كيف يُمكن للبحث باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي أن يُفسد عملية البحث؟

3 دقيقة
حقوق الصورة: shutterstock.com/tete_escape

في عصرٍ تُحدِّد فيه الخوارزميات مساراتنا المعرفية وتتخذ القرارات نيابةً عنا، نجد أنفسنا على وشك فقدان آخر مظاهر السيطرة التي كنا نتمتّع بها في البحث التقليدي وتمحيص نتائج البحث يدوياً. في الحقيقة، على مدى العقدين الماضيين، تعلَّمنا كيف نُصبح انتقائيين، ونُحلِّل المعلومات، ونُدقِّق في مصداقيتها، ونختار مصادرها بعناية. كنا نحن من نُمسك بزمام البحث، نُفضِّل الرابط الثالث أو السابع أو حتى العشرين، بناءً على معيارنا الأساسي وهو الموثوقية، وليس ترتيب نتائج البحث.

لكن اليوم، مع صعود النماذج اللغوية التوليدية، بدأنا تدريجياً بتفويض هذه النماذج لاختيار النتائج بدلاً منا. لم نَعد نواجه عشرات النتائج التي نُدقّق فيها، بل نحصل على إجابة واحدة مختصرة، ومُنتقاة من بين مئات المصادر، تُقدَّم لنا كما لو كانت الحقيقة المطلقة. قد يبدو ذلك وكأنه انتصارٌ للكفاءة، لكنه في جوهره يُمثّل تآكلاً لقدرتنا على الاختيار، بل ولمهاراتنا النقدية أيضاً.

لطالما استُخدِمت تقنيات تحسين محركات البحث للتلاعب بترتيب نتائج البحث، لكننا كنا قادرين على تجاوز الروابط المشبوهة وتصنيف المحتوى الرديء بأنفسنا. أمَّا اليوم، فالنماذج اللغوية مثل جيميناي المدعوم من جوجل، وتشات جي بي تي الذي يستخدم محرك البحث بينغ، والنموذج الصيني ديب سيك غير المُعلن عن محركه الأساسي، باتت تؤدي دوراً قيماً في المعلومات، فتنتقي لنا الإجابات مسبقاً دون أن نعرف ما استُبعد ولماذا، رغم اجتهادها في تمييز الغثّ من السمين.

في عالم التسويق، يُقال دائماً: "إذا كنت تريد دفن نتيجة بحث، فتأكد من أنها ليست في الصفحة الأولى". لم تَعد هذه مجرد نكتة ساخرة، بل أصبحت حقيقة رقمية مؤسفة. فالمعلومات الأقل شعبية -حتى وإن كانت أكثر دقة- تتلاشى في طي النسيان، بينما تكتسح المحتويات المصممة لجذب النقرات ساحة البحث. 

لم تَعد المشكلة فقط فيما يظهر أمامنا، بل فيما لا نراه، والخطر الأكبر أن تتحمَّل النماذج اللغوية مسؤولية هذا الانحياز المعرفي.

لعل إحدى المشكلات الأكثر تعقيداً في البحث عبر النماذج اللغوية هي أنها لا تصل إلى المحتوى المدفوع أو المغلق. فالمقالات الأكاديمية المحكمة، والتقارير الاستقصائية، والدراسات العلمية التي تنشرها دوريات عالمية تبقى وراء جدران الاشتراكات، فلا تظهر في نتائج البحث، ولا تُستَخدم في تدريب النماذج اللغوية. ينطبق الأمر نفسه على الصحافة المدفوعة، إذ لا يمكن للمقالات التحليلية العميقة في مجلات عالمية أو عربية رائدة مثل "مجرّة" منافسة المحتوى المجاني الذي تُفضّله خوارزميات تحسين الظهور، خصوصاً إذا لم تُدرك النماذج اللغوية وجوده أصلاً إلّا من خلال مقتطفات محدودة.

اقرأ أيضاً: أيّهما أفضل في عملية البحث عن المعلومات: سيرش جي بي تي أمْ جوجل؟

نحن حقاً أمام معضلة للباحثين المتعطشين لأدوات تساعدهم على البحث، وتحدٍّ للهواة الذين يكتفون بما تقترحه لهم محركات البحث الذكية من نتائج، وهنا تبرز فرصة للناشرين! فبدلاً من مقاومة الذكاء الاصطناعي التوليدي بحجة أنه يتدرَّب على محتواهم دون مراعاة حقوق الملكية الفكرية؛ يمكنهم إعادة النظر في علاقتهم بهذه النماذج، لضمان انتشار محتواهم دون التضحية بإيراداتهم أو حقوقهم الفكرية.

أزعم أن الحل لا يكمن البتّة في حجب المحتوى المدفوع عن النماذج اللغوية للأبد، بل في إيجاد آلية تُتيح التكامل بين الذكاء الاصطناعي والمحتوى الحصري، عبر نموذجين رئيسيين:

  1. ترخيص المحتوى للنماذج اللغوية: بحيث يُبرم الناشرون اتفاقيات مع مزوِّدي الذكاء الاصطناعي، ما يُتيح للنماذج الوصول إلى المحتوى المغلق مقابل رسوم أو نسبة من العائدات. في هذا النموذج، تُحفظ حقوق الملكية الفكرية، إذ يُذكر المصدر عند تقديم أي إجابةٍ تستند إلى المحتوى المدفوع.
  2. نموذج الاشتراك المدمج مع الذكاء الاصطناعي: يُمكن للمستخدمين الاشتراك للحصول على إجابات مدعومة بمحتوى حصري من مصادر موثوقة. على سبيل المثال، تخيَّل وجود إصدار مخصص من تشات جي بي تي أو غيره يُتيح الوصول إلى أرشيف أكاديمي، أو أرشيف محتوى "مجرّة"، ويُفعَّل مقابل اشتراك مدفوع في المنصة نفسها.

اقرأ أيضاً: كيف تحمي نفسك من المعلومات العلمية المزيفة التي تنشئها نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي؟

لا يمكننا العودة إلى الوراء ورفض البحث باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في عصر المعلومات الطاغية، لكن لا يعني هذا أننا يجب أن نقبل به دون ضوابط، بل علينا التفكير جدياً في وضع معايير شفافة لكيفية اتخاذ الخوارزميات قراراتها، وضمان حق المستخدمين في الوصول إلى المصادر التي استندت إليها الإجابة النهائية. لعل الأهم من ذلك، أن تبقى سلطة التقييم والمساءلة بيد الباحث، وليس تحت سيطرة ذكاء اصطناعي قد يُوجَّه من قِبل مستثمري تحسين محركات البحث لتحقيق أغراض تجارية أو سياسية أو ثقافية لا علاقة لها بالجودة والحياد.

ختاماً، ما نحتاج إليه اليوم ليس ذكاءً اصطناعياً يُقرِّر عنا ما يجب أن نعرفه، بل مساعداً ذكياً يساعدنا على استكشاف الحقيقة بأنفسنا، مع ضمان إتاحة المعرفة الحقيقية، سواء كانت مجانية أو ضمن المحتوى المدفوع، بعيداً عن التحيّزات التجارية والخوارزمية.

المحتوى محمي