التكنولوجيا القابلة للارتداء: إلى أي مدى نقترب من أن نصبح «سايبورغ»؟

9 دقيقة
توليد الصورة بمساعدة "بكسلر" بإشراف محرر مجرة

في صباح يوم مشمس من عام 2040، يستيقظ "فارس" ليمارس روتينه اليومي. يفتح عينيه لتظهر أمامه مباشرة عدسات ذكية تعرض حالة الطقس ورسائل البريد الإلكتروني على أطراف مجال رؤيته. يرتدي قميصاً مزوّداً بأجهزة استشعار حيوية ترصد حالته الصحية وتعرض أهم المؤشرات على العدسة الذكية، وسواراً ذكياً على معصمه يسمح له بالتحكم في أجهزته المنزلية بمجرد التفكير. خلال تنقله إلى عمله، يستخدم نظارات الواقع المعزز لإرشاده عبر الطرق المزدحمة، حيث تختلط اللافتات الرقمية مع المشاهد الواقعية. عند وصوله، يستعين بغرسة عصبية تساعده على تسريع معالجة المعلومات في اجتماعاته، ما يمنحه تفوقاً في التركيز والإدراك.

هذه الصورة المستقبلية قد تبدو وكأنها خيال علمي، لكنها مبنية على اتجاهات حقيقية ومتسارعة في التكنولوجيا القابلة للارتداء والغرسات الحيوية. بل إن جزءاً منها صار حقيقة واقعة فعلاً؛ ففي عرض حي في منتصف أبريل 2025 لتقنية لم تُطرح بعد، كشف عالم الحاسوب شهرام إي زادي عن منصة أندرويد إكس آر (Android XR) الجديدة من جوجل، التي تهدف إلى تزويد المستخدمين بقوة الذكاء الاصطناعي من خلال النظارات والسماعات الذكية. واستعرض فيه قدرات هذه التكنولوجيا على تلخيص كتاب بسرعة، والترجمة بين اللغات، وتذكيرك بمكان مفاتيحك.

فإلى أي مدى تقترب هذه الاتجاهات من تحويلنا إلى ما يشبه الـ "سايبورغ"، كائنات تمزج بين الإنسان والآلة؟

تطور الأجهزة القابلة للارتداء: من الساعات الذكية إلى الغرسات الحيوية

شهد العقد الأخير طفرة هائلة في الأجهزة القابلة للارتداء. البداية كانت مع أجهزة بسيطة مثل أجهزة تتبع اللياقة البدنية والساعات الذكية ذات الوظائف المحدودة. على سبيل المثال، كان إصدار أول ساعة آبل في أبريل من عام 2015 نقطة تحول، حيث قدمت قدرات تتبع المؤشرات الصحية الأساسية. ومنذ ذلك الحين، توسّع مجال التقنيات القابلة للارتداء ليشمل طيفاً واسعاً من الأجهزة؛ بدءاً من النظارات الذكية وصولاً إلى الغرسات الطبية. من المتوقع أن تنمو السوق العالمية للأجهزة القابلة للارتداء والمدعومة بالذكاء الاصطناعي من 31 مليار دولار في 2023 إلى 300 مليار دولار بحلول 2033.

في البداية، كانت الساعات الذكية قادرة على مراقبة النبض وبعض الأنشطة الرياضية وبعض المهام الأخرى مثل عرض إشعارات الهاتف، ثم ظهرت لاحقاً الأساور والخواتم الذكية ونظارات الواقع الافتراضي والمعزز، ثم بدأت حدود التكنولوجيا القابلة للارتداء تتوسع نحو الغرسات الحيوية. على سبيل المثال، نجح الباحثون في تطوير رقاقات تحت الجلد لمراقبة مستويات الغلوكوز لمرضى السكري، وأخرى بحجم حبة الأرز يمكن زرعها في اليد لتخزين معلومات أو لتفعيل وظائف معينة مثل الدفع في المتاجر. هذه التطورات تمثّل انتقالاً من تقنيات نرتديها على الجلد إلى تقنيات نزرعها داخل الجسم ذاته.

