في منتصف ليل كل يوم أحد بتوقيت المملكة المتحدة، يُنشئ "بوت ويكيبيديا" الذي يُطلق عليه اسم "رون بوت 11#" أحدث نسخة من قائمة المدخلات الجديدة. وقد تضمنت المدخلات السابقة أدلايد هاملتون، وهي حفيدة ألكسندر هاملتون الأخيرة، وأنشال مالهوترا، وهي مؤلفة هندية معروفة بعملها في مجال التاريخ الشفوي، وكيم جوي هيوليت، وهي المتأهلة لنهائي المسابقة التلفزيونية "ذا غريت بريتيش بيك أوف" (The Great British Bake Off)، ولكن كيف تشكلت الفجوة بين الجنسين على موقع ويكيبيديا؟
تشمل القائمة الديناميكية اسم 800 امرأة واللواتي رُفضت مسودة الصفحات الخاصة بهن على موقع "ويكيبيديا" مؤخراً لأنها لا تتماشى مع سياسة النسخة الإنجليزية للموسوعة الخاصة بالمقالات. بمعنى آخر، استناداً إلى المصادر المقدمة، اعتُبرت تلك النساء أنهنّ على درجة غير كافية من الأهمية ليحظين بصفحة على موقع "ويكيبيديا".
معيار الشهرة في موقع "ويكيبيديا"
يلتزم موقع "ويكيبيديا" بمفهوم الموسوعة الذي يمثّل خلاصة معرفية مكتوبة حول معلومات مهمة تتعلق بإنجازات البشر، أي أن الموقع ليس دليلاً أو منبراً أو صحيفة لنشر المقالات الخاصة أو أي شيء آخر، وقد تعهد الموقع بألا يكون كذلك. وعلى هذا الأساس، يمكن فقط للمواضيع التي ترتقي إلى مستوى معين من "الشهرة" أو الأهمية أن يكون لها حيّز على موقع "ويكيبيديا". إنها سياسة منطقية ولكن يصعب تطبيقها عملياً. بالرجوع إلى عام 2007، وعندما وثّق تيموثي نوح، (وهو كاتب على موقع "سليت" Slate) زوال صفحته على "موقع ويكيبيديا" وإنقاذها في النهاية، تبيّن أن مجرد الكتابة عن الأمر في الصحافة ساعده على تلبية معيار الشهرة.
الآن، وبعد انتهاء "شهر تاريخ المرأة" (Women’s History Month)، يجدر النظر فيما إذا كان التطبيق الصارم لمعيار الشهرة الخاص بموقع "ويكيبيديا" يسهم في توسيع الفجوة المعروفة بين الجنسين في هذه الموسوعة.
يتطلب معيار الشهرة العامة للنسخة الإنجليزية لموقع "ويكيبيديا" أن يكون الموضوع قد "حصل على تغطية كبيرة من قبل مصادر موثوقة مستقلة عن الموضوع"، ويعمل محررو مقالات ويكيبيديا المتمرسون على تقييم المدخلات بالاستعانة بذلك المعيار بحرفيته. كانت المشكلة المذكورة فيما يتعلق بصفحة أدلايد هاملتون على سبيل المثال هي التغطية "الكبيرة"، إذ أشار المحرر الذي رفض المقالة إلى أن سجلات سلسلة الأنساب الخاصة بأدلايد لم تكن تحظى بتغطية مهمة لأنها كانت تشمل فقط على بيانات معلوماتية مثل تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة. وعندما حُذفت مسودة صفحة أنشال مالهوترا، كانت المشكلة هي الاستقلالية، إذ إن العديد من مصادر صفحتها المقترحة على موقع "ويكيبيديا" كتبهتا مالهوترا بنفسها.
لكن لا تبدو جميع حالات حذف المقالات منطقية، وقد استرعى التحيز القائم على النوع الاجتماعي على موقع "ويكيبيديا" اهتمام وسائل الإعلام في عام 2018 عندما حازت دونا ستريكلاند على جائزة نوبل في الفيزياء، وفي وقت منحها الجائزة، لم يكن لديها صفحة على موقع "ويكيبيديا". لم تكن المشكلة في عدم المحاولة، إذ قبل حصولها على الجائزة، حاول أحد المساهمين على الموقع إنشاء صفحة خاصة بستريكلاند، لكن محرراً آخر رفض المقالة لأن ستريكلاند لم تكن قد حصلت بعد على تغطية إعلامية كبيرة من قبل منشورات موثوقة مثل الصحف الكبرى. عند إعادة التفكير بما حدث، يبدو ذلك وكأنه قرار سيئ، إذ كانت ستريكلاند تعتبر رائدة في مجال عملها حتى قبل فوزها بجائزة نوبل.
