كيف يعزّز البلوك تشين كفاءة التحول الرقمي في الصناعات الغذائية؟

4 دقيقة
كيف يعزّز البلوك تشين كفاءة التحول الرقمي في الصناعات الغذائية؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/Kapustin Igor

في عصرنا الحديث، حيث تتسارع التغيرات التكنولوجية، تواجه صناعة الأغذية والمشروبات نقطة تحول مهمة تتطلب إعادة النظر في الأساليب التقليدية التي كانت تُعتمد في الإنتاج والإدارة. يتزايد وعي المستهلكين بشكلٍ مستمر، ويبحثون عن خيارات غذائية صحية ومستدامة، وهو ما يعكس تزايد الضغط على الشركات لمواكبة هذه التحولات. في الوقت نفسه، كما أن تشديد اللوائح التنظيمية والتحديات المستمرة في سلاسل التوريد يجعل استخدام أساليب تقليدية أمراً غير كافٍ لتحقيق النجاح في السوق.

في هذه البيئة الديناميكية، يظهر التحول الرقمي أداةً محوريةً لضمان استمرارية الأعمال والتميز في السوق. 

لم يعد من الممكن النظر إلى التكنولوجيا على أنها خيار إضافي، بل أصبح اعتمادها ضرورة استراتيجية؛ تُغيّر شكل القطاع بشكلٍ جذري. فمع الأدوات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء، يمكن تحسين الكفاءة التشغيلية وتعزيز سلامة المنتجات وزيادة التنافسية في السوق.

اقرأ أيضاً: البلوك تشين في الخدمات اللوجستية بين الواقع والمبالغة

لماذا يُعدُّ التحول الرقمي التحول المحوري في الوقت الحالي؟

أحد الجوانب الأساسية للتحول الرقمي هو القدرة على تحليل البيانات بسرعة واتخاذ القرارات بشكلٍ فوري. في هذا العصر الذي يعتمد على البيانات الضخمة، أصبح من غير الممكن الاعتماد على الأساليب التقليدية في جمع المعلومات وتحليلها. وتُتيح تقنيات مثل إنترنت الأشياء (IoT) وتخطيط موارد المؤسسات (ERP) تكاملاً غير مسبوق بين المستشعرات الذكية والأجهزة التشغيلية. هذا التكامل يوفّر بيانات دقيقة وفورية حول جودة المنتجات والإنتاجية، ما يعزّز قدرة الشركات على اتخاذ قرارات مبنية على بيانات حقيقية في الوقت الحقيقي. الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تحسين كفاءة العمليات التشغيلية وتقليل المخاطر.

هل يمكننا الوثوق بما نأكله؟

من أبرز التحديات التي تواجه صناعة الأغذية اليوم هي أزمة الثقة في سلاسل الإمداد الغذائي. مع تزايد الاضطرابات في هذه السلاسل وارتفاع مطالب المستهلكين بضرورة الشفافية، أصبحت استعادة الثقة مسألة حيوية. في الوقت نفسه، تؤدي التشريعات الجديدة إلى زيادة الضغوط على الشركات في هذا المجال. ومع تفشي الاحتيال الغذائي، أصبحت الحاجة إلى حلول تضمن الثقة في المنتجات أمراً ضرورياً.

هنا، تأتي تقنية البلوك تشين حلاً مبتكراً يوفّر إمكانات غير مسبوقة. تُسهم هذه التقنية في ضمان الشفافية وإمكانية التتبع في سلاسل الإمداد الغذائية، ما يساعد على بناء الثقة بين المستهلكين والشركات. ولكن قبل أن نتحدث عن دور البلوك تشين، من المهم فهم الفرق بين "الشفافية" و"إمكانية التتبع" في هذا السياق.

الشفافية وإمكانية التتبع: ما هو الفرق بينهما؟

لا تقتصر الشفافية في سلاسل الإمداد الغذائية على مجرد الإفصاح عن بعض البيانات. بل تتضمن عنصرين أساسيين وفقاً للخبير تام هيربرت من معهد إم آي تي، وهما الرؤية والإفصاح؛ الرؤية تعني القدرة على معرفة البيانات المتعلقة بالمشاركين جميعهم في سلسلة الإمداد وتحديدها بشكلٍ دقيق، بينما الإفصاح يتطلب نشر هذه البيانات بالمستوى المطلوب من التفاصيل، ما يضمن تدفق المعلومات بين الأطراف المعنية.

أمّا إمكانية التتبع، فهي تركّز على المنتج نفسه بدلاً من سلسلة الإمداد ككل. فهي تتعلق بتسجيل المعلومات الخاصة بالمكونات والمراحل المختلفة من عملية الإنتاج، مثل مصدر المكونات أو تفاصيل الدفعات الإنتاجية. هذه المعلومات تكون حيوية لكشف حالات التلوث الغذائي أو الاحتيال وتسهم في إعداد تقارير الحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG).

العامل المشترك بين الشفافية وإمكانية التتبع هو تبادل المعلومات بين مختلف الأطراف في سلسلة الإمداد، ما يجعل تقنية البلوك تشين أداة ثورية في هذا المجال.

