خبراء في مؤسسة قطر يدعون إلى الاستخدام المتوازن والفعّال للتكنولوجيا الرقمية
مع مرور الوقت، تحوّلت الهواتف الذكية من مجرد أداة للتواصل الاجتماعي إلى رفيق درب ومساعد شخصي لا يمكن الاستغناء عنه، بعد أن أخذت التكنولوجيا المُتقدمة في التفنّن في ابتكار أجيال متلاحقة من الهواتف الذكية التي سرعان ما أصبحت ترافقنا في تحركاتنا اليومية كلّها وترسم معالم عاداتنا وعلاقاتنا وحتى هوياتنا. ومع تزايد إمكانية الوصول إلى هذه الأجهزة وسهولة اقتنائها، طوّر البعض ارتباطاً قوياً بها، حتى كادوا يعتمدون عليها في كل جانب من جوانب حياتهم، الأمر الذي عزّز لديهم الشعور بالراحة والأمان عند حملها، وبالضياع والخواء الروحي بدونها.
كما أن القدرة الفائقة لهذه الأجهزة على التقاط الصور ومقاطع الفيديو تسهم في توثيق تجاربنا ولحظاتنا مع الآخرين كما لو كانوا حاضرين بيننا. ومع استمرار تطورها، غَدَت الأجهزة تؤدي دوراً متزايداً في تبسيط العمليات التجارية وتعزيز الإنتاجية؛ لذا أصبح من الضروري التكيُّف مع هذه التطورات واحتضانها، وتسخيرها لصالح أهداف إيجابية، مع الحرص على التريّث في استهلاكها، لكي لا يفضي بنا الأمر إلى ما يُعرف بــ "الإدمان الرقمي".
ولكن قبل التطرق إلى مسألة "الإدمان الرقمي"، علينا أن نعرف ما معنى "الإدمان" في حد ذاته؟ ولماذا ربطنا هذا المصطلح بالاستخدام المفرط للإنترنت؟ وما هي أوجه التشابه بينهما؟ وهل نبالغ في إطلاق هذا المسمى عليه؟
بشكلٍ عام، يُعرف الإدمان بالاستسلام النفسي والجسدي لمادة أو عادة أو سلوك معين، مصحوباً بأعراضٍ جانبية. وهو ما أوضحه مارك جريفثس في دراسته عندما قال: "تتشابه أشكال الإدمان من حيث الأعراض التي تُرافقه، والتي يُمكن تلخيصها في التغير السلوكي، وتقلب المزاج، واللامبالاة، والانسحاب، والصراع الذاتي، والانتكاس".
بينما يُعرف الإدمان الرقمي، أو الاستخدام الإشكالي والاضطرابي للإنترنت بالاستخدام المهووس للأجهزة الرقمية للحد الذي يؤثّر سلباً في حياة الأفراد والمجتمعات، ويستدعي تدخلات فورية ومستدامة من أطراف خارجية. فهو يؤول إلى الإحساس بفراغٍ داخلي وأرق وزيادة في الوزن والعزلة الاجتماعية، علاوة على مشكلات أخرى تؤثّر في المجتمع بشكلٍ مباشر.
في هذا السياق، تقول مها المريخي، أخصائي نفسي مساعد في مستشفى سدرة، عضو في مؤسسة قطر: "يرفض العديد من الناس الاعتراف بالإدمان الرقمي كشكل من أشكال الإدمان، معتبرين أنه أقل خطورة من تعاطي المواد المُخدّرة أو المقامرة. في حين أن إدراك أوجه التشابه بينها يُمكن أن يُقلل من التحديات والعواقب التي يواجهها أولئك الذين يعانون الإدمان الرقمي. ويُعدّ تغيير هذا التصور ضرورياً لتقديم الدعم وتوجيه الموارد لصالح الأفراد المتضررين من هذه المشكلة. يُمكننا أيضاً رسم أوجه تشابه مع أشكال أخرى من الإدمان لتسليط الضوء على خطورة الإدمان الرقمي وتداعياته على الصحة العامة".
تؤكد مها المريخي، تقليل الكثير من الناس من شأن الإدمان الرقمي، معتبرين أنه أقل خطورة من أنواع الإدمان التقليدية الأخرى، مثل تعاطي المخدرات أو المقامرة. وتدعو إلى الوعي بأوجه التشابه بين الإدمان الرقمي وباقي أنواع الإدمان الأخرى، وذلك لكسب فهم أعمق للآثار الخطيرة التي تنتج عن الإدمان الرقمي على حياة الأفراد والصحة العامة، وتقديم دعم أفضل للمتضررين منه.