تواصلت مع روزي ستيفنسون جودنايت لمناقشة التداخل بين سياسة موقع "ويكيبيديا" المتعلقة بالشهرة و"شهر تاريخ المرأة"، والجدير بالذكر أن ستيفنسون جودنايت هي الشريك المؤسس لمشروع "ومين إن ريد" (Women in Red) الذي يعود تاريخه إلى عام 2015 والذي يعالج واقع أنّ السير الذاتية للنساء على نسخة ويكيبيديا الإنجليزية تصل نسبتها فقط إلى حوالي 15%، وقد ارتفعت تلك النسبة اليوم إلى 17.76%. وصفت ستيفنسون جودنايت سياسة النسخة الإنجليزية لموقع "ويكيبيديا" الخاصة بموضوع الشهرة أنه "موضوع شائك". وقد كشف تقرير المساواة بين الجنسين لعام 2018، والذي ساهمت ستيفنسون جودنايت في تيسيره نيابة عن "مؤسسة ويكيميديا" (Wikimedia Foundation) أنّ "النظرة المتصلبة" لسياسة الشهرة كانت عائقاً أمام زيادة مشاركة المرأة.
وفقاً لستيفنسون جودنايت، فإن سياسة الشهرة تلك تشكل عقبات ليس فقط أمام النساء المعاصرات مثل ستريكلاند، ولكن أيضاً بالنسبة إلى سابقاتها في التاريخ، وتشير إلى أن معيار الشهرة العامة لموقع "ويكيبيديا" يتطلب "تغطية إعلامية كبيرة" من قبل "مصادر موثوقة" (وليس مصدراً واحداً). لكن كما أشار تقرير المساواة بين الجنسين فإن "أحد أكبر التحديات هو جعل الناس يتفهمون كيف كان يتم ذكر إنجازات النساء (أي في حدها الأدنى) في الماضي. يعتقد بعض الأشخاص الذين يرشحون مقالة ما للحذف أن المرأة التي عاشت في القرن الثامن عشر بحاجة إلى مراجع متعددة لإظهار شهرتها". عندما تتوفر المصادر، فغالباً ما تكون المراجع التاريخية قصيرة ومدمجة بإنجازات زوج تلك المرأة، وبالنسبة إلى شخص معاصر ليس لديه معرفة تاريخية كافية، قد تبدو هذه المراجع غير مهمة.
حتى في الحالات التي تبدو فيها أن امرأة ما مشهورة لشخصها ولكنها عاشت في الزمن الماضي، يمكن للمحررين على موقع "ويكيبيديا" أن يواجهون تحدياً يتمثل فيما إذا كان ينبغي أن يكون لها مقالة. خذ مثالاً على ذلك "مارغريت فوستر" (1895-1970)، الكيميائية الأميركية التي عملت في "وكالة المسح الجيولوجي الأميركي" و"مشروع مانهاتن"، وكلاهما مبادرتان مرموقتان تتمتعان بشهرة واضحة. لكن ذلك لم يمنع المحرر في عام 2017 من وضع علامة على صفحة فوستر بسبب مخاوف تتعلق بالشهرة وتعرضها إلى إمكانية الحذف. من المحتمل أن المحرر قد شعر أن صفحة فوستر لا تحتوي على عدد كاف من المصادر الداعمة؛ إذ إن هنالك ثلاثة مراجع فقط في ذلك الوقت وفي النسخة الحالية، وأحدها عبارة عن فقرة واحدة ضمن كتاب تدريسي. ولكن مجدداً، يَظهر أن عدد المصادر المحدود هو نتاج الظروف التاريخية وليس فشل "فوستر" في تقديم مساهمات جديرة بالذكر. وأحد تلك المراجع أيضاً هو مذكرة عن حياة فوستر تعود إلى عام 1971 منشورة في صحيفة "أميريكان ماينرولوجيست" (American Minerologist)، وهي مذكرة مفصلة للغاية ومتداولة على نحو مثير للدهشة.
كانت فوستر متخصصة في ما نطلق عليه اليوم "مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات" (STEM)، لكن النظير المعاصر للنساء الأخريات في الزمن الماضي أقل وضوحاً. يوجد حالياً 174 مدخلاً ضمن تصنيف "منتدى النساء" (clubwomen)، وهنّ مشاركات في حركة منتدى النساء في الولايات المتحدة من تسعينيات القرن التاسع عشر إلى عشرينيات القرن الماضي. خلال العصر التقدمي، كانت المرأة الناشطة هي الطريقة الوحيدة المتاحة لتكون على درجة من الشهرة. غالباً ما كانت النساء الأكثر تأثيراً في ذلك الوقت هنّ داعمات حق المرأة في التصويت أو ناشطات في الجمعيات الخيرية للأطفال أو داعمات لحظر العنف المنزلي. لكن مقالات موقع "ويكيبيديا" عن تلك النساء معرضة بدرجة كبيرة لما يشار إليه باسم "اقتراح الحذف" الناتج عن الحجة القائلة أنّ تلك النساء تفتقرن إلى الشهرة بسبب الافتقار إلى مصادر موثوقة. على سبيل المثال، كان الحذف السريع هو النتيجة الوشيكة لصفحة فاني بيكر أميس (1840-1931)، وهي صاحبة أعمال خيرية وناشطة في مجال حقوق المرأة، لكن اجتماع محررين آخرين لإضافة المزيد من المحتوى قد أنقذ مقالتها.