دمج الإنسان والآلة: حين تتلاشى الحدود

مع دخولنا عصر الحوسبة القابلة للارتداء، وتعزيز الحواس بالتكنولوجيا، والبيئات الافتراضية الذكية، والأطراف الصناعية التي نتحكم فيها بالتفكير، باتت عمليات الدمج بين البيولوجيا والتكنولوجيا تتطور بوتيرة غير مسبوقة. استشرف بعض الفلاسفة، مثل آندي كلارك وديفيد شالمرز، قبل عقود أن الأدوات التكنولوجية يمكن أن تصبح امتداداً لعقولنا فيما يُعرف بـ "نظرية العقل الممتد" (The Extended Mind)، حيث يمكن للبشر تفويض جوانب من عمليات التفكير إلى أدوات خارجية ودمجها في منظومة العقل. من هذا المنطلق، يبدأ الخط الفاصل بين ما هو "إنساني" وما هو "آلي" بالتضاؤل. فعندما يرتدي الشخص نظارة واقع معزز تمنحه معلومات مباشرة عن البيئة، أو يستخدم شريحة دماغية لتحريك مؤشر الماوس بقوة التفكير، يصبح الجهاز أشبه بجزء إضافي من جسده أو عقله.

شركات التكنولوجيا الكبرى تدفع بقوة نحو هذا الاندماج. على سبيل المثال، تعمل شركة نيورالينك (Neuralink) التي أسسها إيلون ماسك على تطوير شرائح دماغية متقدمة (Brain-Computer Interfaces أو BCI) قابلة للزراعة في الدماغ. في عام 2024، نجحت الشركة في تمكين رجل مشلول من التحكم بمؤشر ماوس الكمبيوتر والانخراط في لعبة الشطرنج. وأظهر عرض مباشر رجلاً يُدعى نولاند أربو يبلغ من العمر 29 عاماً، والذي أُصيب بالشلل بسبب حادث غوص، وهو يلعب الشطرنج. هذا المثال يعزّز فكرة أن التكامل العصبي بين الإنسان والآلة لم يعد خيالاً علمياً بحتاً، بل هو واقع يتشكل تدريجياً. 

إيلون ماسك نفسه صرّح بأن هذه التقنية قد تمكّن المشلولين من المشي والعميان من الإبصار. وللتوضيح، السايبورغ هو كائن هجين يجمع بين مكوّنات بشرية وإلكترونية، وهذا المصطلح لم يعد حكراً على أدب الخيال العلمي، بل يُستخدم علمياً وفلسفياً في سياق دمج التقنيات مع الجسد البشري.

اقرأ أيضاً: هل أنت مستعد لمستقبل البحث؟ تعرّف إلى المزايا الخمس الرئيسية لمحركات البحث التوليدية

أمثلة على الأجهزة المستقبلية: نظرة على الأفق التقني

التوجه نحو "السايبورغ" يتضح في العديد من التقنيات الناشئة التي تحمل وعوداً كبيرة:

  • عدسات الواقع المعزز الذكية: شهدنا في الأعوام الأخيرة تجارب رائدة في تطوير عدسات لاصقة رقمية قادرة على عرض معلومات رقمية مباشرة أمام العين. إحدى أبرز هذه المحاولات كانت عدسة موجو فيجن Mojo Vision، وهي عدسة لاصقة تحتوي على شاشة (MicroLED) بالغة الدقة وتقنيات تتبع حركة العين والاتصال اللاسلكي. في النماذج التجريبية، تمكنت هذه العدسة من عرض نصوص وصور أحادية اللون ضمن مجال رؤية المستخدم. وعلى الرغم من أن مشروع الشركة الأصلي توقف عام 2023 بسبب تحديات تمويلية، فإن الفكرة الأساسية أرست معايير جديدة: يمكن للتقنيات أن تصبح غير مرئية تقريباً ضمن أجسادنا بحيث نتفاعل مع المعلومات الرقمية دون أجهزة خارجية ضخمة، كما أن شركات كبرى مثل جوجل وسامسونج سجّلت براءات اختراع في هذا المجال.
  • شرائح الغرسات الدماغية: تمثّل الشرائح الدماغية إحدى أكثر التقنيات إثارة وحساسية في آنٍ واحد. لقد أعلنت شركة نيورالينك عام 2023 حصولها على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) للبدء بتجارب سريرية على البشر. ومع بداية عام 2025 كان هناك ثلاثة أشخاص يحملون شرائح نيورالينك. وتهدف هذه التجارب إلى تمكين المرضى من التحكم بأجهزة الحاسوب والأطراف الصناعية بمجرد التفكير.

وفق منشور لإيلون ماسك في أغسطس/آب عام 2024: "إذا سار كل شيء على ما يرام، فسوف يصل عدد الأشخاص الذين يحملون زرعات نيورالينك إلى المئات في غضون بضعة أعوام، وربما العشرات من الآلاف في غضون 5 أعوام، والملايين في غضون 10 أعوام".