وعن نسبة تفشي الإدمان الرقمي في مجتمعاتنا العربية، تقول دكتورة عزة عبد المنعم، مدير إدارة البحوث الأسرية في معهد الدوحة الدولي للأسرة، عضو في مؤسسة قطر: "ينتشر الإدمان الرقمي في دول مجلس التعاون الخليجي بشكلٍ كبير، إذ تبلغ نسبته 10.9% تقريباً، وهو رقم آخذ في الارتفاع، بينما يتفق 82% من الأشخاص في هذه الدول على صعوبة التخلي عن وسائل التواصل الاجتماعي، وهي نسبة تتعدى المسموح به".
وتُضيف: "غالباً ما يتجلى الإدمان الرقمي من خلال التفقد المستمر واللاواعي للأجهزة اللوحية، أو قضاء الكثير من الوقت في الألعاب الإلكترونية، أو التصفح الزائد لوسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي، إهمال المسؤوليات الأخرى".
يستخدم بعض الأشخاص الأجهزة الرقمية بشكلٍ متكرر طوال اليوم والليل إلى الحد الذي يؤرقهم ويحرمهم من النوم. ثم يذهبون في صباح اليوم التالي إلى مدارسهم أو جامعاتهم أو جهات عملهم، الأمر الذي يُضاعف من حجم هذه المشكلة. ومع تزايد كمية الوقت الذي يقضيه الأفراد أمام شاشات هواتفهم، تتأثر المؤسسات كافة بانخفاض التركيز والشغف وجودة العمل والعلاقات المهنية، ما يؤثّر سلباً في كلٍ من النمو الفردي والتقدم الاقتصادي الجماعي.
في دراسة سابقة نُشرت عام 2020، أبرز باحثون تأثير الإدمان الرقمي في إنتاجية وأداء الأشخاص، حيث توصلوا إلى أن الإفراط في استخدام الإنترنت يؤدي إلى انخفاض أداء الأشخاص وإنتاجيتهم؛ فاضطرابات النوم وآلام الظهر وإجهاد العين وتشتت الانتباه والرهاب الاجتماعي تؤدي دوراً ملحوظاً في إضعاف إنتاجية المجتمع.
ينعكس الإدمان الرقمي على اقتصاد المجتمع وإنتاجيته من خلال توجيه الموارد والقدرات والطاقات بعيداً عن الأنشطة المفيدة.
في هذا السياق، تقول دكتورة عزة: "إذا افترضنا أن نصف المجتمع يُعاني الإدمان الرقمي، فبالتأكيد سنشهد نقصاً في تحقيق الإنجازات والأهداف، علاوة على تباطؤ النمو المعرفي والتقدم، وتضاؤل المهارات اللازمة للقيام بالعديد من المهام. هذا الوضع من شأنه أن يؤدي إلى أزمات اقتصادية وصحية وثقافية".
وتُضيف: "عندما يواجه المجتمع أزمات صحية كالسمنة المفرطة والمشكلات النفسية والعقلية، ستتجه نفقات الدولة نحو علاج هؤلاء الأفراد، بدلاً من استثمارها في أنشطة ومشاريع تعود بالنفع على المجتمع والمصالح العامة".
يُمكن أن تُثقل تكاليف الرعاية الصحية المرتبطة بمعالجة القضايا الناجمة عن الإدمان الرقمي، مثل القلق والاكتئاب واضطرابات الصحة العقلية الأخرى، كاهل أنظمة الصحة العامة في الدولة، ما يزيد استنزاف الموارد الاقتصادية.
بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية والصحية، يؤدي الإدمان الرقمي إلى طمس الهوية الثقافية للمجتمعات؛ فعندما يتعرض الأفراد للمحتوى العالمي، تطغى بعض الثقافات على الأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى خلق أزمة ثقافية وتبنّي معتقدات وسلوكيات تتعارض مع تلك السائدة في مجتمعاتهم، فضلاً عن تردي صلة الأجيال بالمعرفة والموروث الثقافي.
كما أنه ليس من المستبعد أن تتأثر المشاركة والروابط المجتمعية بفعل الاعتماد على التفاعلات الرقمية، وهو ما من شأنه تعزيز التفكك والرهاب الاجتماعي والانعزال عن الواقع. فقد يُولي البعض أولوية للعلاقات الافتراضية بدلاً من الواقعية المفيدة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فانخفاض التفاعل وجهاً لوجه، والاعتماد الكبير على أدوات التواصل الرقمية، قد يفضي إلى الافتقار إلى مهارات التواصل وانعدام القدرة على قراءة الرسائل غير اللفظية، والتي تُعدّ ضرورية لفهم وجهات نظر الآخرين والتمتّع بالذكاء العاطفي.
