيّمة في هذا الصدد. فقد نجحت توصيات المنتجات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في الشركة لأنها مدمجة ضمن منظومة أوسع نطاقاً تشمل المحتوى الذي يصممه البشر، وميزات تتعلق بمجتمع المستخدمين، إضافة إلى عناصر التدريب الشخصي.
واقع التكلفة والتطبيق
تظل التداعيات المالية لتطبيق الذكاء الاصطناعي عاملاً مهماً يجب أخذه بعين الاعتبار، حيث وجد استطلاع حول حالة الذكاء الاصطناعي في المؤسسات (State of AI in the Enterprise) من شركة ديلويت (Deloitte) أن 56% من الشركات تشير إلى التكلفة بصفتها عائقاً رئيسياً يقف في وجه تبنّي الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، بدأت المؤسسات تكتشف أساليب مبتكرة لإدارة هذه الاستثمارات.
ويتجسد هذا النهج المدروس في استراتيجية الإعلان الرقمي لشركة أمازون، التي تحدثت عنها صحيفة وول ستريت جورنال (Wall Street Journal) بالتفصيل. فقد تطور نظام الإعلانات الموجّهة الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في الشركة عبر عدة إصدارات، حيث كان بناء كل مرحلة يستند إلى مقاييس نجاح معتمَدة قبل التوسع إلى تطبيقات أكثر تعقيداً.
نظرة إلى المستقبل: الاعتبارات الاستراتيجية لحقبة الذكاء الاصطناعي التوليدي
تواصل المؤسسات دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في عمليات التسويق، حيث يفيد مؤشر تبنّي الذكاء الاصطناعي (AI Adoption Index) من شركة آي بي إم (IBM) بأن 73% من الشركات تشهد تحسينات كبيرة في العوائد على الاستثمار المتعلقة بالتسويق من خلال تطبيق الذكاء الاصطناعي. لكن نجاح التسويق في حقبة الذكاء الاصطناعي التوليدي يتطلب تحولاً جذرياً في طرق تعامل المؤسسات مع البيانات والتكنولوجيا وتطوير المواهب.
أصبحت البيانات بمثابة ركيزة أساسية للتسويق الفعّال في حقبة الذكاء الاصطناعي التوليدي. ووفقاً لأحدث إصدار من تقرير ماكنزي للتميز في التسويق الرقمي، فإن المؤسسات التي تعطي الأولوية لتنظيف البيانات وتكاملها تزداد احتمالات تحقيقها عائدات كبيرة من استثماراتها في الذكاء الاصطناعي التوليدي ثلاثة أضعاف مقارنة بغيرها. ومن أفضل الأمثلة على هذا الأسلوب شركة سبوتيفاي (Spotify)، التي تستخدم بنيتها التحتية المتينة للبيانات لتشغيل ميزتها المعروفة باسم "ديسكفر ويكلي" (الاستكشاف الأسبوعي) (Discover Weekly) التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والتي تنشئ قوائم تشغيل مخصصة جداً لأكثر من 345 مليون مستخدم حول العالم.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي التوليدي يصل إلى مرحلة جديدة: من التجارب الفردية إلى التطبيق المؤسسي
تمتد آفاق الذكاء الاصطناعي التوليدي في التسويق إلى نطاقات أبعد بكثير من التطبيقات الحالية التي تعتمد على النصوص. ويتوقع تقرير مستقبل التسويق (Future of Marketing Report) من شركة فورستر (Forrester) حدوث تغيير جذري في طرق إنشاء المحتوى وتخصيصه بحلول عام 2025، حيث ستتضمن نسبة 60% من محتوى العلامات التجارية عناصر مرئية مولَّدة أو مُعدَّلة باستخدام الذكاء الاصطناعي، وستستخدم نسبة 40% من حملات التسويق محتوى الفيديو المولَّد باستخدام الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى أن نسبة 30% من تفاعلات العملاء ستتضمن تجارب صوتية مخصصة.
وقد أورد تحليل لهارفارد بزنس ريفيو أن "الذكاء الاصطناعي لن يحل محل مختصي التسويق، بل سيحل مختصو التسويق الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي محل مختصي التسويق الذين لا يستخدمونه". يتطلب هذا الواقع الجديد الالتزام بالتعلم والتبنّي المتواصلين لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، ويجب على مزاولي مهنة التسويق أن يطوّروا مهاراتهم باستمرار، وألّا يكتفوا بفهم طرق استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بل أيضاً طرق دمجها استراتيجياً في استراتيجيات التسويق الشاملة. ويتضمن هذا تطوير الخبرات في تحليل البيانات، وهندسة الأوامر النصية للذكاء الاصطناعي، إضافة إلى القدرة الضرورية على الموازنة بين الأتمتة والإبداع البشري.
يتطلب النجاح في هذه الحقبة الجديدة من المؤسسات تنفيذ استثمارات استراتيجية في التكنولوجيا والمواهب على حد سواء. يتعين على قادة التسويق التركيز على إنشاء بنية تحتية متينة للبيانات وعلى تطوير قدرات فرقهم للعمل بفاعلية جنباً إلى جنب مع أدوات الذكاء الاصطناعي. إن المؤسسات التي تستطيع تحقيق هذا التوازن بين الحفاظ على الإبداع والإشراف الاستراتيجي البشريين والاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي في الوقت نفسه، ستحظى بأعلى فرص النجاح في مشهد التسويق العالمي دائم التطور.