توضع شريحة نيورالينك التي تُسمَّى "تيليباثي"، داخل جمجمة المريض عبر روبوت جراحياً. يزيل الروبوت جزءاً صغيراً من الجمجمة ويربط الأقطاب الكهربائية الشبيهة بالخيط بمناطق معينة من الدماغ، ثم يخيط الثقب. البقايا الوحيدة المرئية هي ندبة خلفها الشق. تستطيع الأقطاب الكهربائية الموجودة في شريحة نيورالينك التي تُشحن لا سلكياً، قراءة إشارات الخلايا العصبية في الدماغ البشري، ومن ثَمَّ تُترجم إلى أوامر تحكم (مثل تحريك مؤشر أو كتابة نص).

هناك أيضاً شركات منافسة مثل سينكرون (Synchron) وبلاك روك نوروتك (Blackrock Neurotech) تعمل على زرعات دماغية بطرق أقل توغلاً جراحياً. هذه السباقات التقنية جعلت عدد التجارب السريرية في مجال الواجهات الدماغية الحاسوبية يصل إلى نحو 25 تجربة حول العالم، تركّز معظمها على التطبيقات الطبية مثل علاج الإصابات العصبية والشلل والتواصل لمرضى الأمراض المستعصية.

 

  • الأطراف الذكية والأطراف الصناعية المتصلة عصبياً: في ميدان الطب، شهدت الأطراف الصناعية قفزات نوعية بفضل الدمج بين الهندسة العصبية والروبوتيات. صُمِّمت أذرع وأرجل اصطناعية يمكن ربطها بالجهاز العصبي للمريض بحيث يتم التحكم فيها عبر الإشارات الدماغية مباشرة، وحتى استعادة بعض الإحساس. في تجربة حديثة عام 2024، تمكن مرضى بتر من التحكم في أرجل اصطناعية والمشي بشكلٍ طبيعي نسبياً بفضل زرع أجهزة تعيد ربط الإشارات بين الدماغ والحبل الشوكي. وفي دراسة نشرتها مجلة نيتشر ميدسين، استُخدِمت تقنية "إعادة بناء العضلات" في موقع البتر كجزء من الطرف الصناعي، ما أعطى المستخدم شعوراً أفضل بوضعية الطرف الصناعي وقدرة تحكم دقيقة. كذلك، طوّرت فِرق بحثية أخرى أيادي صناعية تستطيع نقل إحساس اللمس للمستخدم عبر إشارات كهربائية تحفّز الأعصاب المتبقية في الذراع، ما يجعل التجربة أقرب إلى استخدام الطرف الطبيعي. الهدف النهائي من هذه التطويرات هو الوصول إلى مستوى تصبح فيه الحدود بين الطرف الحيوي والطرف الإلكتروني غير ملحوظة تقريباً، مؤذنةً بعصر "البشر المعززين" تكنولوجياً. 
  • الأجهزة القابلة للارتداء المتصلة عصبياً: بالإضافة إلى الغرسات، هناك أجهزة تُلبس على الجسم وتلتقط إشارات الأعصاب أو الدماغ دون جراحة. مثال على ذلك واجهة المعصم العصبية التي طوّرتها شركة ميتا (Meta)، وهي عبارة عن سوار يلتف حول المعصم يستخدم تقنية التخطيط العضلي الكهربائي (EMG) لقراءة الإشارات العصبية من عضلات اليد. هذه الإشارات يمكن ترجمتها إلى أوامر للتحكم في واجهات الواقع المعزز دون الحاجة إلى لمس شاشة أو ارتداء قفازات خاصة. الهدف هو توفير طريقة طبيعية للتفاعل مع العالم الرقمي دون فصل انتباه المستخدم عن محيطه، ما يخلق انسجاماً أكبر بين الإنسان والتكنولوجيا في الحياة اليومية.

