استكشاف الحكومات الذكية: دراسة حالة لبرنامج (راتبي الأول) في صربيا

6 دقائق
الحكومات الذكية
حقوق الصورة: سمارت سيتي إكسبرت إي يو.

اتخذت الحكومات حول العالم خطوات كبيرة في استخدام التكنولوجيات والابتكارات الرقمية حتى تتمكن من تحويل نفسها. وقد استطاع المسح الذي قامت به الأمم المتحدة لعام 2020 حول الحكومات الرقمية أن يبيّن هذه الإنجازات بشكل رائع. وعلى سبيل المثال، تقدم أكثر من 84% من البلدان حالياً خدمة تعامل واحدة على الإنترنت على الأقل، كما يبلغ المتوسط العالمي لعدد هذه الخدمات 14 خدمة. إضافة إلى ذلك، فإن ما يقارب من 80% من البلدان التي شملها المسح تقدم خدمات رقمية محددة للشباب، والنساء، وكبار السن، وذوي الهمم، والمهاجرين و/أو الفقراء، ما يساهم في الجهود الرامية إلى تقديم الدعم لأكبر شريحة ممكنة.

غير أن هذا التوجه والتركيز الجديدين قد أطلقا منافسة غير معلنة بين الحكومات في الاستثمار في التكنولوجيا. وهو ما يثير القلق؛ لأنه يركز إلى حد كبير على التكنولوجيا نفسها بدلاً من التركيز على الهدف من استخدامها والتجربة التي تقدمها. تتغير التكنولوجيات بسرعة، ولهذا يجب أن نتعامل معها على أنها مجرد وسيلة لتحقيق الهدف الأساسي من وجود الحكومات، وهو تحقيق أعلى درجة ممكنة من السعادة للمواطن، ودعمه لتحقيق حياة آمنة ومُرضية.

وحتى تستطيع الحكومة التخلص من عقلية “التكنولوجيا أولاً”، يجب أن تبدأ بالتفكير بالتحول إلى “حكومة ذكية” بدلاً من “حكومة رقمية”.

أما الفرق الأساسي بين المفهومين فهو أن الحكومة الذكية تتجاوز التكنولوجيا حتى تأخذ بعين الاعتبار الصورة الشاملة، بما في ذلك التكنولوجيا، والناس، والعمليات، وقطع أخرى مفقودة من الأحجية، مثل السياسات والقوانين.

ويمكن وصفها بأنها الحكومية التي حازت على القدرة والكفاءة اللازمة لتطبيق المعرفة والمهارات بسرعة وفعالية، وذلك لتحقيق مصالح الأطراف التي تعتمد عليها. وهي حكومة تتسم أفعالها وأعمالها بأنها موجهة لتحقيق أهداف محددة، وتتسم بخمسة مبادئ أساسية:

  1. التركيز هو تجارب حياة المواطن
  2. النواة هي البيانات والتحليلات
  3. النموذج يتمحور حول النظام البيئي
  4. التأكيد على استخدام الأدوات الرقمية كخيار افتراضي
  5. الهدف الأسمى هو النتائج المبنية على المُخرَجات

من الأهمية بمكان أن نستوعب أنها ليست حالة مثالية، فالكثير من الحكومات التي انطلقت في رحلتها الرقمية بدأت منذ الآن تنحو بهذا الاتجاه. ولكي نبيّن ما المقصود بمصطلح “الحكومة الذكية”، يمكننا اللجوء إلى حالة برنامج “راتبي الأول” الحكومي في صربيا كمثال واقعي جيد.

توصلت إلى هذا المثال عبر أحد حواراتي المعتادة مع مارتا أرسوفسكا توموفسكا، وهي مديرة فريق إصلاح الإدارة العامة ومستشارة تكنولوجيا المعلومات والابتكار في مكتب رئاسة مجلس الوزراء في صربيا، ومن الشخصيات الهامة المسؤولة عن التحول الرقمي في ذلك البلد.

أما العقل المدبر الذي يقف خلف هذا البرنامج فهو يوكاسين جروزديتش، المستشار في مكتب رئاسة مجلس الوزراء في جمهورية صربيا وأحد أصغر أعضاء فريق رئيسة مجلس الوزراء سناً.

ونظراً لصغر سنه واستيعابه لحاجات الشباب في البلاد، تم تعيينه من قبل آنا برنابيتش، رئيسة الوزراء الصربية، لتنسيق عملية تأسيس بيئة العمل العصرية القادرة على تحفيز الشباب. وعندما سُئل عن هذا البرنامج، كانت إجابته: “إن برنامج راتبي الأول أحد المشاريع التي أفتخر بها على وجه الخصوص، ويسرني أنني كنت في موضع يتيح لي المساهمة في دمج أبناء جيلي في سوق العمل، وفي نفس الوقت دعم تطوير القوى العاملة الماهرة التي تستطيع البدء بالعمل في شركاتنا مباشرة. لقد وفر لي هذا المشروع منظوراً جديداً بالكامل، وسأستغل المعرفة التي حصلت عليها في هذا البرنامج لتصميم المزيد من سياسات العمل في المستقبل لصالح بلادي”.

