كيف سيتغير تشجيع الفرق الرياضية بعد انحسار جائحة فيروس كورونا؟ وكيف سيتم تقييم أهمية الرياضة بعد انقضاء جائحة فيروس كورونا؟
شعرت وكأني أشاهد آخر مباراة كرة قدم على وجه الأرض ضمن تلك الفعالية التي أقيمت ليلة الأحد الماطرة في ملعب أزتيك العظيم في مدينة مكسيكو، والتي بثتها قناة "يونيفيجن" (Univision) إلى غرفة معيشتي. "ديربي" العاصمة الكلاسيكية بين فريقي "كروز آزول" و"نادي أميركا"، مباراة تستحضر ذكريات ملحمية كثيرة من طفولتي المكسيكية، إلا أنني لم أشاهدها منذ سنوات. تبين لي أنها الوداع المناسب لتشجيع كرة القدم من الملعب وذلك بعد مجيء فيروس "كوفيد-19". إذ أقيمت في الخامس عشر من مارس/آذار خلف أبواب موصدة، بعد إعلان الدوري المكسيكي إيقاف جميع المباريات بعدها.
كيف تبدو البطولات الرياضية دون حشود المشجعين؟
من المخيف مشاهدة مباراة احترافية تقام من دون حشود الجماهير في ملعب ضخم، إذ يبدو الأمر كالتجسس على شجار خاص، فبإمكانك سماع اللاعبين ينادي بعضهم بعضاً وأصوات الضربات التي تتلقاها الكرة. بيد أنني لم أستمتع بحداثة التجربة لانغماسي الشديد في حقيقة أن هذه هي آخر مباراة، لقد انتهى الأمر. حتى أني لا أتذكر النتيجة.
تلك الليلة، في نهاية عطلة أسبوعية حرمت فيها من جرعتي المعتادة من حماس الدوري الممتاز على قناة "إن بي سي" (NBC)، لم يسعني إلا التفكير بالمقولة الشهيرة لوزير الخارجية البريطاني، إيد غراي، التي قالها في أغسطس/آب عام 1914 عندما استسلم لحتمية الحرب مع ألمانيا على مضض: "ستُطفأ المصابيح في جميع أنحاء أوروبا، لن نراها مضاءة من جديد في حياتنا"، ما علينا سوى استبدال كلمة "المصابيح" بجملة "الأضواء الكاشفة في الملعب".
أعلم أني أتكلم بطريقة ميلودرامية، وكذلك كان غراي، فالمصابيح في أوروبا أضيئت مجدداً، لكن أفكار زمن ما قبل الحرب تلاشت إلى الأبد، ومنها الإيمان بحتمية التقدم. وأنا أتساءل عما إذا كان ذلك ينطبق على عودة رياضة ما قبل الجائحة. يرغمنا وقت الاستراحة الإجباري على إعادة تقييم معنى الرياضة، ومعنى تشجيع الرياضة على وجه الخصوص وموقعه من نطاق أنشطة الحياة التي تتراوح ما بين الجد والعبث. يختلف الجواب من شخص لآخر، بالطبع. أحزن على الفرجة التي تجمع الناس وتربط بعضهم ببعض، متجاوزة حدود الدول والانقسامات السياسية، تلك المساحة التي تساعدنا في تحديد هويتنا. لكني سمعت أناساً يعبرون عن ارتياحهم لأن الرياضة لم تعد تمثل جوانب كثيرة من حياتنا أو من المساحات المشتركة بيننا. يبدو أن بعض الناس يفضلون الأحاديث الجانبية عن الطقس أو الفيروس.
زمن الجائحة هو فترة عصيبة جداً على ما يعتبر أقوى أشكال البرامج الترفيهية الحية، ويجب على المشجعين المتعصبين إعادة تقييم أولوياتهم والأهمية النسبية لكثير من المنشآت في حياتهم. قد يبدو متجر البقالة فجأة أكثر أهمية من فريق الدوري الأميركي لكرة السلة أو الدوري الوطني لكرة القدم في مدينتك.
لقد تلاشت الفعاليات المباشرة التي كنا ننظم مواعيدنا وفقاً لأوقاتها وتستدعي منا التعصب لأحد الجانبين.