اقرأ أيضاً: تعرّف إلى مولدات الطاقة النانوية التي ستلغي البطاريات من الأجهزة القابلة للارتداء

فوائد اعتماد هذه التكنولوجيا

التفاؤل المحيط بالتكنولوجيا القابلة للارتداء والزرعات البشرية ينبع من الفوائد العظيمة المحتملة، خاصة في المجالات الطبية وتحسين جودة الحياة:

  • تعزيز القدرات الطبية وإعادة التأهيل: ربما تكون التطبيقات الطبية الأوضح والأكثر نفعاً، إذ يمكن للغرسات العصبية مساعدة مرضى الشلل على استعادة الحركة، ومساعدة مرضى التصلب الجانبي الضموري (ALS) على التواصل بشكلٍ أفضل، كما يمكن للأطراف الذكية أن تحسّن حياة مبتوري الأطراف بشكلٍ جذري عبر توفير تحكم حركي دقيق وردود فعل حسية.
  • انسيابية وراحة أكبر في الحياة اليومية: الحوسبة المدمجة (مثل العدسات والنظارات الذكية) يمكن أن تجعل الوصول للمعلومات أكثر سهولة. فبدلاً من الانشغال المستمر بالهواتف الذكية، يمكن لعرض المعلومات مباشرة في مجال الرؤية أن يُتيح للناس التفاعل مع التكنولوجيا دون تعطيل تواصلهم مع العالم الواقعي. هذا يعني إرشادات ملاحة أمام عينيك دون النظر للأسفل أو معلومات عن الأشخاص الذين تقابلهم (في حال شاركوا بياناتهم) دون الحاجة للسؤال، أو حتى ترجمة فورية لما يقوله شخص أجنبي مباشرة عبر نصوص أمام عينيك أو سماعات في أذنيك.
  • دعم المهارات والقدرات البشرية: الغرسات والتقنيات المتقدمة قد تمنح الأشخاص مهارات إضافية أو تحسّن كفاءتهم. على سبيل المثال، يمكن لشريحة دماغية مساعدة الشخص السليم على التفاعل بسرعة أكبر مع الكمبيوتر، ما قد يحسّن الإنتاجية في بعض المهن. والأطراف المعززة قد تمنح مرتديها قوة أكبر أو تحملاً أطول (كما الحال في الهياكل الخارجية الروبوتية التي تساعد العمال على رفع الأثقال بسهولة). وحتى تقنيات التحفيز العصبي يمكن أن تساعد على تعديل المزاج أو تحسين التركيز لدى الأصحاء يوماً ما.
  • فوائد صناعية وعسكرية: في البيئات المهنية الصعبة (مثل المصانع أو ساحات القتال)، يمكن للتقنيات القابلة للارتداء أن توفّر ميزات مهمة. على سبيل المثال، يمكن لنظارات الواقع المعزز أن توفّر تعليمات فورية للعمال أو الجنود على أرض الواقع. ويمكن للهياكل الخارجية أن تحمي من الإصابات وتزيد الفاعلية البدنية. حتى الغرسات الدماغية، فهناك بحوث حول إمكان استخدامها لتعزيز قدرات الجنود مثل التواصل العقلي أو التحكم بطائرات مسيّرة عبر التفكير، على الرغم من أنها لا تزال ضمن نطاق التجارب ومحل جدل.

مخاطر وتحديات محتملة

رغم الفوائد الواعدة، تحمل هذه التقنيات مخاطر وتحديات معقدة على المستوى الفردي والمجتمعي، تتطلب دراسة متأنية:

