أطلق هاتف مارينا، والتي تعمل سائقة لدى منصة التوصيل "غوجيك" (Gojek)، صوت تنبيه قوي يخبرها باختيارها لتوصيل طلبية طعام. (مارينا اسم مستعار) وخلال المهلة المتاحة لقبول أو رفض الطلب، والبالغة 12 ثانية، قامت بإجراء بعض الحسابات السريعة في رأسها. فالطلبية موجودة في غراند إندونيسيا، وهو مجمع تجاري هائل في جاكرتا، ويُشتهر بقاعدة عملائه المميزة وتصميمه المعقد. وعلى الرغم من أن مطاعمه تعتمد على خدمات التوصيل بالدراجات النارية للحفاظ على عملها، فإن غراند إندونيسيا غير مزود بمساحات وقوف مناسبة لسائقي تاكسي الدراجات النارية.
خوارزميات معقدة ولكن المعرفة المحلية هي الأهم
ومن حسن حظ مارينا أنها تعرف بعض مجموعات تاكسي الدراجات النارية المحلية في المنطقة، والتي يمكن أن تضع دراجتها النارية عندها ريثما تأخذ الطلب. ولكن المسار إلى العميل سيفرض عليها المرور قرب موناس، وهو نصب تذكاري وطني في وسط جاكرتا. وقد تسببت مظاهرة سياسية بإغلاق الكثير من الشوارع في المنطقة، وذلك وفقاً للأخبار المنتشرة عبر مجموعات واتساب الخاصة بالسائقين.
وعلى الرغم من هذا، فقد قررت قبول الطلب. وعلى المسار، قامت بمشاركة موقعها المباشر ومعلومات وجهتها مع مجموعة السائقين الخاصة بها على واتساب، وهو إجراء شائع بين سائقي تاكسي الدراجات النارية الذين يعملون باستخدام الإنترنت في جاكرتا. وتشكل المئات من مجموعات واتساب فائقة التنظيم الأساس الذي تعتمد عليه أوساط سائقي المنصات في جاكرتا، حيث تحولت إلى مساحة يلجأ إليها السائقون للحصول على النصائح حول استراتيجيات العمل، وطلب المساعدة في الحوادث، وكما في حالة مارينا، الحصول على معلومات حول المناطق والأحياء التي سيجتازونها أثناء توصيل الطلبات.
وهناك، تم إعلامها بأن نقطة التوصيل تقع قرب ما يسمى زونا ميرا، وهي منطقة حمراء لا يستطيع سائقو المنصات الدخول إليها، وذلك مراعاة لاتفاقات قائمة منذ فترة طويلة بين سائقي تاكسي الدراجات النارية العاديين وزملائهم "الرقميين". وهكذا، أرسلت رسالة إلى العميل على التطبيق تطلب منه استلام طلبيته على مسافة 500 قدم من زونا ميرا. ووافق الزبون على مضض، ولكن مارينا شعرت بالقلق من أن هذا الطلب قد يدفع بالزبون إلى تخفيض تقييمها.
إن هذا العدد الهائل من القرارات التي اضطرت مارينا لاتخاذها يعبر عن محدودية الرؤية الخوارزمية للمساحات الحضرية، والتي تعكس تضاريس جغرافية مسطحة ومثالية وخالية من الاحتكاك، وتقتصر العوامل المؤثرة فيها على العرض والطلب فقط. ففي هذا العالم المفترض، يبدو العرض متحركاً بسلاسة عبر خريطة الشوارع متجهاً نحو الطلب.
اقرأ أيضاً: تجربة أسترالية لتحسين قطاع النقل باستخدام الذكاء الاصطناعي
حلول رقمية لا تأخذ البيئة الحضرية بالحسبان
غير أن السائقين في جاكرتا يعرفون ما يحدث بالفعل. فعلى مدى زياراتي الميدانية إلى جاكرتا بين 2019 و2020، شاركتني مارينا، وغيرها من سائقي غراب وغوجيك، معلومات عميقة حول المساحات الحضرية. فهي مليئة بالعلاقات الاجتماعية وعوائق البنية التحتية. وحتى يستطيع السائقون القيام بعملهم، يجب أن يفكروا كل يوم بالمسارات التي تتضمن أكبر عدد من الحفر، وإشارات المرور التي تبقى حمراء لفترة أطول من غيرها.