دعونا نرى ما الذي يجعل برنامج راتبي الأول متناسباً مع هذه المعايير.

يهدف البرنامج إلى حل مشكلة مباشرة، وهي بطالة الشباب التي وصلت إلى 25.5% في الربع الأول من 2020. ويتضمن البرنامج استخدام منصة رقمية لتحقيق التواصل ما بين الشباب وأرباب العمل، وذلك لمساعدتهم على تجاوز العقبات البيروقراطية التي غالباً ما تؤدي إلى فترة انتظار تصل إلى نحو عامين قبل الحصول على أول عمل.

ولم يكن الغرض من البرنامج الاستجابة إلى رغبة الحكومة الصربية في إنشاء أداة رقمية لاستعراض مدى توافر خدمات رقمية إضافية وحسب؛ فقد انطلق الفريق الذي يقف وراء هذا البرنامج من مشكلة حقيقية أرادوا إيجاد حل لها، وهي في هذه الحالة مشكلة معدل البطالة بين شباب البلد. وبدلاً من القفز مباشرة إلى استخدام التكنولوجيا، بدأ الفريق ببناء صورة دقيقة حول الأسباب الأساسية لهذه المشكلة.

واستنتج الفريق أن المنظمات تفضل توظيف العاملين ذوي الخبرة، وحتى لو قام رب العمل بتوظيف عاملين دخلوا سوق العمل لأول مرة، ففي الكثير من الحالات كانت عقود هؤلاء العاملين تُشطب حتى قبل انتهاء الفترة التجريبية. وفي المحصلة، أدى هذا إلى الدخول في حلقة مفرغة، فلا يستطيع أرباب العمل العثور على عمالة خبيرة من جهة، ولا يستطيع الباحثون عن العمل تأمين عقد لبناء الخبرة إلا بصعوبة بالغة على الجهة المقابلة.

ويقوم الحل على قيام الحكومة الصربية بالتقليل من تكاليف توظيف الشباب تحت سن الثلاثين للعمل في عدة شركات مختارة، وذلك بتقديم “منحة راتب مدعوم” لفترة تصل إلى تسعة أشهر. فمن جهة، يمكن أن يؤدي هذا الإجراء إلى تشجيع المنظمات على استئجار عمالة غير خبيرة بحيث يتم اكتساب الخبرة العملية لاحقاً، ومن جهة أخرى، يخفف من العبء المالي على المنظمات، ما يسمح لها باستغلال مواردها المالية لتوظيف عمالة خبيرة لتحقيق حاجاتها الفورية.

وعند ذلك، استُخدمت الأدوات الرقمية فقط لتسهيل هذا الانتقال بين الأطراف الأساسية.

1- التركيز هو تجارب حياة المواطن

لم يركز البرنامج الجديد على القضية الجوهرية وحسب، بل صُمم بطريقة تسعى إلى تحسين تجربة المستخدم.

حيث يوجد في صربيا نظام دعم للمواطنين العاطلين عن العمل، غير أن العملية بأسرها كانت معقدة ومثقلة بالبيروقراطية، وغالباً ما كانت تؤدي إلى إجراءات توظيف متحيزة وتفتقر إلى الشفافية. وكما ذكرنا سابقاً، تسبب هذا في إطالة زمن الانتظار إلى سنتين. إضافة إلى ذلك، فإن التواجد خارج النظام الاقتصادي ومن دون دخل قد يكون واحداً من أهم العوامل التي تؤثر سلباً على تجربة الحياة للمواطن العادي.

2- التأكيد على استخدام الأدوات الرقمية كخيار افتراضي

تم تصميم هذا البرنامج لتنفيذ العمل بشكل رقمي بالكامل من الطرف إلى الطرف، من دون استخدام أي ورقيات. وقد تمت أتمتة عملية تقديم الطلب والموافقة وحتى المطابقة بين العامل ورب العمل بشكل ناجح، ما أدى إلى القضاء على العقبات البيروقراطية.

يجب على الشركات التي ستشترك في البرنامج أن تسجل باستخدام وثائق إلكترونية رسمية، أما المرشحون فيجب أن يسجلوا على الأقل باستخدام أخفض مستوى من نظام الهويات الإلكترونية الحكومي.

3- النواة مبنية على البيانات والتحليلات

استخدم البرنامج مقاربة مبنية على البيانات، وصُمم بناء على معلومات من تحليل البيانات الحكومية حول البطالة والمعلومات التي يقدمها كل من العاملين وأرباب العمل. يتضمن الحل التكنولوجي خوارزمية توصية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وذلك للمطابقة ما بين مرشحي التوظيف وعروض العمل، إضافة إلى وسائل التوضيح المرئية والقياسات اللازمة لفهم أداء البرنامج. تقوم الخوارزمية أيضاً بالتحقق من دفع الشركة لكل ما يتوجب عليها دفعه من ضرائب ومساهمات، وعدد الموظفين فيها، وغير ذلك، من أجل تحديد صلاحيتها للمشاركة في البرنامج.

