مؤخراً، أطلقت شركتا موديرنا (Moderna) وميرك (Merck) تجربة سريرية كبيرة في المملكة المتحدة لعلاج جديد وواعد للسرطان، وهو لقاح شخصي يستهدف مجموعة محددة من الطفرات الموجودة في الورم لدى كل فرد على حدة. وتستقطب هذه الدراسة المرضى المصابين بالورم الميلانيني، أو سرطان الخلايا الصبغية. لكن الشركتين أطلقتا أيضاً المرحلة الثالثة من التجربة السريرية المخصصة لسرطان الرئة. ومنذ فترة وجيزة، أعلنت شركتا بايو إن تيك (BioNTech) وجينينتيك (Genentech) عن نتائج واعدة حققها لقاح شخصي تعاونتا على تطويره لعلاج سرطان البنكرياس، والذي لا تنجو منه سوى نسبة صغيرة من المصابين به.
اقرأ أيضاً: علماء يطوّرون أداة ذكاء اصطناعي لتحديد العلاج الأمثل لمرضى السرطان
عقود من تصميم اللقاحات
كان مطورو الأدوية يعملون على مدى عقود كاملة على تصميم لقاحات تساعد الجهاز المناعي للجسم على مكافحة السرطان، دون تحقيق نجاح يُذكر. لكن النتائج الواعدة التي توصلوا إليها العام الماضي تشير إلى أن هذه الاستراتيجية وصلت على ما يبدو إلى نقطة تحوّل. هل ستفي هذه العلاجات بوعودها أخيراً؟
كانت الشركات تعمل على تطوير اللقاحات التي تعتمد على الحمض النووي الريبوزيي المرسال (mRNA) قبل أن تلجأ إليه لمكافحة كوفيد بفترة طويلة. فقد طرحت بايو إن تيك أول لقاحاتها التي تعتمد على الحمض النووي الريبوزي المرسال للمصابين بسرطان الخلايا الصبغية المقاوم للعلاج منذ عقد من الزمن تقريباً. لكن، عندما ضربتنا الجائحة، دخل تطوير لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال مرحلة العمل السريع والمحموم. حالياً، تجري الشركات العشرات من التجارب السريرية لاختبار قدرة هذه اللقاحات على إحداث تحول في مواجهة السرطان، على غرار ما أحدثته في مواجهة كوفيد. وقد دفعت الأخبار الجديدة ببعض الخبراء إلى التفاؤل الحذر.
ففي ديسمبر/كانون الأول، أعلنت شركتا ميرك وموديرنا عن نتائج تجربة سريرية سابقة شملت 150 مصاباً بسرطان الخلايا الصبغية ممن خضعوا لعمل جراحي لاستئصال السرطان. في هذه التجربة، قدم الأطباء تسع جرعات من اللقاح إلى المرضى على مدى ستة أشهر تقريباً، إضافة إلى ما يُعرف باسم "مثبط نقاط التفتيش المناعية" ( immune checkpoint inhibitor). بعد متابعة دامت ثلاثة أعوام، أدت هذه التركيبة من العلاجات إلى تخفيض خطر عودة السرطان أو الوفاة بنسبة 50% تقريباً، وذلك بالمقارنة مع حالة استخدام مثبط نقاط التفتيش المناعية فقط.
انطلاقة جديدة للقاحات السرطان
وتمثل النتائج الجديدة، التي نشرتها بايو إن تيك وجينينتيك، بعد إجراء تجربة سريرية صغيرة على 16 مريضاً من المصابين بسرطان البنكرياس، مصدراً مماثلاً للحماس والتفاؤل. فبعد إجراء عملية جراحية لاستئصال السرطان، تلقى المرضى العلاج المناعي، متبوعاً بلقاح مضاد للسرطان وجولة من العلاج الكيميائي التقليدي. استجاب نصفهم للقاح، وبعد 3 أعوام من العلاج، لم تتكرر الإصابة بالسرطان لدى 6 من هؤلاء المرضى. وقد تعرض الاثنان الآخران للانتكاس. ومن بين المشاركين الثمانية الذين لم يستجيبوا للقاح، تعرض 7 منهم للانتكاس.
من المحتمل أن عدم استجابة بعض هؤلاء المرضى يعود إلى عدم وجود طحال لديهم، حيث يتولى دوراً مهماً في الجهاز المناعي؛ فقد أُزيل هذا العضو في إطار عملية علاج السرطان. يأمل الباحثون في أن تساعد هذه الاستراتيجية على مواجهة العديد من أنواع السرطان المختلفة. فإضافة إلى سرطان البنكرياس، تعمل بايو إن تيك على اختبار لقاحها الشخصي على سرطان القولون والمستقيم، وسرطان الخلايا الصبغية، والسرطان النقيلي.
