على الرغم من تأكيدات الرئيس بايدن في اجتماع الأمم المتحدة يوم الأربعاء، أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة، فإن الحرب التي تؤججها التكنولوجيا بين الأنظمة في العالم تلوح في الأفق.
في أواخر الأسبوع الماضي، اتخذت إيران وتركيا وميانمار وعددٌ قليل من الدول الأخرى خطوات لتحظى بالعضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، وهو تحالف اقتصادي وسياسي تقوده الأنظمة "الاستبدادية"، كما وصفتها الولايات المتحدة، في الصين وروسيا.
وسرعان ما أصبحت المجموعة، التي تشكلت في عام 2001، واحدة من أهم القوى في السياسة العالمية، وأشارت إلى أن التكنولوجيا جزء كبير من مستقبلها الاستراتيجي. وعلى الرغم من أن الكثير من تركيز منظمة شنغهاي للتعاون ينصب على التنمية الإقليمية، مثل السكك الحديدية والاتفاقيات التجارية، فإنها أدت دوراً رئيسياً في انتشار التقنيات المصمّمة للرقابة الاجتماعية، والتي يُطلق عليها خبراء السياسة الخارجية "الاستبداد الرقمي".
اقرأ أيضاً: لماذا علينا إيلاء اهتمام أكبر بشأن قطع الإنترنت؟
وعلى خطى الصين، تُظهر الأبحاث أن غالبية الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون، بالإضافة إلى الدول الأخرى، تتجه نحو المزيد من انتهاكات الحقوق الرقمية من خلال زيادة المراقبة الإلكترونية الجماعية للمواطنين والرقابة والضوابط المفروضة على حرية التعبير.
وبطبيعة الحال، تستخدم الأنظمة الديمقراطية كميات هائلة من تقنيات المراقبة أيضاً. تعتبر الولايات المتحدة واحدة من أكثر الدول مراقبةً في "العالم، وتشتري الكثير من تلك التكنولوجيا من الصين. ومع ذلك، تنمو العلاقات التجارية التكنولوجية بسرعة أكبر بين الدول "الاستبدادية في كل مكان- من أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون، وحتى حلفائها، وقد بدأت هذه الدول في تبني قواعد لعب مماثلة للرقابة الاجتماعية الممكّنة رقمياً.
ماذا نقصد بـ"الاستبداد الرقمي"؟
قبل أربع سنوات، ركّزت "فريدوم هاوس" (Freedom House)، وهي مجموعة بحثية غير ربحية ومناصرة للديمقراطية العالمية، على "تنامي الاستبداد الرقمي" عندما نشرت تقريرها السنوي عن حالة الحرية والإنترنت في عام 2018. يوضح التقرير أنه "يتم الترويج للاستبداد الرقمي كوسيلة للحكومات للسيطرة على مواطنيها من خلال التكنولوجيا، ما يؤدي إلى تشويه مفهوم الإنترنت كمحرك لتحرير الإنسان". منذ ذلك الحين، أصبحت هذه هي الطريقة الشائعة التي تتبعها واشنطن لتأطير المنافسة على عالم التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين.
هناك علاقة قوية بين أنظمة الحكم وحالة الحقوق الرقمية، مع احتمال أن تستخدم الأنظمة الاستبدادية التكنولوجيا كمجالٍ آخر للرقابة الاجتماعية أكثر من الأنظمة الديمقراطية.
عمل باحثو منظمة "فريدوم هاوس" على قياس هذه الظاهرة في التقارير السنوية، حيث سجلوا البلدان بناءً على مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك حماية الخصوصية والرقابة والعقبات التي تحول دون الوصول إلى الإنترنت. وعلى الصعيد العالمي، انخفضت النتائج لمدة 11 عاماً متتالياً، ما يعني أن العالم يتجه بشكل عام بعيداً عن الإنترنت الذي يحمي الحقوق الرقمية للمستخدمين. لم تذكر مجموعة فريدوم هاوس أي دولة غير ديمقراطية بأنها توفّر إنترنت "مجانية"، في حين تم اعتبار الإنترنت في جميع الدول الديمقراطية إما "مجانية" وإما "مجانية بشكل جزئي".
تسجل جميع الدول الأعضاء الثمانية الحاليين في منظمة شنغهاي للتعاون نتائج سيئة باستمرار، هذه الدول هي الصين وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان والهند وباكستان. والتي انخفضت نتائجها بمعدل 10 نقاط خلال العقد الماضي.
احتلت الصين المرتبة الأخيرة في تقرير فريدوم هاوس العام الماضي، أي أن ذلك التصنيف لم يتحسن منذ عام 2014.
وقد حصلت إيران على المركز الثاني قبل الأخير على الرغم من أنها عضو مراقب ليس كامل العضوية في منظمة شنغهاي للتعاون. لم يكن تطور علاقة إيران الاقتصادية مع الصين في السنوات الأخيرة محض صدفة، حيث كانت إيران واحدة من العديد من المستهلكين المتحمّسين للتكنولوجيا الرقمية للقوى العظمى.