اقرأ أيضاً: كيف يساعد الذكاء الاصطناعي والروبوتات على ضمان سهولة عمليات سلاسل التوريد؟

لماذا تحتاج سلاسل الإمداد الغذائية إلى البلوك تشين؟

تعتبر البلوك تشين بمثابة سجل رقمي مشترك يسمح للأطراف كافة في سلسلة الإمداد بالوصول إلى "مصدر واحد للحقيقة". من خلال هذا السجل، تتوفر رؤية شاملة وفورية للمعلومات دون الحاجة إلى التحقق المستمر من صحتها. وفي هذا السياق، يمكن لتقنية البلوك تشين أن تكون حلاً مثالياً لثلاثة تحديات رئيسية في قطاع الأغذية:

الأول هو التحقق من مصدر المنتجات، لنأخذ على سبيل المثال عبوة من الفراولة. باستخدام البلوك تشين، يمكن للمزارعين تسجيل كل خطوة من مراحل إنتاجها، بدءاً من التربة وصولاً إلى ظروف الزراعة. عند وصول المنتج إلى المستهلك، يمكنه مسح رمز QR على العبوة لمعرفة التفاصيل الدقيقة عن مصدر الفراولة وكيفية إنتاجها، ما يعزّز الثقة بين المستهلكين والشركات. الثاني هو تتبع المكونات، فعندما يتعلق الأمر بمكونات المنتج الغذائي، يمكن للبلوك تشين رصد كل مكون بشكلٍ دقيق. في حالة حدوث تلوث غذائي، يمكن تتبع المصدر وتحديد الوجبات المتأثرة في وقتٍ قياسي، ما يقلّل التكاليف ويزيد سرعة استدعاء المنتجات الملوثة. بفضل هذه التقنية، تمكّن أحد تجار التجزئة العالميين من تقليل وقت تتبع الأغذية الملوثة من 7 أيام إلى 2.2 ثانية. أخيراً، مكافحة الاحتيال الغذائي، كما نعلم تواجه السوق العديد من حالات الاحتيال الغذائي، مثل بيع عسل مُصنّف كـ "نقي 100%" وهو في الواقع مُمزوج بشراب الذرة. باستخدام البلوك تشين، يمكن تسجيل مكونات المنتج كافة بشكلٍ غير قابل للتغيير، ما يجعل من المستحيل التلاعب بالبيانات أو تزويرها.

تعزيز الاستدامة وإعداد تقارير الحوكمة البيئية والاجتماعية

مع زيادة الاهتمام بالاستدامة، أصبح من الضروري على الشركات إثبات التزامها بالممارسات البيئية والاجتماعية الجيدة. باستخدام البلوك تشين، يمكن تسجيل البيانات البيئية والاجتماعية بطريقة غير قابلة للتغيير، ما يعزّز مصداقية تقارير ESG. هذه البيانات توفّر سجلاً شفافاً يساعد الشركات على الامتثال للمتطلبات التنظيمية بسهولة، كما تُتيح تحسين استراتيجيات الإنتاج والنقل بناءً على بيانات حقيقية، ما يقلّل التأثير البيئي.

الاستثمار في المستقبل: هل البلوك تشين هو الحل النهائي؟

من خلال دمج الشفافية وإمكانية التتبع، يوفّر البلوك تشين الحل المثالي لضمان سلامة الأغذية والحد من الاحتيال وتعزيز الاستدامة. ولكن الأهم من ذلك، أن البيانات المسجلة على البلوك تشين يمكن إعادة استخدامها في العديد من التطبيقات الأخرى. لهذا السبب، يُعتبر هذا النوع من الاستثمار ليس فقط مربحاً بل أيضاً ضرورة لبناء مستقبل أكثر أماناً وكفاءة.

تعزيز معايير السلامة الغذائية

في ضوء تشديد القوانين وزيادة الوعي بسلامة الغذاء، أصبح من الضروري اعتماد الأنظمة الرقمية المتطورة التي توفّر إمكانية تتبع المنتجات من المصدر إلى المستهلك. بفضل هذه الأنظمة، يمكن مراقبة الامتثال للمعايير الصحية بشكلٍ تلقائي وإدارة تواريخ الصلاحية بكفاءة وكشف أي مخاطر قبل أن تتحول إلى أزمات تهدد الصحة العامة أو سمعة العلامة التجارية.

رفع الكفاءة التشغيلية وزيادة الربحية

التحول الرقمي لا يقتصر على تحسين عمليات الإنتاج فقط، بل يمتد إلى تمكين الشركات من تحقيق تحليل استباقي للأداء والتخطيط الاستراتيجي. باستخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن تحديد العمليات الأكثر كفاءة وتقليل الفاقد، ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتقليل التكاليف، وهو ما يمنح الشركات ميزة تنافسية قوية.

اقرأ أيضاً: لماذا تنجح بعض الشركات في رحلتها نحو التحول الرقمي بينما تفشل أخرى؟

لماذا الآن هو الوقت المثالي لاعتماد التحول الرقمي؟

التحول الرقمي لم يعد رفاهية، بل ضرورة مُلحّة تفرضها التحولات السريعة في صناعة الأغذية والمشروبات. ومع تحولات مثل الأزمات الاقتصادية، وتغيرات في تفضيلات المستهلكين، والتحديات في سلاسل التوريد، يوفّر التحول الرقمي للشركات مرونة لتتكيف بسرعة مع المتغيرات، كما يمكن التحليل الذكي للبيانات من استشراف اتجاهات السوق المستقبلية، ما يساعد الشركات على تطوير منتجات مبتكرة تُلبي احتياجات السوق.

التحول الرقمي ليس مجرد تحديث تقني، بل هو إعادة هيكلة شاملة لكيفية إدارة الأعمال الغذائية. الشركات التي تتبنّى هذا التغيير ستكون قادرة على تحقيق نمو مستدام، والامتثال للمعايير التنظيمية، وتعزيز تجربة المستهلكين. وبالنهاية، فإن الرقمنة أصبحت المفتاح الحقيقي للنجاح في صناعة الأغذية والمشروبات.

المحتوى محمي