لكني لست مستعداً لاعتبار الرياضة عبثاً، فتشجيع الرياضة وحبها يصلنا ببعضنا وبمجتمعاتنا، وليس هناك كثير من الأشياء التي تفعل ذلك. وبالنسبة للملايين من عشاق الرياضة حول العالم، تتمتع الرياضة بدور شبيه بدور مواسم الحصاد والتقويمات الدينية بالنسبة لكثير من الشعوب عبر التاريخ، فهي تحدد الإيقاع والوتيرة على مدار العام. إذ نبدأ في الولايات المتحدة ببطولة "سوبر بول" لكرة القدم الأميركية في فبراير/شباط، تتبعها بطولة كرة السلة في مارس/آذار (جنون مارس)، لنصل إلى بطولة كرة القاعدة "البيسبول" في أبريل/نيسان، ثم يشهد مايو/أيار على نهاية الدوريات الأوروبية لتبدأ المباريات الإقصائية للدوري الأميركي لكرة السلة (NBA) وبطولة أمم أوروبا في يونيو/حزيران، فتتبعها بطولة ويمبلدون التي تمهد للإلهام الذي نستمده من الألعاب الأولمبية وموسيقاها الخالدة التي ألفها جون ويليامز، لتسلم بداية الخريف إلى بطولة "الدوري الوطني لكرة القدم" (NFL). لكل شيء موسمه، هكذا تقول الحكمة.
تأثر الرياضات حول العالم بالأزمات أو الحروب
نعيش الآن مرحلة رمادية مع الحجر المنزلي إلى أجل غير مسمى. لا توجد مواعيد مشتركة لأيام وأسابيع، بل لشهور. نقضي أوقاتنا مع الأشكال الأخرى من الترفيه، أترغب في إقامة سباق لمشاهدة حلقات مسلسل "المكتب" (ذي أوفيس) (The Office)؟ شاهد حتى تشفي غليلك. لكن تلاشت الفعاليات المباشرة التي كنا ننظم مواعيدنا وفقاً لأوقاتها وتستدعي منا التعصب لأحد الجانبين.
إذن، الرياضة مهمة، لكن، هل هي أساسية في حياتنا؟ هل من الملائم أن نهتم بالرياضة ونرغب في منح عودتها أهمية في الوقت الذي يحشد المجتمع إمكاناته لمواجهة تهديد مشترك ونحزن لمعاناة الآخرين؟ ناقشنا هذه الفكرة بطرق مختلفة في أوقات مختلفة على مدى تاريخنا، وغالباً في الحروب. ففي الحرب العالمية الثانية، بعد شهر من هجوم "بيرل هاربر" (ميناء بيرل)، كتب الرئيس فرانكلين روزفلت رسالة لرئيس لجنة كرة القاعدة يحثه على متابعة المباريات، قال: "صراحة، أشعر أنه سيكون من الأفضل للبلاد أن تستمر مباريات كرة القاعدة".
لوهلة، بدا معظم عالم الرياضة في مارس/آذار مصرّاً على متابعة فعالياته بتلك الروح (لا أحد ينكر أن ذلك كان لأسباب تجارية وإذاعية أيضاً). إذ خطط القائمون على الدوريات، بدءاً من الدوري الأميركي لكرة السلة وصولاً إلى الدوري الإنجليزي الممتاز، للاستمرار في إقامة المباريات من دون جمهور من أجل الترفيه عن الملايين من محبي الرياضة المحتجزين في منازلهم. لكنهم أدركوا بعد ذلك أن "الملاءمة" ليست المعيار الوحيد في المداولات حول الاستمرار أو التوقف. فعلى خلاف المداولات حول متابعة المباريات في الحرب العالمية الثانية أو في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، أو بعد اغتيال جون كيندي، المسألة الحدية في المداولات الآن هي صحة اللاعبين وسلامتهم.
بدت الغطرسة في هذه الدعوات لمتابعة الأنشطة الرياضية في هذه الظروف جلية في غضون 24 ساعة عندما ثبتت إصابة لاعب فريق "يوتاه جاز" ومدرب فريق "أرسنال" على الطرف الآخر من المحيط الأطلنطي، وعنى ذلك إيقاف المباريات تماماً. لقد تضاءلت أهمية معيار الملاءمة أمام معيار سلامة اللاعبين، وهو أمر لم يتسبب بمشكلة في الولايات المتحدة منذ إلغاء نهائيات بطولة كأس ستانلي عام 1919 بسبب إصابة عدد كبير من اللاعبين بالإنفلونزا الإسبانية.
إذاً، سننتظر. باتت جداول أعمالنا ضبابية، وتعرض إيقاع عامنا لمقاطعة صادمة. لن تكون هناك بطولة لكرة القاعدة، وتم تأجيل البطولات الأولمبية وبطولة أمم أوروبا لعام 2020 إلى صيف 2021، ولن تقام بطولة ويمبلدون لعام 2020، وتم إيقاف الدوريات الأوروبية لكرة القدم والدوري الأميركي لكرة السلة في مراحلها الأخيرة. باتت الأنشطة الرياضية لفصل الخريف بارق أمل يلوح في أفق بعيد لا نعلم إذا ما كنا قادرين على بلوغه أم لا.