الأنظمة الديمقراطية المنتَخبة
حرية الإنترنت
النموذج الصيني
يختلف الخبراء في الغرب حول ما إذا كانت الصين تقوم حقاً "بتصدير الاستبداد" بشكل استراتيجي أو ما إذا كان الدعاة الأميركيون وغيرهم من المراقبين قد شوّهوا صورة التفوق التكنولوجي الصيني بينما يتجاهلون طلبهم المتزايد على تكنولوجيا المراقبة. لقد كتبنا سابقاً عن انهيار مبادرة وزارة العدل التي تهدف إلى التخلص من الجواسيس الصينيين. تشير أبحاث أخرى إلى تزايد الطلب على تكنولوجيا المراقبة الصينية في البلدان التي ترتفع فيها معدلات الجريمة، بغض النظر عمّا إذا كانت تلك البلدان ذات أنظمة ديمقراطية أم لا.
اقرأ أيضاً: منظومة المراقبة الخاصة في جنوب إفريقيا تعزز نظام فصل عنصري رقمي
ولكن من الحقائق المقبولة إلى حد كبير أن الدولة الصينية والشركات التابعة لها قد زوّدت البلدان الأخرى بتقنية الأمن والمراقبة، بالإضافة إلى البنية التحتية مثل الطرق وشبكات الجيل الخامس، وذلك من خلال منظمة شنغهاي للتعاون ومبادرة الحزام والطريق (BRI)، وهي مشروع الصين الرئيسي للسياسة الخارجية الذي يقدم تطوير البنية التحتية في أكثر من 140 دولة.
من الصعب المبالغة في تقدير تأثير الصين على الاستبداد الرقمي. تقوم برامج الصين الائتمانية الاجتماعية العامة والخاصة، والتي تم الإعلان عنها لأول مرة في عام 2014، بجمع وتخزين البيانات حول مشتريات الأشخاص ومخالفات المرور والأنشطة الاجتماعية. وتعد المدن الصينية من أكثر المدن التي تخضع للمراقبة في العالم، وذلك بوجود أكبر عدد من كاميرات المراقبة لكل ميل مربع. غالباً ما تكون هذه الكاميرات مزودة بتقنية متطورة للتعرف على الوجه وتحليلات الحوسبة المرئية، ما يسهل على الحزب الشيوعي العمل على المراقبة.
كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة (CCTV) لكل ميل مربع
وتحذو الدول الأخرى حذوها.
عادةً ما تقود الصين أكبر مشروعات منظمة شنغهاي للتعاون وتموّلها؛ وتشمل هذه المشروعات خط السكك الحديدية العابر لأفغانستان الذي يربط أوزبكستان بباكستان، و منصة التجارة الرقمية في تشونغتشينغ، و المناورات العسكرية المشتركة. لكنها عززت أيضاً مبادرات مثل برنامج الخوارزميات الاستراتيجية لألف مدينة، الذي يشجع الحكومات المركزية على استخدام كميات ضخمة من البيانات لإبلاغ قراراتها.
بين يناير وأغسطس من هذا العام، ازدادت التجارة الصينية مع دول منظمة شنغهاي للتعاون بنسبة 26% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. شكّلت الصادرات الصينية من الأجهزة الإلكترونية، بما فيها تقنيات معالجة البيانات، نسبة كبيرة من حجم هذه الزيادة.
اقرأ أيضاً: أوروبا تقرر تطبيق قواعد أكثر صرامة على تكنولوجيا المراقبة
اجتمع أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون، بالإضافة إلى عشرات الدول الأخرى التي لها ارتباطات مختلفة بالمجموعة، الأسبوع الماضي، وأظهرت المزيد من الدول حرصاً على الانضمام رسمياً إلى المجموعة. يذكر أن تركيا تريد أن تصبح أول دولة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تنضم بالكامل إلى منظمة شنغهاي للتعاون.
بعيداً عن منظمة شنغهاي للتعاون، أعلن النظام "الاستبدادي" -على حد وصف الولايات المتحدة- في فنزويلا في عام 2017 عن بطاقة شخصية ذكية لمواطنيها تجمع بين التوظيف والتصويت والمعلومات الطبية بمساعدة شركة الاتصالات الصينية "زد تي إي" (ZTE). وفقاً للتقرير السنوي لعام 2021 لشركة الاتصالات الصينية "هواوي" (Huawei)، فإن الشركة تتفاخر بامتلاكها شبكة عالمية مؤلّفة من 700 موقع محلي مزود بتكنولوجيا المدن الذكية. مقارنة بعام 2015، عندما كان لدى الشركة نحو 150عقداً دولياً في المدن.
منصات المراقبة الصينية المستخدمة للشرطة والأمن العام
Democracies are implicated in digital authoritarianism, too. The US has a formidable surveillance system
الأنظمة الديمقراطية متورطة في الاستبداد الرقمي أيضاً. تمتلك الولايات المتحدة نظاماً ضخماً للمراقبة قائماً على أساس التكنولوجيا الصينية. أظهرت دراسة حديثة أجرتها مجموعة الأبحاث الصناعية "توب تن في بي إن" (Top10VPN) أن أكثر من 700.000 شبكة كاميرات أميركية تديرها شركتا "هيكفيجن" (Hikvision) و"داهوا" (Dahua) الصينيتان.
