البلوك تشين في الخدمات اللوجستية بين الواقع والمبالغة

على مدى العقد الماضي، أصبحت تقنية البلوك تشين إحدى أكثر التقنيات التي أُثير حولها النقاش والجدل، خاصة في قطاعات مثل الخدمات اللوجستية وسلاسل الإمداد، التي تشكّل تكلفة اللوجستيات فيها ما بين 6 و15% من إجمالي المبيعات، كما تسهم في المتوسط بنحو 5 و17% من إجمالي القيم المضافة. يأتي ذلك في ظل الوعود والأحلام الكبيرة التي تصاحب هذه التقنية، لذا بات من الضروري التفريق بين ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع وما يمكن اعتباره مجرد مبالغة تسويقية.

اقرأ أيضاً: كيف تستفيد الشركات من ابتكارات البلوك تشين؟

الواقع: إمكانات البلوك تشين في اللوجستيات

تمتلك تقنية البلوك تشين خصائص فريدة تجعلها حلاً واعداً للتحديات التي تواجه قطاع الخدمات اللوجستية، ومن أبرزها:

1. تحسين الشفافية: تتميز تقنية البلوك تشين بكونها تمتلك سجلات لا يمكن التلاعب بها، ما يُتيح لأصحاب المصلحة تتبع مسار الشحنات وسلاسل الإمداد بدقة عالية، حيث تسجّل كل خطوة بشكلٍ فوري، ما يُتيح للمشغلين والعملاء مراقبة حركة البضائع في الوقت الحقيقي.
2. تقليل التكاليف وزيادة الكفاءة: تعمل البلوك تشين على أتمتة العمليات وتقليل الاعتماد على الوسيط، ما يخفّض تكاليف المعاملات على المدى الطويل ويُسرّع زمن المعالجة، خاصة في المنافذ الجمركية والمعاملات عبر الحدود.
3. تعزيز الأمان: تجعل الطبيعة اللامركزية والمشفرة للبلوك تشين اختراق البيانات أو التلاعب بها صعباً، ما يوفّر أماناً أكبر لسلاسل التوريد.
4. إدارة العقود الذكية: تُسهم العقود الذكية المبنية على البلوك تشين في تسهيل تنفيذ الاتفاقيات التجارية بشكلٍ تلقائي عند تحقق شروط معينة، ما يُلغي الحاجة إلى تدخل بشري.

ومن التجارب الناجحة في هذا المجال هي تجربة شركة MSC الشركة العالمية المعروفة في شحن الحاويات والخدمات اللوجستية، وذلك في إصدار بوليصات الشحن الإلكترونية Bill Of lading لعملائها في أنحاء العالم كافة من خلال نظام يُطلق عليه "BL WAVE"، وهو نظام يعتمد على تقنية البلوك تشين، ما يسمح للأطراف المشاركة في العملية بإصدار المستندات ونقلها وإدارتها.

اقرأ أيضاً: كيف أحدثت تكنولوجيا البلوك تشين ثورة في حياتنا؟

المبالغة: التحديات والقيود

على الرغم من الفوائد آنفة الذكر، يجب ألّا نغفل عن التحديات والقيود التي تجعل تطبيق البلوك تشين في اللوجستيات أكثر تعقيداً مما يبدو عليه في النظريات:

1. التكلفة العالية للتنفيذ: إنشاء بنية تحتية تعتمد على البلوك تشين يتطلب استثمارات كبيرة، وهو أمر قد لا يكون ممكناً للشركات كلّها، خاصة الصغيرة والمتوسطة التي تمثّل الغالبية من الشركات التي تعمل في القطاع اللوجستي.
2. التكامل مع الأنظمة التقليدية: لا تزال بعض الشركات في قطاع اللوجستيات تعتمد على أنظمة قديمة غير قابلة للتطوير والتحسين، ما يجعل دمج تقنية البلوك تشين عملية معقدة ومكلفة.
3. المبالغة في الوعود: لا يزال العديد من الحلول المقترحة في مراحلها التجريبية أو النظرية، ولم تُثبت جدواها بالكامل في بيئات التشغيل الواقعية.
4. القضايا التنظيمية والحوكمة: تواجه البلوك تشين عقبات تنظيمية، خاصة فيما يتعلق بالمعايير الدولية والامتثال للقوانين المحلية في مختلف البلدان. مع إمكانية الحوكمة الفعّالة يرى الكثير من المختصين أن يتم تبني مثل هذه التقنيات من قِبل المؤسسات والجهات غير الربحية، وليس الشركات التي تزيد الموثوقية في تبادل البيانات من قِبل اللاعبين جميعهم.
5. نقص الخبرات: يشكّل نقص الكفاءات والخبرات المتخصصة في تصميم حلول تعتمد على تقنية البلوك تشين وتنفيذها تحدياً كبيراً، حيث تجد الشركات صعوبة في العثور على خبراء مؤهلين لتطبيقها بفاعلية.

وفي استطلاع أجرته منظمة التجارة العالمية "WTO" ومنظمة الجمارك العالمية "WCO" يتعلق باستخدام تقنية البلوك تشين في التجارة عبر الحدود، وعن مستوى التنفيذ من قِبل سلطات الجمارك بين أعضاء منظمة الجمارك العالمية، كانت النتائج غير مرضية بسبب التحديات التي تم التطرق لها:

اقرأ أيضاً: ما أبرز التطبيقات العملية لتكنولوجيا البلوك تشين وكيف ستغيّر حياتنا؟

التوازن بين الواقع والتوقعات

بينما تُظهر تقنية البلوك تشين إمكانات كبيرة لتحسين كفاءة وشفافية الخدمات اللوجستية وسلاسل الإمداد، إلّا أن النجاح في تبنيها يعتمد على الفهم الواقعي لقدراتها وحدودها. الشركات الرائدة التي نجحت في تطبيق البلوك تشين كانت تمتلك رؤية واضحة حول كيفية توظيف التقنية ضمن احتياجاتها الفعلية، مع مراعاة التكلفة والموارد اللازمة.

تقنية البلوك تشين في الخدمات اللوجستية ليست حلاً سحرياً يُصلح كل شيء بين ليلة وضحاها، بل هي أداة فعّالة يمكن أن تُحدِث فرقاً إذا ما استُخدِمت بشكلٍ صحيح وبطريقة مدروسة. على الشركات أن تتجنب الوقوع في فخ المبالغات الإعلامية والتسويقية وأن تركّز على بناء نماذج حقيقية قابلة للتنفيذ والتطبيق بناءً على احتياجاتها.