  • الخصوصية والبيانات الحساسة: عندما تصبح التكنولوجيا جزءاً من جسدنا وعقلنا، فإنها ستجمع بلا شك بيانات بالغة الخصوصية. فقد تسجّل الشرائح العصبية أنماط نشاط الدماغ، وهذه معلومات قد تكشف عن أفكار أو حالات عاطفية للمستخدم. حتى الأجهزة القابلة للارتداء الأبسط تجمع بيانات صحية دقيقة على مدار الساعة. هذا يُثير السؤال: مَن يمتلك حق الوصول إلى هذه البيانات؟ وكيف يمكن حمايتها؟ تخيّل عدسة ذكية تسجّل ما تراه كلّه وترسله سحابياً! سيكون ذلك كنزاً للمعلنين وربما للجهات الحكومية إن لم تكن هناك تشريعات صارمة. 
  • الأمان والأثر الصحي: كلما تعمقنا في دمج الأجهزة بالجسد، تزداد مخاطر السلامة. الزرعات الدماغية مثلاً تتطلب عمليات جراحية دقيقة في الدماغ، مصحوبة باحتمال العدوى أو النزيف أو تلف الأنسجة العصبية. وعلى المدى الطويل، قد تحدث تفاعلات مناعية أو تدهور في فاعلية الأجهزة. الدراسات تؤكد ضرورة تصميم هذه الأجهزة مع مراعاة قصوى للأمان والاعتمادية قبل طرحها، كما أن توقف التجارب أو فشل الجهاز المزروع يضع المريض في موقف صعب، إذ لا يمكن ببساطة "نزع" الغرسة دون عواقب. حتى الأجهزة الخارجية مثل السوار العصبي قد تواجه أسئلة حول السلامة الإشعاعية أو الاختراق الأمني، فماذا لو تمكن مخترق من اعتراض أوامر عصبية أو إرسال أوامر مزيفة؟ هذا يمثّل نوعاً جديداً من المخاطر الأمنية الشخصية. 
  • الأخلاقيات والهوية البشرية: إن تحسين قدرات البشر الأصحاء عبر التكنولوجيا يفتح باباً لنقاش أخلاقي واسع. هناك من يرى في ذلك تعدياً على طبيعة الإنسان أو خطراً بتحويل البشر إلى منتجات تقنية. تشمل المخاوف فكرة أن يصبح هناك "إنسان خارق" معزّز تقنياً في مقابل إنسان عادي، ما يخلق فجوة طبقية جديدة مبنية على القدرة على شراء التحسينات. ماذا لو تمكن الأغنياء من شراء ذاكرة أفضل أو قدرة جسدية أعلى عبر غرسة ما، في حين بقي الآخرون متخلفين؟ سيكون هناك تحدٍّ لضمان العدالة وتكافؤ الفرص في مجتمع "ما بعد الإنسان" إن صح التعبير. 
  • التقبل المجتمعي والنفسي: حتى لو تجاوزنا العقبات التقنية، يبقى السؤال: هل المجتمع مستعد لهذا الامتزاج؟ تشير استطلاعات رأي حديثة إلى تردد واضح. فمثلاً، وجدت دراسة لمركز أبحاث بيو (Pew Research) عام 2022، أن 56% من البالغين الأميركيين يرون أن انتشار زرع الرقاقات في الدماغ لتعزيز القدرات العقلية سيكون أمراً سيئاً للمجتمع، مقابل 13% فقط رحبوا بالفكرة، كما أن 78% منهم قالوا إنهم لا يرغبون شخصياً في زرع شريحة لتحسين قدرتهم على معالجة المعلومات. تظهر هذه الأرقام حذراً ومخاوف ربما متعلقة بفقدان الخصوصية أو تغيير هوية الإنسان كما نعرفها. 

نحو مستقبل هجين بين الإنسان والآلة

إن التكنولوجيا القابلة للارتداء والغرسات الحيوية تدفعنا بخطى متسارعة نحو واقع لم يكن حتى الأمس القريب سوى خيالٍ في روايات الخيال العلمي. لقد بدأنا بالفعل نرى ملامح مجتمع "سايبورغي" ناشئ: مرضى يتحكمون بأجهزة بحاسة التفكير، عدسات تعيد تعريف كيفية رؤيتنا للعالم، وأطراف صناعية تعيد الإحساس والحركة لمبتوري الأطراف. فوائد هذه التقنيات جمة، فهي تبشّر بتخفيف معاناة المرضى ودفع قدرات البشر إلى آفاقٍ جديدة. وفي الوقت نفسه، تصاحبها تحديات جسيمة تتعلق بالخصوصية والأخلاقيات وتكافؤ الفرص وحتى فهمنا لذاتنا البشرية.

قد يكون القول إننا سنصبح "سايبورغ" بالكامل مبالغة آنية، لكن لا شك في أننا نمضي نحو حالة يمتزج فيها ما هو بيولوجي بما هو تقني على نحو وثيق وغير قابل للفصل بسهولة. ربما نصل إلى مرحلة يصبح فيها ارتداء جهاز تقني أو امتلاك زرعة إلكترونية أمراً عادياً وطبيعياً مثل ارتداء الملابس أو استخدام النظارات اليوم. حينها، قد نواجه سؤالاً عكسياً: هل مَن لا يرغب في هذه التقنيات سيعتبر "إنسانأً ناقصاً"؟

الخلاصة هي أن مستقبل البشرية يبدو متجهاً إلى صيغة هجينة، حيث لن يكون التمييز بين الإنسان والآلة واضحاً كما كان. يبقى على المجتمعات العلمية وصانعي السياسات والناس عموماً أن يوازنوا بين الحماس لهذه القدرات الجديدة والحذر مما تحمله من مخاطر. ومع كل قفزة تقنية، ستظل هناك أسئلة مفتوحة: إلى أي حد سنسمح للآلة بالدخول في أجسادنا وعقولنا؟ وكيف سنحافظ على جوهر إنسانيتنا في خضم هذا التحول.

المحتوى محمي