لطالما اشتهر الخليج العربي باثنين من الأمور: النفط، والبذخ في الإنفاق على المبادرات الكبيرة بفضل المكاسب الاستثنائية للنفط. ولكن، وفي هذا العصر الذي توجه فيه البشرية جهودها نحو تحقيق مسار أكثر توازناً واستدامة للتنمية، وتواجه فيه أنظمة الإنتاج تحولات سريعة مدفوعة بالتكنولوجيا، يبدو أن بلدان الخليج بدأت تضطلع بدور الريادة.
في السنوات الأخيرة، أطلقت جميع البلدان الخليجية خططاً طويلة الأمد لتحويل نماذجها الاقتصادية لاغتنام الفرص التي ظهرت بفضل الثورة الصناعية الرابعة، وذلك عن طريق الاستفادة من التقنيات الناشئة المختلفة وإجراء التجارب عليها واستغلالها. وعلى الرغم من أنه تم تطبيق هذه التقنيات بنجاح في العديد من المجالات، إلا أن أفضل التطبيقات الواعدة في دول الخليج يبدو أنه يكمن حالياً في المجال المالي. وقد تميزت الإمارات العربية المتحدة بنجاح ملفت في تطبيق التكنولوجيا المالية، أو ما بات يسمى اختصاراً "فينتك Fintech". يحمل هذا النجاح دروساً قيمة للمنطقة بأسرها، ويلقي الضوء على أهمية اثنين من الجوانب؛ وضع الاستراتيجية الذكية والتطبيق الفعال.
التكنولوجيا المالية: لماذا، وماذا، وكيف؟
عندما قررت الإمارات العربية المتحدة أن تُنوع مصادر دخلها بدلاً من الاعتماد على النفط فقط، أسست لرؤية واضحة واستراتيجية موافقة لها على مستوى البلاد للبحث عن عدة مُحفزات للنمو والتركيز بشكل كبير على بناء وتمكين البنى التحتية الرقمية. تقدم هذه الرؤية أيضاً إطاراً واسع النطاق للسياسات يحمل صفتين مميزتين تجعلانها تبرز من بين الرؤى المماثلة في البلدان المجاورة.
أدوات التنفيذ: تم تصميم رؤية 2021 مع التركيز على التطبيق، وذلك عبر إطار من الاستراتيجيات المتناسقة والمتوافقة، بحيث تضمن أن كل قرار مُتّخَذ يتبع خطة واضحة، ويتوافق بشكل واضح مع المُخرَجات النهائية للرؤية.
الابتكار المنضبط: على الرغم من أن التكنولوجيا المالية تعتبر مفهوماً واسعاً يمتد من التأمين وصولاً إلى الإلمام بالشؤون المالية، ومن إدارة الثروات وصولاً إلى عمليات الدفع، فقد اتخذت الإمارات العربية المتحدة مقاربة انتقائية تقتصر على دعم المبادرات المتوافقة مع أهداف رؤية 2021.
نتج عن الجمع بين أدوات التنفيذ والابتكار المنضبط استراتيجيةٌ عامة متساوقة تتصف بأهداف سنوية محددة وقابلة للقياس، وذلك للحرص على إحراز تقدم مستمر نحو الهدف النهائي، وهناك على الأقل اثنتان من القصص الناجحة المثيرة للاهتمام التي تعبر عن هذا الأمر جيداً.
قصة النجاح الأولى: البلوك تشين
تعتبر صياغة استراتيجية 2021 للبلوك تشين من الأمثلة الجيدة على أدوات التنفيذ للإمارات العربية المتحدة، فقد سعت من ورائها لأن تصبح أول حكومة تعتمد على البلوك تشين في العالم. وقد تم تطبيقها مباشرة في بعض القطاعات الحكومية المحددة، مع مؤشرات أداء محددة. ومن المبادرات النوعية: التخطيط الحضري، العملة الرقمية، رقمنة السجلات الحكومية من خلال البلوك تشين، وإجراء المعاملات. ولدفع الاستراتيجية قدماً نحو الأمام، تم تأسيس مجلس للبلوك تشين بمشاركة خبراء إقليميين وعالميين في الموضوع مع طيف واسع من التخصصات المختلفة. وقد نتج عن هذه المقاربة عدة خطط عملية مع توقعات واقعية، ما يتيح إضفاء تحسينات متواصلة على تطبيق البلوك تشين في قطاعات حكومية مختلفة.
يعتبر دبي باي من بين قصص النجاح الأولى. فقد قام هذا التطبيق بمعالجة 35 مليون دولار من المدفوعات في 2017 الذي كان أول عام له في الخدمة. وتهدف الحكومة الآن إلى تنفيذ أكثر من 50% من تعاملاته على برمجيات البلوك تشين. وهناك أمثلة مشابهة تزدهر حالياً في عدد من الإدارات الحكومية المختلفة والمؤسسات الخاصة الشريكة. فقد قررت هيئة كهرباء ومياه دبي (ديوا) وهيئة المعرفة والتنمية البشرية الاعتماد على دبي باي، وبدأتا حالياً بالانتقال إلى استخدام سجل لامركزي للحسابات لمعالجة تعاملاتهما، وقامتا بمعالجة أكثر من خمسة ملايين من التعاملات في الأشهر الستة الأولى من بدء التطبيق. كما أن هيئة الطرق والمواصلات بدأت تختبر نظاماً مخصصاً لإدارة المركبات. ويعمل بنك الإمارات دبي الوطني على تجربة برنامج لكشف عمليات الاحتيال، وهناك العديد من حالات الاستخدام الأخرى أيضاً على شكل مشاريع يتم تطويرها في كافة أنحاء البلاد.
