لطالما كان الاتحاد الأوروبي رائداً في مجال تنظيم الخصوصية؛ فالقانون الأوروبي العام لحماية البيانات (GDPR) والقوانين الأوروبية الصارمة لمكافحة الاحتكار ألهمت سنّ تشريعات جديدة في جميع أنحاء العالم. وعلى مدى عقود من الزمن، قام الاتحاد الأوروبي بوضع قوانين لحماية البيانات الشخصية، وحاربَ ما اعتبره استغلالاً تجارياً للمعلومات الخاصة، وتفاخر بلوائحه التنظيمية من خلال مقارنتها مع السياسات الضعيفة حول الخصوصية في الولايات المتحدة.
لكن الإستراتيجية الأوروبية الجديدة لحوكمة البيانات (ملف بي دي إف) تتخذ نهجاً مختلفاً تماماً؛ ففي ظل هذه الإستراتيجية، سيصبح الاتحاد الأوروبي لاعباً نشطاً في تسهيل استخدام البيانات الشخصية لمواطنيها وتحقيق الأرباح منها. وقد كشفت المفوضية الأوروبية عن هذه الإستراتيجية في فبراير 2020، وتحدد فيها تدابير السياسات والاستثمارات التي سيتم إطلاقها خلال السنوات الخمس المقبلة.
تمثل هذه الإستراتيجية الجديدة تحولاً جذرياً في اهتمامات الاتحاد الأوروبي، لتنتقل من حماية الخصوصية الفردية إلى الترويج لمشاركة البيانات باعتبارها واجباً مدنياً. وعلى وجه التحديد، ستقود إلى إنشاء سوق أوروبية شاملة للبيانات الشخصية من خلال آلية تسمى ائتمان البيانات، وهي عبارة عن وكيل يدير بيانات الأشخاص نيابة عنهم وتترتب عليه واجبات ائتمانية تجاه عملائه.
وفي إطار خطة الاتحاد الأوروبي الجديدة، يتم اعتبار البيانات الشخصية إحدى ثروات أوروبا الرئيسية. ومع ذلك، فإن هذا النهج يثير بعض التساؤلات؛ أولاً، إن نية الاتحاد الأوروبي في الاستفادة من البيانات الشخصية التي يجمعها تضعف موقف الحكومات الأوروبية لتنظيم هذا المجال. وثانياً، يمكن أن يؤدي الاستخدام غير السليم لائتمانات البيانات إلى حرمان المواطنين من حقوقهم في بياناتهم الخاصة.
سيتم تنفيذ مشروع الائتمانات -وهو أول مبادرة تقترحها سياسات الاتحاد الأوروبي الجديدة- بحلول عام 2022. ويمتلك المشروع ميزانية قدرها 7 ملايين يورو، سيستخدمها لإنشاء مجموعة أوروبية شاملة من المعلومات الشخصية وغير الشخصية، التي من المفترض أن تشكِّل متجراً جامعاً واحداً للشركات والحكومات التي تسعى للوصول إلى معلومات المواطنين.
ووفقاً لهذا المشروع، لن يُسمح لشركات التكنولوجيا العالمية بتخزين أو نقل بيانات الأوروبيين. وبدلاً من ذلك، سيتوجب عليهم الوصول إليها عبر ائتمانات البيانات. وسيجني المواطنون "عوائد البيانات" التي لم يتم تحديدها بوضوح، ولكنها قد تتضمن مدفوعات نقدية أو غير نقدية من الشركات التي تستخدم بياناتهم الشخصية. ومع تهيئة ما يقرب من 500 مليون مواطن في الاتحاد الأوروبي ليصبحوا مصادر بيانات، ستشكل الائتمانات أكبر سوق بيانات في العالم.
بالنسبة للمواطنين، هذا يعني أن البيانات التي أنشؤوها حول أنفسهم سيتم الاحتفاظ بها في مخدمات عامة وستتولى ائتمانات البيانات إدارتها. وتتطلع المفوضية الأوروبية لتوظيف هذه الائتمانات كوسيلة لمساعدة الشركات والحكومات الأوروبية على إعادة استخدام الكميات الهائلة من البيانات المنتَجة في جميع أنحاء المنطقة واستخراج قيمة منها، ولمساعدة المواطنين الأوروبيين على الاستفادة من معلوماتهم. ومع ذلك، لا تحدد وثائق المشروع كيفية تعويض الأفراد.
لقد اقترح رائد الإنترنت السير تيم بيرنرز لي فكرة ائتمانات البيانات لأول مرة في عام 2018. ومنذ ذلك الحين، اجتذب هذا المفهوم اهتماماً كبيراً. وحالها كحال الصناديق الائتمانية المستخدمة لإدارة ممتلكات الفرد، قد تخدم ائتمانات البيانات تحقيق غايات مختلفة؛ إذ يمكن أن تمثل مؤسسات هادفة للربح، أو يمكن إعدادها لتخزين البيانات وحمايتها، أو للعمل من أجل قضية خيرية.
