في إحدى الليالي الصافية عام 1994، وقبل الفجر مباشرة، وقع زلزال بمدينة لوس أنجلوس الأميركية تسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة بأكملها تقريباً. سرعان ما استيقظ الكثير من السكان يتعثرون في طريقهم إلى الشوارع، ليُفاجَؤوا بسحابة عملاقة تحتل سماء المدينة، فاتصلوا على الفور بمراكز الطوارئ للإبلاغ عن هذا الشيء الغامض. فيما بعد، تبين أن هذا الجسم الغريب لم يكن سوى السماء مرصعة بحزام من نجوم مجرة درب التبانة، التي عاشت أجيالٌ بكاملها من سكان المدينة دون أن تراها أبداً.
يُظهر لنا هذا المثال كيف طغت الأضواء الاصطناعية على أضواء الليل الطبيعية الصادرة عن القمر والنجوم، والتي طالما اعتمد عليها البشر والحيوانات والنظم البيئية لملايين السنين. وعلى الرغم من أن أضرار التلوث الضوئي قد لا تبدو واضحة تماماً كما هو الحال بالنسبة لباقي أنواع التلوث، كتلوث الهواء أو الماء مثلاً، إلا أنه أصبح أحد أكثر الاضطرابات البيئية المزمنة على الأرض. وسنرى في هذا المقال كيف أثر التلوث الضوئي على مختلف الكائنات الحية، بما فيها الطيور والنباتات والأسماك والبشر.
يُعرف التلوث الضوئي بأنه الاستخدام المفرط أو الخاطئ للإضاءة الخارجية الاصطناعية؛ حيث تعمل الإضاءة الخاطئة على تغيير لون وتباين سماء الليل، وتحجب ضوء النجوم الطبيعي، وتعطل إيقاعات الساعة البيولوجية؛ ما يؤثر على البيئة وموارد الطاقة والحياة البرية وحياة البشر، بل حتى على أبحاث علم الفلك.
ولا يعد التلوث الضوئي ظاهرة جديدة؛ فعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، ومع التقدم التكنولوجي في مختلف دول العالم، زاد الطلب على الإضاءة الخارجية وانتشر التلوث الضوئي خارج حدود المناطق الحضرية إلى الضواحي والمناطق الريفية. وينتشر هذا النوع من التلوث الآن في مختلف أنحاء آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية، لا سيما في مدن مثل لوس أنجلوس ونيويورك وواشنطن العاصمة.
وفي عام 2018 احتلت مدينة سانت بطرسبرج الروسية المرتبة الأولى في قائمة المدن الأكثر تلوثاً بالضوء في العالم؛ حيث كانت الإضاءة الاصطناعية في المدينة أكثر سطوعاً بمقدار 8.1 مرة من المتوسط الحضري العالمي.
والتلوث الضوئي بشكل عام آخذ في الارتفاع في جميع أنحاء العالم؛ إذ توضح دراسة ألمانية أجراها مركز الأبحاث الألماني لعلوم الأرض (GFZ)، ونُشرت في دورية ساينس أدفانسز (Science Advances) عام 2017، أن التلوث الضوئي زاد بنسبة 2٪ سنوياً على مدار خمس سنوات الممتدة بين 2012 و2016 في معظم أنحاء كوكب الأرض، لا سيما في الأماكن التي لم تكن مضاءة من قبل.
وتعرض هذه الخريطة التفاعلية توزيع التلوث الضوئي في مختلف أنحاء العالم. ويمكنك من خلالها أن تتعرف على مستوى التلوث الضوئي في بلدك.