عندما انتشرت في العام الماضي قصة عدم توفر صفحة خاصة بدونا ستريكلاند على موقع "ويكيبيديا"، شجعت المديرة التنفيذية لمؤسسة "ويكيميديا" كاثرين ماهر الصحفيين على توفير المزيد من التغطية الإعلامية للنساء حتى يتمكن المحررون المتطوعون على موقع "ويكيبيديا" من استيراد تلك المعلومات إلى الموقع. ولكن عندما يتعلق الأمر بشخصيات تاريخية، فإنه لا يمكننا العودة إلى الماضي وتغيير المواد المرجعية لتوليد المزيد من التغطية الإعلامية.
لذلك، هل ينبغي علينا التخلي بالكامل عن معيار الشهرة؟ الإجابة هي "لا"، فإذا كان لدى الجميع (ومن دون معايير) صفحة على موقع "ويكيبيديا"، سيكون من الصعب الحفاظ على جودة المعلومات على المدى الطويل.
حل مشكلة معيار الشهرة في موقع "ويكيبيديا"
هناك نهج أكثر منطقية يتمثل في تكييف معيار الشهرة ليناسب الظروف التاريخية. على سبيل المثال، إذا كان هناك امرأة عاشت في الزمن الماضي ولا نمتلك العديد من المصادر الثانوية المتعمقة عنها، فربما يمكن إضافة ذلك الموضوع إلى الموسوعة استناداً إلى عناصر أخرى مثل جودة مصدر واحد للمعلومات أو التأثير القوي الذي امتلكته على الآخرين.
سيتطلب تعديل صياغة معيار الشهرة الخاص بموقع "ويكيبيديا" طلباً رسمياً للتعقيب ودرجة عالية من التوافق من قبل أعضاء مجتمع محرري موقع "ويكيبيديا" لدعم الاقتراح. أخبرني أحد أعضاء مجتمع ويكيبيديا أن تغيير معيار الشهرة هو نتيجة مستبعدة، إذ يفضل المجتمع عادة الاتساق والثبات في معايير محتوى الموقع. ولكن عوضاً عن تغيير المعيار نفسه، يمكن لأعضاء مجتمع ويكيبيديا اختيار تفسير المعيار وفقاً للسياق. بمرور الوقت، طوّر المجتمع أفضل الأساليب لتقييم الشهرة لمختلف أنواع السير الذاتية، مثل تلك الخاصة بالسياسيين والشخصيات الرياضية. لكن لن يكون لنشر مثل تلك الأساليب الجديدة المثلى للشخصيات التاريخية مثل هذا التغيير الجوهري لأنه سيكون متماشياً مع العرف القائم على تطبيق المعيار بناء على حالة الموضوع.
ما يثير اهتمامي حول معيار الشهرة القابل للتكيف هو كيفية تقاطعه مع مفاهيم النظام القضائي. إذ إن القضاة الذين يصدرون أحكاماً على المدعى عليهم في قضايا جنائية، غالباً ما يأخذون بالاعتبار العوامل المشددة والمخففة للعقوبة، فإذا كان لدى المدعى عليه سجل سابق متعلق بجرائم سابقة أو استغل ضحية ضعيفة، قد يؤدي ذلك إلى عقوبة أكثر جسامة. أما المدعى عليه الذي يُظهر شعوره بالندم أو الذي ليس لديه سجل سابق قد تكون عقوبته مخففة. الفكرة العامة هي أنه ينبغي على القضاة النظر في ظروف المدعى عليه وتطبيق القانون وفقاً لذلك.
إن حذف صفحة خاصة بشخص ما على موقع "ويكيبيديا" ليس له تلك المخاطر نفسها المتعلقة بالحياة أو الموت كعقوبة جنائية، لكنه ينطوي على مفاهيم مماثلة للعدالة قد تكون متعلقة بالفجوة بين الجنسين على موقع "ويكيبيديا"، بالإضافة إلى أنّ جلسة محكمة المعرفة دائماً منعقدة، وذلك خلافاً للمحكمة القضائية.
اقرأ أيضاً: