يمثل قاع البحر إحدى آخر الجبهات التي لم نتمكن بعد من استكشافها أو استثمارها. وعلى الرغم من أن العالم فوق سطح الماء يعج بتغيرات الاحترار العالمي وهجرة البشر، فقد بقي قاع المحيط مكاناً موحشاً ويصعب الوصول إليه، إلى درجة أنه بقي دون تغير يستحق الذكر نسبياً. ولكن ليس من المؤكد أنه سيبقى كذلك.
ففي الأعماق، وتحت قاع البحر، تكمن معادن مطلوبة لرفع مستوى تطوير البطاريات، والتي تعتبر بدورها ضرورية لتكنولوجيات أخرى مثل السيارات الكهربائية. تستطيع السيارات الكهربائية المساعدة على التخفيف من الانبعاثات والانتقال نحو سيناريو احترار قريب حتى من نطاق 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، كما تقول الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ والتي تتبع للأمم المتحدة.
ولكن بطاريات السيارات الكهربائية تعتمد على معادن لا يمكن الحصول عليها إلا بصعوبة. ولهذا، فإن المجتمع الدولي يسعى إلى استكمال مجموعة من القوانين التي تسمح بالابتكار، وتحمي في الوقت نفسه أحد آخر الأنظمة البيئية التي ما زالت على حالها نسبياً. إنه سباق نحو تطبيق نظم أفضل للبيئة، والحد من تأثيراتها أيضاً.
اقرأ أيضاً: ما الدروس المستفادة من قرارات ولاية كاليفورنيا الجديدة حول مستقبل السيارات الكهربائية؟
وضع قواعد بيئية للتنقيب التجاري في البحار
ففي نوفمبر الماضي، عقدت السلطة الدولية لقاع البحار "إيسا (ISA) اختصاراً" -وهي وكالة تتبع للأمم المتحدة وتتولى الإشراف على الموارد المعدنية في المياه الدولية- اجتماعها السابع والعشرين27 للعمل على خطتها لتنظيم عمليات التنقيب في أعماق البحر والموافقة عليها.
وعلى الرغم من وجود عمليات استكشاف جارية لتجربة التكنولوجيا المستخدمة في استخراج المعادن الثمينة، فإن قواعد التنقيب التجاري لن تدخل حيز التنفيذ قبل يوليو/ تموز من هذا العام. ومن المرجح أن تبدأ عمليات التنقيب على نطاق واسع بعد ذلك بوقت قصير. وفي محاولة محمومة لتسريع العملية، وجني الفوائد التي سيجلبها استقرار العرض من المعادن الثمينة إلى سوق السيارات الكهربائية، يتم تطوير القوانين والتكنولوجيات جنباً إلى جنب.
أخبار سارة لأنصار السيارات الكهربائية
وهذه أخبار سارة بالنسبة لأنصار السيارات الكهربائية. فالطلب على سيارات كهربائية أفضل للبيئة وأكثر كفاءة يشهد ازدياداً حاداً، ففي الربع الثاني من العام 2022 وصلت نسبة السيارات الكهربائية إلى 5.6% من إجمالي سوق السيارات، أي بزيادة 2.7% على الربع الثاني من العام 2021. وقد توقع تحليل للسوق من بلومبرغ (Bloomberg) أن وصول هذه النسبة إلى 5% تقريباً يعني بداية النقلة نحو انتشار واسع النطاق. وباختصار: فإن إنتاج السيارات الكهربائية يزداد بسرعة، ما يعني الحاجة إلى عرض كافٍ لتلبية الطلب على المعادن المستخدمة في هذا الإنتاج.
اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل من ارتفاع أسعار السيارات الكهربائية أمراً لا مفر منه؟
مهمتان متضاربتان للسلطة الدولية لقاع البحار
ولكن عبرت عدة بلدان وشركات علناً عن مخاوفها مع اقتراب موعد تطبيق القوانين في يوليو/ تموز، حيث قالت إنه يستحيل على إيسا أو شركات التنقيب الجزم بأن عمليات التنقيب لن تؤدي إلى إحداث تدهور دائم في قاع البحر. ودعت إلى إيقاف مؤقت لنشاطات التنقيب في أعماق البحر حتى تستطيع الأبحاث مجاراة التكنولوجيا.
وقد بذل الصندوق العالمي للطبيعة الكثير من الجهد لدفع بعض أكبر الشركات ورؤساء الدول إلى الاعتراض على التنقيب في أعماق البحر. وقد كتب الصندوق: "إن إيسا، وهي الوكالة التي يفترض بها أن تكون مسؤولة عن مهمتين متضاربتين: ترخيص التنقيب في أعماق البحار وحماية المحيطات من آثار هذا التنقيب في الوقت نفسه، أثبتت أنها غير قادرة على تحقيق هذا الهدف، ونحن ندعو إلى تغيير مسار العمل بصورة طارئة، قبل وقوع أضرار لا يمكن إصلاحها".