قامت آي بي إم وماستركارد ببناء ائتمان بيانات لإدارة المعلومات المالية لعملائها الأوروبيين في أيرلندا. كما استخدمت المملكة المتحدة وكندا ائتمانات بيانات لتحفيز نمو صناعات الذكاء الاصطناعي هناك. ومؤخراً، أعلنت الهند عن خطط لإنشاء ائتمانها الخاص بالبيانات العامة لتشجيع نمو شركات التكنولوجيا.
تم تصميم مشروع الاتحاد الأوروبي الجديد على غرار النظام الرقمي في النمسا، الذي يتتبع المعلومات التي ينتجها مواطنوها حول أنفسهم من خلال تعيين معرفات فريدة لهم وتخزين البيانات في أنظمة التخزين العامة.
لسوء الحظ، لا يضمن ائتمان البيانات توفيرَ المزيد من الشفافية؛ إذ إنه يخضع لسلطة ميثاق أنشأه المكلّف بالائتمان، ويمكن صياغة قواعده بشكل يمنح الأولوية لمصالح شخص ما. ويتولى مجلس إدارة الإشراف على الائتمان وإدارته، ما يعني أن الحزب الذي يمتلك عدداَ أكبر من المقاعد سيكتسب هيمنة كبيرة.
من المحتَّم أن يواجه مشروع الائتمانات بعض مشكلات الحوكمة الخاصة به؛ إذ غالباً ما تختلف وجهات نظر الجهات الفاعلة العامة والخاصة عندما يتعلق الأمر بتشغيل بنية تحتية حيوية أو إدارة أصول قيّمة. كما تميل شركات التكنولوجيا إلى تفضيل السياسات التي تخلق فرصاً لمنتجاتها وخدماتها. وعندما تقع أوروبا في مشكلة تضارب المصالح، فقد تتجاهل مسألة الخصوصية.
وفي بعض الحالات، تم بالفعل استغلال ائتمانات البيانات لتجريد الأفراد من حقوقهم في التحكم في البيانات التي يتم جمعها عنهم؛ ففي أكتوبر 2019، رفضت الحكومة الكندية اقتراحاً قدمته شركة سايدووك لابز التابعة لشركة ألفابت لإنشاء ائتمان بيانات لمشروع مدينة تورنتو الذكية. وكانت شركة سايدووك لابز قد صممت الائتمان بطريقة تضمن سيطرتها على بيانات المواطنين. كما واجه ائتمان البيانات في الهند انتقادات بسبب منحه الحكومة وصولاً غير مقيد إلى المعلومات الشخصية من خلال تعريف السلطات على أنها "المؤتَمَن على المعلومات".
ربما يتمثل أحد الحلول الممكنة في إنشاء نظام بيئي لوكلاء البيانات، من القطاعين العام والخاص، يخدم كلٌّ منهما متطلبات مختلفة. وتشبِّه سيلفي دولاكروا ونيل لورانس، مؤسسا هذا النهج التصاعدي، ائتمانات البيانات بصناديق التقاعد، قائلَيْن إنه يجب تنظيمها بإحكام وأن تتمتع بالقدرة على تقديم خدمات مختلفة لمجموعات معينة.
عند وضع مشروع الاتحاد الأوروبي للائتمانات موضع التنفيذ، من المحتمل أن يُحدث تغييراً في مشهد الخصوصية على نطاق عالمي. ولكن للأسف، فإن هذا النهج الجديد لن يمنح المواطنين الأوروبيين بالضرورة مزيداً من الخصوصية أو التحكم في معلوماتهم. كما لم يتضح بعد ما هو نموذج الائتمانات الذي سيتبعه المشروع، لكن السياسات لا توفر حالياً أي طريقة للمواطنين لاختيار عدم الاشتراك فيه.
في جلسة استماع خاصة بمكافحة الاحتكار أجريت مؤخراً في الكونجرس في الولايات المتحدة، أقرّت أربع شركات منصات كبرى علناً باستخدام تقنيات المراقبة والتلاعب بالسوق وعمليات الاستحواذ القسرية للسيطرة على اقتصاد البيانات. يكمن الدرس المنفرد الأكثر أهمية من هذه الاعترافات في أنه لا يمكن الوثوق بالشركات التي تتاجر في البيانات الشخصية لتخزينها وإدارتها. وسيكون فصل المعلومات الشخصية عن البنية التحتية للمنصات خطوة حاسمة نحو كبح قوتها الاحتكارية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الإدارة الجيدة للبيانات.
ومن الناحية المثالية، يَعِد مشروع الائتمانات بأن يقدِّم للعالم طريقة أكثر إنصافاً لالتقاط وتوزيع القيمة الحقيقية للبيانات الشخصية، ولا يزال هناك متسع من الوقت للوفاء بهذا الوعد.