4- استخدام نموذج النظام البيئي

يُعرّف “راتبي الأول” بأنه برنامج تقوده الحكومة ويهدف إلى حل مشكلة مباشرة ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية، ويعتمد على نموذج النظام البيئي، وذلك بالاستفادة من القدرات داخل وخارج الحكومة في نفس الوقت، واستخدام مقاربتَي الدعوة المفتوحة والبناء المشترك.

تم تشكيل فريق تصميم وتطوير متنوع ويمثل جميع الأطراف المعنية لبناء البرنامج، وكان يتضمن مجموعة من الشباب العاطلين عن العمل، والسياسيين، وقادة الأعمال.

وبالرغم من أن الفكرة الأولية كانت قد طُرحت من قبل غرفة التجارة الصربية، إلا أن القطاعين العام والخاص، بما في ذلك المنظمات الشبابية، عملا في بيئة تعاونية لتصميم وبناء الحل بشكل مشترك. ومن الكيانات المشاركة: مكتب رئيس مجلس الوزراء، ووزارة المالية، ووزارة العمل والتوظيف والشؤون الاجتماعية وشؤون المحاربين القدماء، ووزارة الرياضة والشباب، وخدمة التوظيف الوطنية، ومكتب تكنولوجيا المعلومات والحكومة الرقمية، وغرفة التجارة الصربية.

إضافة إلى ذلك، فقد استُخدم فريق متعدد الاختصاصات لتصميم البوابة بإشراف الرئيس التنفيذي لمكتب تكنولوجيا المعلومات والحكومة الرقمية، وتضمن الفريق مجموعات من مديري المشاريع، ومختصي تصميم الحلول، والمهندسين، ومختصي تجربة المستخدم، وشركة برمجيات من القطاع الخاص.

5- الهدف الأسمى هو النتائج المبنية على المخرجات

بحلول سبتمبر من العام 2020، وخلال شهر من إطلاق البوابة في أغسطس من العام 2020، عُرض على المنصة 28,000 منصب وظيفي متاح من قبل منظمات متنوعة. وهو ما يقارب ضعف الرقم الذي توصلت إليه التوقعات والتقديرات الأولية. تتوقع خدمة التوظيف الوطنية تقديم أكثر من 30,000 طلب للحصول على هذه الوظائف. وسيتم توقيع عقود التوظيف خلال نوفمبر وديسمبر من العام 2020.

إضافة إلى ذلك، يوجد برنامج لاحق لبرنامج راتبي الأول، حيث سيتم تحليل أدائه ودراسة نتائج تخفيض معدل البطالة وأزمنة الانتظار للحصول على العمل الأول. إضافة إلى ذلك، سيُستخدم التحليل لفهم الجانب المتعلق بالعرض والطلب على الوظائف بشكل أفضل، وعلاقتها بالمناطق والمدن والاختصاصات والعمر والجنس وغير ذلك. وبناء على هذه النتائج، سيتم تعديل البرنامج وإعادة إطلاقه سنوياً، كما أن البوابة ستخضع للتقييم من أجل تحسين تجربة المستخدم وإجراء تحسينات متواصلة على مستوى العمليات.

وأخيراً، يمثل البرنامج إثباتاً عملياً على أن الحكومات ليست جميعها ذات عطالة كبيرة عند تنفيذ المشاريع. فقد أصبح القادة في العصر الحديث أكثر إدراكاً لأساليب العمل السريعة والمرنة، وقد كان هذا واضحاً إلى درجة كبيرة في هذه الحالة، فقد استُكمل المشروع وتطبيقاته بالكامل في غضون بضعة أشهر وحسب.

كما أن المشروع يعد خير دليل على قدرة القيادة التي تتمتع برؤية ثاقبة على أن تكون حافزاً للتغيير. فقد كانت رئيسة الوزراء الصربية، آنا برنابيتش، مشرفة بشكل مباشر على تطبيق هذا البرنامج. فلم تكتفِ بالترويج بنفسها لإطلاق البرنامج خلال أحد اجتماعاتها الدورية مع أكبر عشرين منظمة للشباب في البلاد فقط، بل كانت أيضاً مصدر إلهام لغيرها من المسؤولين الحكوميين للقيام بذلك في مختلف وسائل الإعلام الوطنية، من محطة تلفاز وراديو ومواقع إنترنت، إضافة إلى شبكات التواصل الاجتماعي، ما ساهم في نجاح هذه المنصة.

كما يشير البرنامج إلى أن الحكومات بدأت تدرك أن التحول الرقمي هو وسيلة لتحقيق غايات أخرى، وأنها يجب أن تنظر إلى ما هو أبعد من التكنولوجيا في تطلعاتها وتلعب دوراً تمكينياً بدلاً من تنفيذ كل شيء بنفسها طوال الوقت.

أتطلع قدماً إلى إجراء حوار آخر مع مارتا في وقت قريب لأقدم لكم المزيد من المعلومات والتحليلات المتعمقة. وفي الختام، أتقدم بالشكر والتقدير للسيد يوكاسين جروزديتش: العقل المدبر لبرنامج راتبي الأول.

المحتوى محمي