من ناحية أخرى، فإن القوانين، والتي تقول التقديرات المتفائلة إنها ستدخل حيز التطبيق في يوليو/ تموز، لم تكتمل بدورها، ما يجعل الوضع أكثر غموضاً. وقد تم تحديد هذا الموعد عندما فعّلت دولة ناورو (دولة جزرية صغيرة في أوقيانوسيا) "بند السنتين" في الأمم المتحدة عام 2021، وذلك في محاولة لتسريع الموافقة على عمليات التنقيب التجارية، بالتنسيق مع الشركة الناشئة الكندية ذا ميتالز كو (the Metals Co). وإذا فشلت إيسا في الوصول إلى الموعد النهائي دون إجراء آخر، فسيكون لدى الشركات حرية التنقيب في أعماق البحار دون إشراف من المؤسسة.
في السعي نحو معادن ثمينة لصناعة السيارات الكهربائية
ومن المرجح أن تتم معظم عمليات التنقيب الخطيرة في منطقة كلاريون—ليبرتون، أو (CCZ) اختصاراً، وهي عبارة عن صدع بطول أكثر من 7,200 كيلومتر في قاع البحر. تقع هذه المنطقة بين هاواي والمكسيك، وتحتوي على مخزون ضخم من بعض المعادن الأكثر أهمية في الانتقال إلى الطاقات الخضراء. ويحتوي الصدع على تريليونات من العُقيدات متعددة الفلزات، والتي تبدو أشبه بكرات معدنية تحتوي على النيكل والكوبالت والنحاس والزنك والليثيوم والمنغنيز.
حالياً، يتم الحصول على هذه المعادن بصورة رئيسية من مناجم على اليابسة بشكل يتسبب بآثار بيئية كارثية، مثل زعزعة استقرار سطح الأرض، وإيذاء الأنواع الحية المحلية، وغالباً ما يتم اتباع معايير عمل غير إنسانية. إضافة إلى هذا، فإن أساليب التنقيب الحالية لا تستطيع مجاراة النمو السريع للسوق. وفي هذه الظروف، بدأت الشركات بدراسة إمكانية استثمار منطقة (CCZ) والكمية الهائلة من المعادن المطلوبة بشدة، وقد بدأ إجراء اختبارات الجدوى الاقتصادية والآثار البيئية في محاولة لتمهيد الطريق أمام عمليات التنقيب في أعماق البحار في المستقبل.
وعلى سبيل المثال، فإن سفينة هيدن جيم أجرت أول عملية اختبار في 2022 في إطار التعاون بين شركة أولسيز (Allseas) السويسرية للبناء تحت سطح البحر والشركة الكندية الناشئة ذا ميتالز كو. ويقوم النظام بالتقاط العقيدات متعددة الفلزات من قاع البحر مع كمية صغيرة من الرواسب. وبعد ذلك، يتم شفط العقيدات إلى السطح عبر سلسلة من الأنابيب، وإعادة ما تبقى من الحطام ومياه البحر إلى منطقة (CCZ). وقد تمكنت العملية من جمع 4,500 طن من العقيدات، تم إحضار 300 طن منها إلى السطح، وذلك وفقاً لشركة ذا ميتالز كو.
الهوة بين التقدم التكنولوجي وأبحاث تقييم نشاطات التنقيب
وعلى حين تشهد التكنولوجيا المستخدمة للتنقيب في أعماق البحر تطوراً سريعاً (في محاولة لاستخراج المعادن في أقرب وقت ممكن) فإن معلوماتنا عن آثار هذه النشاطات ما زالت محدودة وعاجزة عن مجاراة تقدم التكنولوجيا. وفي أحد استطلاعات الرأي، قال 88% من الخبراء في هذا المجال إن المعلومات "قليلة للغاية في الوقت الحالي، بحيث لا يمكن الاستفادة منها في التخفيف من الأخطار البيئية، وضمان حماية البيئة البحرية في مواجهة عمليات التنقيب واسعة النطاق في أعماق البحر". كما تبين أن 5% فقط يدعمون فكرة وجود معلومات كافية لاتخاذ قرارات سليمة حول ما يمكن أن يتسبب بالآثار السلبية في (CCZ).
اقرأ أيضاً: شركة ناشئة تستخدم المعادن لإزالة ثاني أكسيد الكربون تتلقى تمويلاً وتجذب أول مشترٍ
ويعتبر التنوع الأحيائي من النواحي الأساسية المعرضة للآثار السلبية، فنحن لا نعرف سوى معلومات قليلة نسبياً حول الأنواع التي تعيش هناك. ما زالت نسبة 80% من المحيط خارج نطاق الرصد البشري، ويقدر العلماء أن نسبة الأنواع الحية البحرية التي تم تصنيفها هي أقل من 10%. ومن الأخطار التي تتعرض لها الأنظمة البيئية الحساسة والأنواع الحية في أعماق المحيطات: تدمير الموائل، والتلوث الصوتي والضوئي، وسُحُب الرواسب.