وتتضمن خريطتهم العقلية للمدينة الأماكن المحمية بحراسة عدوانية، حيث يمكن أن يتعرضوا لمواجهة مع سائقي الدراجات النارية التقليديين العنيفين، والاتفاقيات الخاصة التي يجب أن يلتزموا بها، والمطاعم المنتشرة على الطريق، والتي تسمح إدارتها الودودة لهم بالاستراحة. كما يجب أن يتعاملوا مع مشاكل أخطاء المواقع الجغرافية الناجمة عن حجب إشارات نظام تحديد المواقع العالمي بسبب البنى التحتية القريبة.
لقد كُتِب الكثير عن التكنولوجيا السلسة لمنصات الطلب الإلكتروني للنقل، والتي يحتفي بها العملاء ومختصو التكنولوجيا على حد سواء. وقد تحولت شركات ناشئة مثل غوجيك وغراب إلى شركات ديكاكورن (أي شركات بقيمة 10 مليار دولار على الأقل) على أساس تقديمها، أخيراً، لحلول تكنولوجية بسيطة لأسواق التوصيل العشوائية في الدول النامية. غير أن سلاستها تعتمد على القرارات البشرية التي يتخذها السائقون في الشوارع. وفي الواقع، فإن الأسواق المحلية التي تدعي الشركات أنها حلت محلها هي التي زودت السائقين بالمعلومات المهمة حول القيود الفيزيائية والاجتماعية المحلية.
اقرأ أيضاً: لماذا تتمسك صناعة النقل الجوي بأجهزة محاكاة الطيران القديمة؟
استراتيجيات منحدرة من وادي السيليكون
ففي جاكرتا، تعتمد سلاسة عمل أسواق تاكسي الدراجات النارية، سواء الرقمية أو غير الرقمية، على خصوصية تحولات شبكات الشوارع، وظروف حركة السير، والتوزع المكاني لتجمعات سائقي تاكسي الدراجات النارية في الشوارع. وتقع على عاتق السائقين مهمة الجمع بين رؤيتين للمساحة الحضرية: الرؤية المجردة، والرؤية الواقعية. غير أن الاحتفاء الذي تقابَل به البنية الرقمية لهذه الشركات يطمس دور السائقين كلياً، على الرغم من أن السلاسة الظاهرية للتكنولوجيا تعود إلى معرفتهم وبراعتهم. وعلى الرغم من زيادة تعقيد الخوارزميات، فإن محاكاة هذه المعرفة المحلية فائقة الدقة أمر صعب للغاية. وسيكون هناك على الدوام عوامل مجهولة بالنسبة لخوارزميات الأمثلة، وعوائق تظهر في الزمن الحقيقي بشكل تعجز الشركات التكنولوجية عن إدراكه، مهما بلغت من التنظيم.
إن هذا التطبيق للحلول الرقمية التي تعتمد على خوارزميات خارج السياق الطبيعي أمر ضار على وجه الخصوص عندما نفترض أن وجهة النظر المجردة هي وجهة نظر متينة الأساس، ويكفي أن تعتمد على أسلوب عمل مكان محدد: وادي السيليكون. فحتى الشركات الناشئة المحلية في الأسواق الجديدة ورثت على ما يبدو إيمان وادي السيليكون بما يسمى "الحلول التكنولوجية" المستقلة عن السياق. ويمكن أن تتحول التحيزات الغربية إلى افتراضات مسبقة حول التنقل في أماكن مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن تطبيق خرائط جوجل لم يكن يميز، حتى فترة قريبة، بين الشوارع المسدودة للتجمعات السكانية العشوائية، والطرقات الرئيسية العريضة. (وقد تعرفت على هذا الخطأ التصميمي بالتحديد عندما انتهى بي المطاف عالقاً بسيارة أحدهم في الطرقات الضيقة لتجمع سكاني عشوائي). ويجب إيجاد حلول لهذه الثغرات في نهاية المطاف من قبل العاملين على الأرض، والتي أصبحت معيشتهم فجأة معتمدة على رؤية خوارزمية ناقصة كهذه.
وبالتالي، فإن المنصات الرقمية لم تقم بإزالة صعوبات العمل، بل ألقت بها على عاتق جهة أخرى.
مجلة "فيوتشر تنس" هي شراكة بين مجلة "سليت" (Slate) ومركز التفكير "نيو أميركا" (New America) وجامعة أريزونا ستيت، وهي تتمعن في القضايا المتعلقة بالتكنولوجيات الناشئة والسياسات العامة والمجتمع.