أنواع التلوث الضوئي
تتعدد أنواع التلوث الضوئي، بما في ذلك التعدي الضوئي والوهج والفوضى الضوئية، ويمكن أن يتسبب مصدر ضوء واحد في أشكال متعددة من التلوث. وأبرز أنواع التلوث الضوئي التي يحددها العلماء هي:
-
الوهج (Glare)
هو السطوع المفرط الذي يسبب عدم الراحة البصرية. ويمكن أن يؤدي التوهج -اعتماداً على شدته- إلى تقليل التباين وإدراك الألوان والأداء البصري. وللوهج ثلاثة أشكال: الوهج المزعج (Discomfort Glare)، وهو الأكثر شيوعاً، ويحدث عندما تسبب الإضاءة إزعاجاً أو تهيجاً، لكنها لا تقلل من الأداء البصري ويكون الانزعاج الجسدي قصير المدى. والوهج المسبب للإعاقة (Disability Glare)، الذي يحدث عندما يوجه الضوء إلى العين مباشرة بشكل يؤثر على الأداء البصري ويقلل الإدراك المكاني، ويعد السائقون الأكبر سناً هم الأكثر عرضة للوهج المسبب للإعاقة أثناء القيادة. وأخيراً الوهج المسبب للعمى (Blinding Glare)، الذي يحدث عندما يُضعف مصدر الضوء مجال الرؤية ويمنع العين من رؤية أي شيء سوى هذا الضوء، وقد يظل الأداء البصري متأثراً لبعض الوقت بعد ذلك.
-
التعدي الضوئي (Light Trespass)
هو ذلك النوع من التلوث الضوئي الذي يحدث عندما يصل الضوء إلى مكان غير مرغوب فيه، كالمنازل أو الشركات أو المناطق الأخرى. وأبرز مثال على التعدي الضوئي هو وصول ضوء مصابيح الشوارع إلى غرف المنازل، ومصابيح الحائط الخارجية التي توجّه الضوء نحو السماء بدلاً من الأرض.
-
توهج السماء (Sky Glow)
ويسمى أيضاً الوهج السماوي أو وهج السماء، ويقصد به سطوع السماء ليلاً فوق المناطق المأهولة. وتُعد الأضواء الاصطناعية سيئة التصميم والموجهة إلى الأعلى هي السبب الرئيسي في هذا النوع من التلوث. وتوهج السماء هو المسؤول عن اختفاء مجرة درب التبانة والنجوم عن الأنظار في العديد من المناطق.
كما يتسبب توهج السماء في تعقيد عمل علماء الفلك؛ إذ تحتاج مواقع مراقبة النجوم إلى الابتعاد بمسافات كبيرة عن المناطق الحضرية التي تنبعث منها الأضواء نحو السماء. وحتى بالنسبة لهواة الفلك، يؤثر هذا التوهج على قدرتهم على مراقبة الأجرام السماوية بوضوح. وأخيراً، يؤثر هذا النوع من التلوث الضوئي على الطيور والحيوانات الليلية، التي اعتادت على استخدام ضوء القمر والنجوم للتنقل.
ويقول تشاد مور، عضو الجمعية الدولية للسماء المظلمة (IDA)، إن قباب الضوء يمكن رؤيتها حالياً على بعد 200 ميل (321 كيلومتراً) من المدن الكبيرة. ووفقاً للجمعية، تبلغ تكلفة الإضاءة الخارجية المهدرة في الولايات المتحدة بسبب الضوء الذي يوجه بشكل مباشر إلى الأعلى، حوالي 2 مليار دولار سنوياً. كما أن هذا الضوء المهدر له بصمة كربونية سنوية تعادل حوالي 3.6 مليون طن من الفحم أو 13 مليون برميل من النفط.
-
الفوضى الضوئية (Light Clutter)
وتعني التجمعات الساطعة والمربكة والمفرطة لمصادر الضوء التي تسبب الارتباك وتشتيت الانتباه عن الأشياء القادمة أو المحيطة. ويمكن رؤية الفوضى الضوئية على الطرق المحاطة بأضواء الشوارع والإعلانات أو اللافتات ذات الإضاءة الساطعة، ويخلق هذا الوضع بيئة خطرة للسائقين والطيارين لأنها تتداخل مع إشارات المرور والملاحة.
