لطالما كان الدماغ البشري موضع اهتمام كبير، وغالباً ما يشار بذهول إلى قدرته الفريدة على القيام بمهام متعددة بكفاءة عالية أثناء عمله بطاقة متدنية -بمتوسط 20 واط تقريباً، أي نحو نصف الطاقة التي يحتاجها الحاسوب المحمول و0.00007٪ من طاقة الحاسوب العملاق "فوكاغو"(Fugaku). بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الحواسيب العملاقة إلى أنظمة تبريد متقنة، بينما يعمل الدماغ البشري بكفاءة عند الدرجة 37 درجة مئوية.
نشهد في وقتنا الحالي اهتماماً متزايداً بالتكنولوجيا أو الحوسبة العصبية، ويعود السبب في ذلك إلى أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تمثل حالياً 20٪ إلى 35٪ من استهلاك الطاقة العالمي، علاوة على الزيادة الكبيرة في عدد الأجهزة المترابطة.
استخدامات الحوسبة العصبية
تشير الحوسبة العصبية إلى استخدام أنظمة تكامل واسعة النطاق للغاية تحتوي على دوائر تناظرية إلكترونية لمحاكاة البنى العصبية البيولوجية الموجودة في الجهاز العصبي. وتعمل بواسطة محاكاة فيزياء الدماغ البشري عبر إنشاء الشبكات العصبية الاصطناعية، حيث تنشط نتوءات الخلايا العصبية الإلكترونية الفردية الخلايا العصبية الأخرى عبر سلسلة متتالية. وهذا مشابه للطريقة التي يرسل ويستقبل بها الدماغ الإشارات من الخلايا العصبية البيولوجية التي تتعرف على الحركة والأحاسيس في أجسامنا.
وقد حققت الحوسبة العصبية، أو الشبكات العصبية الاصطناعية على وجه التحديد، شعبية كبيرة كبديل موفر للطاقة في تنفيذ مهام الذكاء الاصطناعي القياسية. وتقود النتوءات أو الأحداث الثنائية عملية التواصل والحساب في الشبكات العصبية الاصطناعية التي توفر ميزة تشغيل الأجهزة التي تعتمد على الأحداث، وهذا يجعلها مناسبة للتطبيقات الفورية حيث يعد استهلاك الطاقة وعرض النطاق الترددي للذاكرة من العوامل المهمة.
اقرأ أيضاً: هل تستطيع الحواسيب التحقق من صحة حل أي مسألة في زمن معقول؟
كيف تحاكي الشبكات العصبية عمل الدماغ؟
يجمع الدماغ البشري المعلومات من داخل الجسم ويرسل نبضات إلى الخلايا العصبية، بينما تواجه الحواسيب التقليدية تحدٍ كبير بسبب انفصال وحدة المعالجة المركزية والذاكرة. ولكن الحوسبة العصبية تمكنت من اجتياز هذه العقبة، حيث يتم الحساب بطريقة تناظرية، أي من خلال الذاكرة. وبالإضافة إلى التخلص من وقت الانتظار ومشكلة استنزاف الطاقة، توفر الحوسبة العصبية قدرات متطورة لإجراء العمليات الحسابية المعقدة.
ويقوم نموذج الشبكات العصبية الاصطناعية بمحاكاة الشبكات العصبية الطبيعية الموجودة في الأدمغة البيولوجية، ويحاكي عمليات التعلم الطبيعية عن طريق رسم خرائط ديناميكية لنقاط الاشتباك العصبي بين الخلايا العصبية الاصطناعية عند استجابتها للمنبهات. ويمكن للشبكات العصبية الاصطناعية أن تنقل المعلومات بالطريقة الزمنية والمكانية تماماً كما يفعل الدماغ، بينما تعتمد الحوسبة التقليدية على الترانزستورات التي إما تكون مفعلة أو غير مفعلة.
اقرأ أيضاً: هل دماغك هو بمثابة جهاز كمبيوتر؟
بحوث واعدة في هذا المجال
من خلال الحوسبة العصبية، نسعى إلى تمكين الحواسيب من التفكير بطريقة إبداعية ومرنة، والبدء في التعرف على الأشخاص أو الأشياء التي لم ترها من قبل، وإعادة ضبط أنشطتها بالشكل المناسب. ومن الواضح أننا ما زلنا بعيدين عن إيجاد مثل هذه الحواسيب الفائقة الأداء. وعلى الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي الحديث على معالجة العديد من التحديات بشكل أفضل من البشر، إلا أنه لا يزال غير قادر على تحليل السبب والنتيجة واستيعاب المتطلبات المتغيرة أو العناصر الجديدة للمشكلة بسرعة.
ومع ذلك، أُجريت بحوث واعدة في هذا المجال، ففي العام الماضي، على سبيل المثال، عرضت شركة إنتل روبوتاً عصبياً يمكنه رؤية الأشياء المجهولة والتعرف عليها بناءً على مثال واحد فقط، على عكس النماذج التقليدية التي تتطلب تعليمات وبيانات مكثفة. وبالمثل، أطلقت إنتل وجامعة كورنيل لأول مرة خوارزميات رياضية، مستخدمة في رقاقة "لويهي" (Loihi) النصية العصبية من إنتل، والتي تحاكي الطريقة التي "يشم" بها الدماغ شيئاً ما. وقد تمكنت رقاقة لويهي من تمييز ما يصل إلى 10 روائح مختلفة. كما نستطيع توظيف قدرات الذكاء الاصطناعي هذه في أمن المطارات، واكتشاف الدخان وأول أكسيد الكربون، وتعزيز مراقبة الجودة في المصانع. وقد عرضت "أكسينتشر لابز" (Accenture Labs) لاحقاً استخدام "القيادة الصوتية الآلية"، مستفيدة من تجربة مبنية على رقاقة لويهي في إضافة الأوامر الصوتية والإيماءات وقدرات الذكاء السياقي للمركبات دون استنزاف البطاريات.
