هل فكرت من قبل في أن الخوارزمية التي ترشح لك أفضل فيلم أو مسلسل يناسب ذوقك على نتفليكس لها تأثير فعلي على البيئة؟ هل تعلم كمية الطاقة التي تحتاجها الخوارزمية لتدريب نفسها على ما إذا كانت صورة ما تُظهر -على سبيل المثال- قطة؟
تحتاج معظم خوارزميات الذكاء الاصطناعي، لا سيما تلك التي تدير تطبيقات الرؤية الحاسوبية ومعالجة اللغات الطبيعية المتقدمة، إلى قدر هائل من القوة الحاسوبية لتدريبها على توليد النصوص أو إنشاء الصور أو التعرف على الوجوه. تستلزم هذه القوة بدورها قدراً هائلاً من الطاقة، ما يدفع الباحثين إلى الخوف من أن البصمة الكربونية لأنظمة الذكاء الاصطناعي الكبيرة تجعلها غير مستدامة بيئياً.
تضخم البصمة الكربونية للذكاء الاصطناعي
يُعبّر مصطلح البصمة الكربونية الرقمية (Digital Carbon Footprint) بشكل عام عن انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون الناتجة عن استخدام الأجهزة والخدمات والحلول الرقمية؛ مثل الهواتف الذكية والحواسيب ومراكز البيانات والتطبيقات ومواقع الويب ورسائل البريد الإلكتروني وعمليات البحث. ومع تسارع تطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي، تضخمت كمية الانبعاثات الناتجة عنها إلى درجة أن تأثيرها البيئي أصبح يقارن بتأثير النفط.
على مدى الأعوام الماضية، أعلنت العديد من شركات التكنولوجيا الكبرى عن ممارسات يمكنها أن تقلل من الطاقة -وبالتبعية من انبعاثات الكربون- المطلوبة لتدريب وتشغيل أنظمة التعلم الآلي الخاصة بها. كما طوّر العديد من الباحثين أدوات سهلة الاستخدام لقياس كمية الكهرباء التي تستخدمها مشروعات الذكاء الاصطناعي والمقدار المكافئ لها من انبعاثات الكربون.
وقد قام فريق من جامعة باريس ساكلي (Université Paris-Saclay) مؤخراً باختبار مجموعة من هذه الأدوات لمعرفة ما إذا كانت موثوقة. وفي هذا الإطار، تقول المؤلفة المشاركة في الدراسة آن لوري ليغوزات، إن هذه الأدوات "ليست موثوقة في جميع السياقات".
لحل هذه المشكلة، يقدم بحث جديد طريقة أكثر دقة لحساب تلك الانبعاثات، كما يقارن العوامل التي تؤثر في كميتها، وطرق تقليلها.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد الشركات في تحقيق متطلبات الاستدامة البيئية؟
ثُلث الانبعاثات فقط
في البحث الذي تم تقديمه في مؤتمر جمعية آلات الحوسبة حول العدالة والمساءلة والشفافية (ACM FAccT) الذي عُقد في كوريا الجنوبية الشهر الماضي، قام الباحثون بحساب تكلفة الكربون (Carbon Cost) لتدريب مجموعة من النماذج في مراكز بيانات حوسبة سحابية موجودة في مواقع مختلفة. وقد وجدوا بالفعل اختلافات ملحوظة في الانبعاثات التي تصدر عن المواقع الجغرافية.
لتجربة هذا النهج، قام الباحثون بتدريب 11 نموذج تعلم آلي تختلف أحجامها والمهام التي تؤديها سواء معالجة اللغات أو الصور. وقد تراوحت مدة التدريب بين ساعة واحدة على وحدة معالجة رسوميات واحدة (GPU) إلى 8 أيام على 256 وحدة معالجة رسوميات. ثم سجل الفريق الطاقة المستخدمة في كل ثانية. كما حصلوا على بيانات انبعاثات الكربون لكل كيلوواط/ساعة (kWh) من الطاقة المستخدمة طوال عام 2020 من 16 منطقة جغرافية. وفي النهاية، قارنوا الانبعاثات الناتجة عن تشغيل هذه النماذج المختلفة في مناطق مختلفة وفي أوقات مختلفة.