مستقبل الرياضة بعد انقضاء جائحة فيروس كورونا
قد تخضع الرياضة للتقييم بعد الجائحة، تماماً كما حدث مع الإمبراطوريات الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى. ويقول نقاد كثر إن ثمة احتمال لولادة وإصلاح جديدين للرياضة بعد الخروج من هذه الأزمة، وللعودة إلى أساسيات أنقى غير قائمة على أسس تجارية. قد يتخلى بعض المشجعين عن عاداتهم ويعيدوا النظر في قيمة الرياضة في حياتهم، هذا ممكن. لكن ثمة شيء في إرغامي على البقاء في المنزل وتفادي انتقال العدوى يجعلني أكثر جموحاً.
يقلقني ما لن يعود بعد انتهاء الأزمة، وأخشى المصير الذي ستؤول إليه عولمة الرياضة وتوسعها الشمولي. في السنوات الأخيرة، عندما شهدنا رفضاً في أجزاء كثيرة من العالم لمفهوم التفكير العابر للحدود لصالح عودة النزعة القومية والوطنية الفجة، بدت الرياضة خارج هذه النزعة وكأنها مجال ثقافي نادر تزداد العولمة فيه قوة.
لم تكن كل الأمور وردية، بالتأكيد. إذ من الممكن أن تُستغل الرياضة في أغراض تجارية بحتة، وغالباً ما يشكل السعي لتحقيق أرباح أعلى من أي وقت مضى للرياضيين والفرق والدوريات الدافع للعولمة. ومع ذلك، يجب ألا نغفل عن تأثير الرياضة وفائدتها في العالم بغضّ النظر عن الدوافع التجارية.
إنه لأثر إيجابي جداً أن ينشأ جيل المشجعين الشباب في مدينة مثل ليفربول في عصر "بريكسيت" والقومية الشعبوية، يشجع أبناؤه المهاجم المصري في فريق مدينتهم، محمد صلاح، ويهتفون له ويعتبرونه مثلاً أعلى لهم. وهو أثر إيجابي جداً أن يسعى الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، بجميع عيوبه الجلية على اعتباره الهيئة الناظمة لأهم رياضة في العالم، لاستخدام نفوذه في الضغط على الاتحادات في أميركا اللاتينية من أجل دعم دوريات النساء واستدامتها، والضغط على إيران للسماح للمتفرجات النساء بحضور المباريات الدولية على أراضيها.
من الجدير بالثناء أن المالكين الأميركيين لنوادي الدوري الإيطالي من الدرجة الأولى كانوا أول من شجب العنصرية في تلك النوادي. من المنصف أن ننتقد كل ذلك ونقول إنه ضئيل جداً أو متأخر جداً، أو أن نشكك في دوافع سياسة التوسع في الرياضة، لكن الحقيقة أيضاً هي أن دخول الرياضة في ركود طويل الأجل وأزمة ثقة سيؤدي إلى التخلي عن النزعة الأممية المستنيرة التي نشهدها اليوم، واعتبارها ظاهرة ترف متسامح من عصر مختلف. ويمكن أن تزداد الأمور سوءاً، فبدلاً من الدعوة لتمتع فرق النساء بالمساواة، قد نحزن قريباً لغيابها بصورة كاملة.
كنت أعتقد بالفعل أن العولمة الرياضية لن تنتهي، وأن سياسة التوسع في الرياضة لن تتقهقر، وأنكرت التوجه القوي لتقليص العالم وانكماشه. لكن الآن خلال جائحة فيروس "كوفيد-19" بت أعلم مدى حساسية مكانة الرياضة في حياتنا، وكل ما حققته من تقدم لتقريبنا وجمعنا حول شغفنا المشترك. أود أن أفكر أنه بمجرد انتهاء فترة الاستراحة الإجبارية هذه (أو الحجر المنزلي)، ستعود الرياضة لتكمل مسيرتها من حيث توقفت، مع التزام جديد بمعنى أكثر استنارة للأممية مما تقدمه التوجهات السياسية، ومع تقدير متجدد من المشجعين، ومع عودتهم أيضاً إلى الملاعب لتشجيع فريقهم المفضل
هذا ما كنت أتوقعه فيما مضى، وقد بات اليوم محض أمنيات. لنرَ ما سيحدث عندما تنطلق صافرة البداية من جديد. فهل ستعود البطولات الرياضية إلى ما كانت عليه قبل الجائحة؟ وهل ستبقى الرياضة ذات أهمية في المجتمع كما كانت؟ وما هو مستقبل مشجعي الفرق الرياضية؟