تُبين هذه الأمثلة بدورها ما يمكن للابتكار أن يحققه في ظل الانضباط الذي يفرضه وجود رؤية واضحة إلى جانب إطار تنفيذي صارم ودقيق للغاية.
قصة النجاح الثانية: تسريع التكنولوجيا المالية
من الإسقاطات العملية لمقاربة الإمارات العربية المتحدة هي تطوير نظام لتسريع التكنولوجيا المالية. فقد أسست الحكومة برنامجي تسريع يركزان على التكنولوجيا المالية، يخضع كل منهما لإشراف واحدة من الهيئتين الماليتين الرئيسيتين في البلاد: سوق أبوظبي العالمية ومركز دبي المالي العالمي. قررت الهيئتان اعتماد مقاربة براغماتية لتقرير الطابع التكنولوجي المالي لهذه المسرعات. فقد كان من الواجب أن تتوافق مع أهداف الحكومة في دعم النمو في قطاعات أخرى. ولهذا، استدعت كل من الهيئتين المؤسسات المالية الواقعة تحت سلطتها وطلبت منها تحديد المشاكل الأساسية التي تعاني منها، ومن ثم قامتا بدعوة عدد من الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية التي تعالج هذه المشاكل بالضبط.
أدت هذه المقاربة البراغماتية إلى تحفيز عمل برامج التسريع. ويمكن لشركات التكنولوجيا المالية الناشئة أن تختبر النماذج الأولية لحلولها بشكل فوري، وذلك بفضل إمكانية الوصول المباشر إلى المؤسسات المالية الرئيسية في البلاد، ورعاية الهيئات المالية الرئيسية. إضافة إلى هذا، ونظراً لتركيز المُسرّعات على المشاكل الحالية القائمة، يمكن للشركات الناشئة – ما إن تتخرج من برنامج التسريع – أن تقدم خدماتها لتلبية الاحتياجات الحالية لسوق ما، شريطة أن تكون محددة بشكل واضح.
توجد العديد من قصص النجاح التي تُبرز هذا الموضوع. وعلى سبيل المثال، فقد تخرجت سروة، الشركة الناشئة الاستشارية في مجال الروبوتات، من برنامج التسريع بنجاح، وتمكنت بسرعة من تأمين ما يزيد على مليون دولار من التمويل حتى تتوسع في المنطقة. ومن الحالات الأخرى المثيرة للاهتمام هناك شركة نوربلوك، التي تطبق قاعدة "اعرف عميلك" باستخدام البلوك تشين. وبعد أن تخرجت من برنامج التسريع، تمكنت من الوصول إلى الكثير من البنوك الإقليمية والأوروبية الكبرى.
شباب ونمو
بالنظر إلى أن الإمارات العربية المتحدة دولة يافعة، فإن بناها التحتية القانونية والمالية أقل رسوخاً من غيرها بشكل نسبي. وعلى الرغم من أن هذا قد يمثل عائقاً بالنسبة لشركات التكنولوجيا المالية الناشئة، فإن الطموح والسياسات الحكومية الداعمة أثبتا قدرة على تخطي هذه المصاعب. إضافة إلى هذا، فإن قلة البنى التحتية الراسخة يسمح للحكومة بإدخال التغييرات وتنفيذها بسهولة أكبر. وبالتالي، تقول توقعاتنا بأن الإمارات العربية المتحدة لن تظهر كدولة رائدة في تنمية وتطبيق التكنولوجيات الجديدة التي تقود الثورة الصناعية الرابعة وحسب، بل ستظهر أيضاً كدولة تلعب دوراً ابتكارياً في تأطير السياسات بالشكل الذي يجعل ابتكار هذه الحلول التكنولوجية أمراً ممكناً، ويجعل تطبيقها ناجحاً.
كونستانتينوس تسانيس: حائز على درجة الدكتوراه، والرئيس التنفيذي للتحول الرقمي في بنك ويما، ثاني أكبر بنك في نيجيريا، ومُحاضر في مجال الابتكار ووضع الاستراتيجيات في جامعة HULT العالمية للأعمال. ويعمل في الإمارات العربية المتحدة ونيجيريا.
أليساندرو لانتيري: بروفيسور في مجال ريادة الأعمال في جامعة HULT العالمية للأعمال في لندن ودبي، وبروفيسور مساعد في جامعة أبوظبي. وتركز أبحاثه على الابتكار والأخلاقيات والقيادة. وسيصدر كتابه المقبل "المحركات الاستراتيجية للحقبة الرقمية Strategic Drivers for the Digital Era" عام 2019.