تدعم الشركات الأميركية أيضاً صناعة الاستبداد الرقمي وهي أطراف رئيسية في سلاسل التوريد المعقدة، ما يجعل العزلة والمساءلة أمراً صعباً. على سبيل المثال، تقوم شركة إنتل بتشغيل خوادم شركة "تياندي" (Tiandy)، وهي شركة صينية معروفة بتطوير "كراسي تحقيق ذكية" يُقال إنها تُستخدم في التعذيب.
شبكات كاميرات هيكفيجن وداهوا خارج الصين
تتجاوز كل الحدود
يذهب الاستبداد الرقمي إلى ما هو أبعد من البرامج والأجهزة. بشكل عام، يتعلق الأمر بكيفية استخدام الدولة للتكنولوجيا لزيادة سيطرتها على مواطنيها.
على سبيل المثال، ازدادت حالات انقطاع الإنترنت التي افتعلتها الجهات الحكومية، كل عام على مدار العقد الماضي. ترتبط قدرة الدولة على قطع الإنترنت بمدى ملكيتها للبنية التحتية للإنترنت، وهي سمة مميزة لدول مثل الصين وروسيا. ومع ازدياد أهمية الإنترنت في جميع نواحي الحياة، يزداد تأثير انقطاعها في زعزعة استقرار الناس والإساءة لهم.
في وقت مبكر من هذا العام، عندما هزت الاحتجاجات المناهضة للحكومة كازاخستان، الدولة العضو في منظمة شنغهاي للتعاون، قطعت الدولة خدمة الإنترنت بالكامل تقريباً لمدة خمسة أيام. خلال هذا الوقت، انتشرت القوات الروسية في المدن الكبرى لتهدئة الوضع. كلف انقطاع خدمة الإنترنت البلاد أكثر من 400 مليون دولار وتوقف الخدمات الأساسية.
تتضمن الأساليب الأخرى نماذج لاستخدام دمج البيانات والذكاء الاصطناعي للعمل على بيانات المراقبة. خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون في العام الماضي، استضاف الممثلون الصينيون ندوة حول مبادرة الخوارزميات الاستراتيجية لألف مدينة، والتي وجّهت الجمهور حول كيفية تطوير "دماغ بيانات وطني" يتضمن نماذج مختلفة من البيانات المالية ويستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليلها وفهمها. وفقاً لموقع منظمة شنغهاي للتعاون، فإن 50 دولة "تجري محادثات" مع مبادرة الخوارزميات الاستراتيجية لألف مدينة.
وعلى نحو متصل، ينتشر استخدام تقنية التعرف على الوجه على مستوى العالم، كما ازداد الاستثمار في تقنيات الحوسبة المرئية المتقدمة التي تساعد في فهم لقطات الكاميرا، لا سيما في روسيا.
انقطاع الإنترنت في عام 2021
"مجتمع أوثق لمنظمة شنغهاي للتعاون"
نوه الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطابه في قمة منظمة شنغهاي للتعاون الأسبوع الماضي، إلى عقلية الحرب الباردة العالمية والموقف الوقائي المتزايد تجاه التجارة. وحثّ الرئيس شي على "اعتماد اتفاقيات التعاون في مجالات التجارة والاستثمار وبناء البنية التحتية وحماية سلاسل التوريد والابتكار العلمي والتكنولوجي والذكاء الاصطناعي في إطار القمة".
ما الحل الذي اقترحه؟ انضمام المزيد من الدول إلى المسار الصيني. على الرغم من تبنيه قيم السلام والتعددية في خطابه، فإنه دعا أيضاً إلى "مجتمع مصير مشترك أوثق لمنظمة شنغهاي للتعاون".
اقرأ أيضاً: لماذا لا يعتبر الوقت مناسباً لحجب الإنترنت؟
وقد بدأ ذلك المستقبل بالتبلور فعليّاً. في اجتماع هذا العام، أعلنت الصين رسمياً عن برنامج تعليمي جديد، وهو معهد الصين ومنظمة شنغهاي للتعاون للاقتصاد والتجارة بجامعة تشينغداو، والذي بدأ في يناير وسيُدرِّب الطلاب في دول منظمة شنغهاي للتعاون ومبادرة الحزام والطريق على موضوعات التنمية الاقتصادية والتجارة الرقمية. (يعتمد هذا على التدريب السابق الذي أجرته الصين على إدارة الوسائط الرقمية مع بلدان مبادرة الحزام والطريق).
من وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن تحرك الدول التي تملك سجلات مثيرة للجدل في مجال حقوق الإنسان مثل إيران وتركيا وبيلاروسيا وميانمار، لدمج اقتصاداتها بشكل أوثق مع منظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها الصين وروسيا، فإن الاستبداد الرقمي مهيأ لانتشار أكبر بكثير وأضرار واسعة النطاق. وستكون إمكانية إيقاف النمو المستمر لهذه الشبكة الشائكة والمتنامية عالمياً محدوداً.