يقول الباحث في مجال التعلم الآلي بمعهد ألين للذكاء الاصطناعي في سياتل بولاية واشنطن الأميركية، جيسي دودج، الذي شارك في قيادة الدراسة، إن نتائجهم أوضحت أن "المناطق الأكثر كفاءة أصدرت نحو ثلث انبعاثات المواقع الأقل كفاءة" في تجربة الذكاء الاصطناعي نفسها.
ويوضح دودج أن النهج الجديد يختلف من ناحيتين: أولاً، يسجل استهلاك شرائح الخادم كسلسلة من القياسات بدلاً من تلخيص استهلاكها خلال فترة التدريب. ثانياً، يقوم بمطابقة بيانات الاستهلاك هذه مع سلسلة من نقاط البيانات التي تُظهر الانبعاثات المحلية الصادرة عن الطاقة المستخدمة لكل كيلوواط/ساعة.
أميركا وألمانيا ضعف النرويج وفرنسا
تذكر الدراسة، التي كتبها دودج و9 من زملائه بمعهد ألين وشركة مايكروسوفت وجامعتي واشنطن وكارنيجي ميلون، أن البصمة الكربونية للمنشآت الموجودة في مواقع متعددة تختلف بسبب التباين العالمي في مصادر الطاقة، فضلاً عن التقلبات في الطلب. فمثلاً، وجد الفريق أن تدريب نموذج التعلم الآلي الشهير بيرت (BERT) في مراكز البيانات الموجودة في وسط الولايات المتحدة أو ألمانيا أو أستراليا يتسبب في انبعاث ما بين 22 إلى 28 كيلوغراماً من ثاني أوكسيد الكربون، اعتماداً على الوقت من العام.
يبلغ هذا الرقم أكثر من ضعف الانبعاثات الناتجة عن إجراء نفس التجربة في النرويج التي تحصل على معظم احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة الكهرومائية، أو فرنسا التي تعتمد في الغالب على الطاقة النووية.
كما أن الوقت من اليوم مهم أيضاً، حيث أصدر تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي في واشنطن أثناء الليل -عندما تأتي كهرباء الولاية من الطاقة الكهرومائية وحدها- انبعاثات أقل مما أصدره خلال النهار، عندما تأتي الطاقة من محطات تعمل بالغاز أيضاً.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن تخفيف تأثير الذكاء الاصطناعي على البيئة؟
مسؤولية مقدم الخدمة وليس الباحث
تشير الدراسة إلى أنه لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من الحوسبة السحابية، فإننا نحتاج إلى النظر في دور نوعين من الجهات الفاعلة: مقدم الخدمة السحابية -مثل خدمة مايكروسوفت أزور (Microsoft Azure) أو منصة جوجل السحابية (GCP) أو خدمات أمازون ويب (AWS)- والمستخدم الذي يحتفظ بالموارد السحابية ويستخدمها (على سبيل المثال، باحث في الذكاء الاصطناعي يقوم بتدريب نموذج على "مثيل سحابي"، أو شركة تستضيف موقعاً إلكترونياً).
في تصريحات لدورية نيتشر، يقول الباحث في جامعة بريستول بالمملكة المتحدة، كريس بريست، الذي يدرس تأثيرات الاستدامة البيئية للتكنولوجيا الرقمية، إن مسؤولية تقليل الانبعاثات يجب أن تقع على عاتق مقدم الخدمة السحابية وليس الباحث، حيث يمكن لمقدمي الخدمات التأكد من أن يتم استخدام مراكز البيانات ذات الكثافة الكربونية الأدنى أكثر من غيرها.
من جانبها، ترى باحثة التعلم الآلي في جامعة كارنيجي ميلون، بريا دونتي، أن مقدمي هذه الخدمات يمكنهم أيضاً اعتماد استراتيجيات مرنة تسمح بتشغيل وإيقاف عمليات التعلم الآلي في الأوقات التي تساعد على تقليل الانبعاثات.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين لمواجهة التغير المناخي
وبشكل عام، يدعو مؤلفو الدراسة الباحثين والمستخدمين إلى تسجيل كمية الانبعاثات التي تصدرها مشروعات التعلم الآلي الخاصة بهم والكشف عنها، بدءاً من مراحل التدريب الاستكشافية الأولية مروراً بمراحل ضبط المعاملات الوسيطة وحتى نشر النموذج النهائي. ويمكن الاسترشاد بتلك البيانات -بحسب الدراسة- في تحليل دورة الحياة التشغيلية (OLCA) لنموذج التعلم الآلي.