اقرأ أيضاً: معهد الابتكار التكنولوجي: نحو ريادة عالمية في وقت قياسي
الحوسبة العصبية وتحديات الطاقة
وعلى الرغم من أن الحوسبة العصبية موجودة منذ الثمانينيات، إلا أنها اكتسبت في السنوات الأخيرة أهمية أكبر بسبب تطوير الطائرات المسيّرة التي تتطلب الكثير من الطاقة، وازدياد الابتكارات في مجال الروبوتات المستقلة، والاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي. ولسوء الحظ، تستند التطورات في هذه الأجهزة التي تحتوي تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى بنية فون نيومان المعروفة باستنزافها للطاقة والوقت بسبب حاجتها إلى نقل المعلومات بين الذاكرة والمعالجات.
وتتوقع شركة (غارتنر) أن تكنولوجيا الحوسبة التقليدية القائمة على بنية أشباه الموصلات القديمة لن تتمكن من مواكبة التطورات الرقمية الجديدة بحلول عام 2025، ما سيفرض الحاجة إلى التحول إلى نماذج جديدة، بما في ذلك الحوسبة العصبية. وتقول "إيميرجن ريسيرتش"(Emergen Research)، وهي شركة أبحاث واستشارات مشتركة تركز على الصناعات الناشئة القادمة، إن قيمة سوق المعالجات العصبية العالمية ستصل إلى 11.29 مليار دولار بحلول عام 2027.
وقد لا تتيح الرقاقات القديمة المستخدمة حالياً توظيف الذكاء الاصطناعي على أجهزة إنترنت الأشياء بكفاءة، ما يجعل الذكاء والاستدلال على الجهاز صعباً عندما يتعلق الأمر بصدّ الهجمات العدائية، وإمكانية التفسير، وكفاءة الطاقة، التي تعد جميعها ضرورية في تمكين المركبات المستقلة، على سبيل المثال لا الحصر.
وفي الوقت الحالي، تحتاج الحواسيب القياسية القائمة على بنية فون نيومان والتي تشغل مهام الذكاء الآلي إلى أكثر من 10 أضعاف قوة الدماغ البشري على الرغم من عدم قدرتها على حل المشكلات المعقدة بشكل كبير كالدماغ البشري، كما تتعرض إمكانية التفسير للضرر في مثل هذه السيناريوهات.
اقرأ أيضاً: استكشاف المشهد المعقد إستراتيجياً لتقنيات الشبكات منخفضة الطاقة واسعة النطاق
الحاجة إلى بنية عصبية متطورة
ولإكمال مهام الحساب والبيانات المكثفة، يتعين على الأجهزة المتطورة مثل الهواتف الذكية نقل البيانات إلى نظام مركزي قائم على السحابة، والذي يعالج البيانات ويعيد النتيجة إلى الجهاز، ما يعرض البيانات لمخاطر تتعلق بالأمن والخصوصية. ويمكن لهذه البنية أن تبطِل سبب وجود الأنظمة العصبية التي تهدف إلى استبعاد عملية نقل البيانات وتنفيذ المعالجة داخل الجهاز نفسه. وبينما نُسارع نحو تطوير خوارزميات وكفاءات عصبية ناشئة أكثر تقدماً، ستضطر البنية القديمة إلى إفساح المجال لبنية عصبية متطورة.
ومن المرجح أن تمكننا الأنظمة العصبية من تطوير تكنولوجيا ذكاء اصطناعي أكثر فعالية لأنها تتعامل بشكل أفضل مع الأنواع الأخرى من المشاكل المعقدة. وتعدّ السببية والتفكير غير الخطي خاصيتين متطورتين نسبياً في أنظمة الحوسبة العصبية التي ستحتاج الآن إلى مواكبة المتطلبات من أجل تطبيق الحلول المتطورة الموجودة بالفعل، ولا شك في أنها ستتحسن في المستقبل، لنشهد توسعاً كبيراً في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
تتطلب التقنية العصبية نقلة نوعية في عملية تطوير الأجهزة والبرامج، إذ أننا بحاجة إلى العمل مع الأجهزة العصبية التي تتوافق مع جيل جديد من تكنولوجيا الذاكرة والتخزين والاستشعار. ومع التركيز على دعم تطوير التكنولوجيا بما يناسب حاجات المستقبل وتقييم أداء البنى الجديدة لتعزيز قدراتها بشكل أكبر، فإنه من الضروري إنشاء واجهة برمجة تطبيقات، بالإضافة إلى نماذج ولغات برمجة.
لعل هذا يساعدنا على استكشاف آفاق الذكاء الاصطناعي والإجابة عن السؤال المهم حول ما إذا كان العلماء سيقتربون من زرع الوعي الاجتماعي والأخلاق في الآلات من خلال محاكاة قدرات الدماغ البشري داخل رقائق مصنوعة من السيليكون.