اقرأ أيضاً: أمل جديد للكشف المبكر عن سرطان البنكرياس بمساعدة الذكاء الاصطناعي
يهدف لقاح السرطان إلى تدريب الجهاز المناعي على التعرف على الخلايا الخبيثة بصورة أفضل لتدميرها. يتمتع الجهاز المناعي بالقدرة على تدمير الخلايا السرطانية إذا تمكن من العثور عليها؛ لكن الأورام تتسم بقدرة عالية على التملص منه. حيث يمكنها الاختباء على مرأى من الجهاز المناعي، وتعتمد على مختلف أنواع الحيل من أجل تفادي أنظمته الدفاعية؛ علاوة على أن الخلايا السرطانية غالباً ما تبدو شبيهة بخلايا الجسم نفسها لأنها، في الواقع، تنتمي إلى الجسم فعلياً. لكن ثمة بعض الاختلافات بين الخلايا السرطانية والخلايا السليمة. فالخلايا السرطانية تكتسب طفرات تساعدها على النمو والبقاء على قيد الحياة، بالإضافة إلى أن بعض هذه الطفرات تؤدي إلى ظهور بروتينات تستقر على سطح الخلية، وهي تعرف باسم "المستضدات المستحدثة" (neoantigens).
لقاحات شخصية
إن لقاحات السرطان الشخصية، على غرار تلك التي تطورها موديرنا وبايو إن تيك، مصممة على وجه الخصوص لتواجه السرطان الموجود لدى كل مريض على حدة. حيث يأخذ الباحثون قطعة من الورم من جسم المريض، إضافة إلى عينة من الخلايا السليمة. بعد ذلك، يدرس الباحثون تسلسل الحمض النووي في العينتين، ويقارنون فيما بينهما من أجل تحديد الطفرات الخاصة بهذا الورم. تُلَقم هذه الطفرات بعد ذلك إلى خوارزمية ذكاء اصطناعي تختار الطفرات التي من المرجح أن تثير استجابة الجهاز المناعي.
تشكل هذه المستضدات المستحدثة ما يشبه الأوصاف التقريبية للمجرمين لدى قسم الشرطة، وهي صورة تقريبية تساعد الجهاز المناعي في التعرف على الخلايا السرطانية. في مقابلة تعود إلى عام 2022، قال مدير مركز لقاحات السرطان الشخصية في معهد دانا فاربر للسرطان (Dana-Farber Cancer Institute)، باتريك أوت: "يحفز الكثير من العلاجات المناعية استجابة الجهاز المناعي بطريقة غير محدد، أي أنها لا تكون موجهة مباشرة ضد السرطان. أما لقاحات السرطان الشخصية فتستطيع توجيه الاستجابة المناعية نحو المواضع المطلوبة بالضبط".
ما عدد المستضدات المستحدثة المطلوبة لبناء تلك الصورة التقريبية؟
تقول نائبة رئيس قسم العلاجات الإفرادية بالمستضدات المستحدثة في موديرنا، ميشيل براون: "لا نعرف بالضبط ما هو العدد المثالي". يتضمن علاج موديرنا 34 مستضداً مستحدثاً. تضيف براون قائلة: "تؤول المسألة في نهاية المطاف إلى ما يمكننا وضعه على شريط الحمض النووي الريبوزي المرسال، بحيث يمنحنا عدة فرص لضمان تحفيز الجهاز المناعي بالطريقة المثلى". تعتمد بايو إن تيك على 20 مستضداً مستحدثاً. توضع المستضدات المستحدثة على شريط الحمض النووي الريبوزي المرسال وتُحقن في المريض. بعد ذلك، تمتصها الخلايا وتترجمها إلى بروتينات، وتتمثل هذه البروتينات على سطح الخلية، ما يؤدي إلى تحفيز استجابة الجهاز المناعي.
غير أن الحمض النووي الريبوزي المرسال ليس الوسيلة الوحيدة لتعليم الجهاز المناعي كيفية التعرف على المستضدات المستحدثة. حيث يعمل الباحثون أيضاً على توصيل المستضدات المستحدثة على شكل حمض نووي أو ببتيدات، أو عبر الخلايا المناعية أو النواقل الفيروسية. أيضاً، تعمل شركات عديدة على لقاحات غير شخصية مضادة للسرطان "جاهزة للاستخدام"، وذلك لتوفير الوقت والتكاليف.
اقرأ أيضاً: دواء مبتكر بمساعدة الذكاء الاصطناعي لعلاج التهابات الأمعاء المستعصية
أجريت 400 تجربة سريرية ما زالت متواصلة حتى الآن منذ الخريف الماضي من أجل تقييم لقاحات السرطان، وقد تضمنت 50 تجربة تقريباً لقاحات شخصية. لكن لا توجد حتى الآن أي ضمانة حول نتائج أي من هذه الاستراتيجيات. فحتى لو حققت النجاح، فإن النجاح في علاج نوع واحد من السرطان لا يقتضي تلقائياً تحقيق النجاح في علاج جميع أنواع السرطان. وقد حققت علاجات عديدة للسرطان نتائج واعدة للغاية في البداية؛ غير أن المطاف انتهى بها إلى الإخفاق عند الانتقال إلى تجارب سريرية كبيرة.
لكن موجة الاهتمام والنشاط المتجددة بشأن لقاحات السرطان أمر مشجع. وقد تتمكن اللقاحات الشخصية من تحقيق النجاح حيث فشلت علاجات أخرى. تقول براون إن هذه الاستراتيجية منطقية بالنسبة إلى "الكثير من أنواع الأورام المختلفة والكثير من البيئات المختلفة. ونحن نعقد على هذه التكنولوجيا الكثير من الآمال والطموحات".