إضافة إلى هذا، فإن التفاعلات القائمة بين مجموعات الكائنات الحية في أعماق البحر لم تحظَ بدراسة كافية، كما أننا لا نعرف كيف يمكن للتغييرات التي يمكن أن يتعرض لها أحد الأنظمة أو الأنواع الحية أن تؤثر على غيرها. ولا يوجد لدينا سوى معلومات قليلة حول قابلية التغير، أو "التوجهات الطبيعية المكانية والزمانية" للأنظمة البيئية لقاع البحر، وهي عامل أساسي في درجة مقاومتها.
مخاطر التنقيب في الأعماق على البيئات البحرية
وفي دراسة حديثة حول التأثيرات البيئية للتنقيب في أعماق البحر، حذر الباحثون من تطبيق قوانين جديدة أو منح عقود جديدة قبل وجود "معلومات كافية لاتخاذ قرارات مبنية على أسس علمية وتعتمد على بيانات دقيقة". ومن أهم المخاوف أن هذا النظام البيئي الفريد قد بلغ مرحلة حرجة فعلاً بسبب ارتفاع درجة حرارة المياه، ما يعني أن أي أضرار إضافية قد تكون دائمة ولا يمكن إصلاحها. وللتنقيب بصورة أخلاقية في قاع البحر، يجب إجراء اختبارات مكثفة لإثبات أن الأضرار التي يمكن أن تصاب بها الأنواع الحية والأنظمة البيئية محدودة ومن الممكن إزالتها بالكامل.
وعلى حين تستطيع الشركات اجتذاب رؤوس الأموال وضخ الموارد في عمليات البحث والتطوير للأدوات التي لا تؤثر على المحيط إلا بشكل محدود للغاية، فإن الأوساط العلمية تحتاج إلى بعض الوقت حتى تجري دراسات دقيقة للممارسات التي يمكن أن توافق عليها إيسا في يوليو/ تموز. وخلال هذا الوقت، قامت الدول الأعضاء التي يبلغ عددها 167 دولة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، بصياغة مقترحات لاستكشاف قاع البحر واستثماره. ولن تكون مجاراة هذه الإرشادات كافية. ففي غمرة الاندفاع نحو إبطاء ارتفاع مستوى سطح البحر، والاستثمار التجاري لهذا المورد ذي القيمة الهائلة والذي لم يتم استغلاله بعد، ستتصاعد الضغوط السياسية في مواجهة جهود الحفاظ على البيئة.
وفي هذه الأثناء، ستندفع الشركات بكامل قوتها في جهود التنقيب في قاع البحر. تقول ذا ميتالز كو: "نحن نسعى إلى بناء عالم لا نقوم فيه بالتنقيب عن المعادن ورميها لاحقاً، بل استئجارها وإعادتها". وفي خطة الشركة بعيدة المدى التي تعتمد على العُقيدات، ستتم إزالة المعادن واستخدامها، وستصبح لاحقاً جزءاً من دورة تتم فيها إعادة تدويرها بفعالية أعلى مستوى مما هو ممكن حالياً.
تقوم الشركة بتطوير تكنولوجيا إعادة التدوير جنباً إلى جنب مع آليات التنقيب، ولكن بناءً على التقرير المالي للفترة التي انتهت في سبتمبر، وتحديداً في 30 سبتمبر/ أيلول من العام 2022، تعرضت الشركة إلى خسائر بقيمة 27.9 ملايين دولار. وإذا استمرت البيانات المالية على هذا المنوال، فلن يبق معها من الأموال سوى ما يكفي لتسعة أشهر من العمل تقريباً، أي بضعة أشهر فقط بعد الموعد الرسمي المتوقع لدخول قوانين إيسا حيز التنفيذ. هناك شركات أخرى أصغر في هذا المجال، ولكنها لا تمتلك نفس القدرات على إجراء الاختبارات الاستباقية، وبالتالي فإنها أقل قدرة على جعل ممارسات التنقيب مستدامة.
اقرأ أيضاً: ما هي أحدث التكنولوجيات الخضراء التي ظهرت في عام 2022؟
إن الوقت يمر بسرعة. وإذا دخلت القوانين الجديدة حيز التنفيذ في يوليو/تموز، فسوف تنطلق عمليات تنقيب جديدة وغير متوقعة في أعماق المحيط. لا شك في أن تخفيض الاعتماد على الوقود الأحفوري جزء مهم من جهود مواجهة التغير المناخي. ولكن ليس إلى درجة المخاطرة بسلامة المحيط.