آثار واسعة على مختلف الكائنات الحية
تُظهر الدراسات العلمية وجود تأثيرات هامة للتلوث الضوئي على مختلف الكائنات، وأولها البشر أنفسهم. ويعتقد العلماء أن هناك روابط بين الأضواء الاصطناعية وأمراض العيون والأرق والسمنة، وحتى الاكتئاب. بل إن دراسة أمريكية عن العاملين بنظام النوبات أشارت إلى وجود علاقة بين التعرض للضوء ليلاً وزيادة خطر الإصابة بسرطان الثدي بسبب تثبيط الإنتاج الليلي الطبيعي لمادة الميلاتونين.
أما بالنسبة للطيور، فتشير تقديرات نشرتها جامعة أكسفورد أن ما بين 100 مليون إلى مليار طائر يموت كل عام من الطيران بين المباني في الولايات المتحدة فقط، حيث يُعتقد أن الأضواء الاصطناعية تلعب دوراً رئيسياً في هذا العدد الكبير من الطيور المقتولة. ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن بريت سيمور، عالم البيئة السلوكي بجامعة واشنطن في سانت لويس، إن الشمس ببساطة تشبه الساعة. ويعطي إيقاع الليل والنهار للنباتات والحيوانات إشارات للدورات الطبيعية للتغذية والتزاوج والهجرة والملاحة، إلا أن البشر يغيرون هذا الإيقاع الطبيعي بإغراق العالم بالضوء الاصطناعي.
وفي إحدى أكبر التجارب الميدانية لقياس تأثير التلوث الضوئي على النظم البيئية، والتي أجريت في هولندا على مدار أكثر من 6 سنوات، وجد الفريق البحثي أدلة فسيولوجية على الآثار الضارة للتلوث الضوئي على صحة الحيوانات البرية. وكانت الطيور المغردة التي تتجول حول الضوء الأبيض مضطربة طوال الليل، وتنام أقل، وحدثت لديها تغيرات في التمثيل الغذائي تشير إلى حدوث ضعف في صحتها.
وتمتد التأثيرات إلى كائنات أصغر بكثير وهي الحشرات، التي تعد مصادر الغذاء الحيوية والملقحات في العديد من النظم البيئية. ويشير تقدير لتأثير مصابيح الشوارع في ألمانيا إلى أن الضوء يمكن أن يقضي على أكثر من 60 مليار حشرة في صيف واحد؛ حيث تطير الحشرات مباشرة نحو المصابيح، ويموت الكثير منها بعد الاستمرار في الدوران حولها لساعات.
نصائح لمكافحة التلوث الضوئي
على عكس الأشكال الأخرى للتلوث، يمكن تقليل التلوث الضوئي بشكل سهل من خلال تحسين ممارسات الإضاءة الخارجية؛ لأن تجاوزها للغرض منها يجعلها مضرة للآخرين. وفيما يلي بعض النصائح البسيطة للمساعدة على تقليل التلوث الضوئي، دون التضحية بالغرض الأساسي من الإضاءة الخارجية المتمثل في توفير الراحة والسلامة:
- اختر تركيبات الإضاءة الخارجية المحمية، والتي تعني وجود غطاء صلب فوق المصباح يمنع الضوء من الانبعاث مباشرة إلى السماء، لتقليل توهج السماء.
- حدد تركيبات الإضاءة الخارجية بزوايا قطع، لمنع الضوء من الهروب فوق المستوى الأفقي، وتقليل الإضاءة.
- قم بتثبيت أجهزة استشعار الحركة في الإضاءات الخارجية، بحيث يتم تشغيلها عند الحاجة وإيقاف تشغيلها بعد وقت قصير.
- اتخذ خطوات لمنع وتقليل التلوث الضوئي في منزلك وعملك ومجتمعك، من خلال إغلاق الستائر مثلاً لمنع انسكاب الضوء، والطلب من الإدارات المسؤولة تعتيم أضواء المكاتب بعد مغادرة جميع العمال لمنع إهدار الضوء والطاقة.