وأخيراً وليس آخراً، من تداعيات هذا الإدمان الافتقار إلى الرؤية والإلهام، فالانعزال عن تجارب العالم الواقعي والعيش في عالمٍ افتراضي يحرم الأشخاص من التفاعل والتعرض إلى تجارب الآخرين التي غالباً ما تلهم أفكاراً ووجهات نظر جديدة.
فما الذي يمكن فعله لتفادي هذه الأضرار؟
جواباً عن هذا السؤال، يقول الدكتور ريان علي من كلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة، عضو في مؤسسة قطر: "لكي نتمكن من توليد أفكار واقتراح سياسات ناجحة خاصة بما يتعلق بالجيل الناشئ في منطقتنا، نحن بحاجة إلى الاستثمار في فهم دور الممارسات الوالدية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ذلك لأن النُظم الثقافية والأعراف الاجتماعية لدينا تختلف بطرقٍ قد تؤثّر في انتشار الإدمان الرقمي وجدوى الأساليب الرامية إلى الحد منه".
ويُضيف: "ينبغي للسياسات أن تقيّم فيما لو كانت الممارسات القائمة على تثقيف الآباء وتزويدهم بالأدوات اللازمة للتعامل مع إدمان أطفالهم على الإنترنت ناجحة ومجدية بالفعل. ربما نحتاج إلى تبني ممارسات تركز على الأسرة ككل، بدلاً من التعامل مع القضية باعتبارها قضية تخصُّ المراهقين فقط. أمّا عن المجتمعات، ينبغي للسياسات أن تنظر فيما إذا كان ينبغي للمؤسسات الصحية أن توفّر علاجات للأشخاص الذين يعانون أنواعاً معينة من السلوكيات الرقمية الإشكالية، وربما تلك التي لها علاقة بالإدمان".
بدورها، تقترح دكتورة عزة مجموعة من الإجراءات التي من شأنها الحد من مشكلة الإدمان الرقمي من خلال قولها: "يمكن لصُناع القرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن يأخذوا بعين الاعتبار إطلاق حملات توعية وبرامج محو الأمية الرقمية في المدارس والمجتمعات المحلية لتعليم العادات الرقمية الصحية منذ سن مبكرة، وكذلك ترشيد استهلاك وسائل التواصل الاجتماعي عن طريق تبنّي سياسات تحدُّ من كمية البيانات التي يُمكن لشركات وسائل التواصل الاجتماعي استخدامها لاستهداف المستخدمين، وخصوصاً القاصرين".
وتُضيف: "يُعتبر دمج الوعي بالإدمان الرقمي في الحملات الصحية العامة وخدمات الصحة النفسية وسيلة فعّالة لمعالجة الخطر الذي يُحدق بأبنائنا. على المدارس أيضاً أن تتدخل وتُطلق برامج لا تعتمد على الشاشات وتخلق نهجاً متوازناً لدمج التكنولوجيا في التعليم".
ما هو الدور الذي تضطلع به مؤسسة قطر في مكافحة الإدمان الرقمي؟
فيما يخصُّ جهود مؤسسة قطر الرامية لمكافحة هذا النوع من الإدمان، يقول الدكتور ريان: "لقد استخدمنا نظرية تُسمَّى "نظرية التطعيم" أو "التلقيح السلوكي" التي أثبتت فاعلية لا بأس بها. فبفضل التعاون مع المدرسة السويسرية الدولية في قطر، طبّقنا هذا النهج وحصلنا على نتائج واعدة. حيث يستند هذا النهج إلى تعريض الناس لمواقف تتطلب منهم التشكيك في حُججهم وقدراتهم. على سبيل المثال، "هل تعرف حقاً كيف تجعلك الإنترنت مدمناً؟" فبعد هذا السؤال، يشعر الشخص بالحاجة إلى تطوير، أو معالجة الحجج المضادة. وهذا يشبه تقديم نسخة ضعيفة من الفيروس، حيث يتعين على الجسم بعد ذلك أن يتفاعل بإنتاج أجسام مضادة، ولكن هنا يتعلق الأمر بالأفكار والمواقف".
وذكر دكتور ريان علي نهجاً أكثر أصالةً وجوهرية يتعلق بتعزيز بيئة المدرسة والمنزل من خلال قوله: "يجب الأخذ في الاعتبار أهميتها في نمو الطفل وفقاً لنظرية النظم البيئية لـ "برونفنبرينر"، (التي تشدد على أن البيئة والتفاعل الاجتماعي يؤديان دوراً أساسياً في التنمية البشرية). يمكن أن تكون أدوات التربية الرقمية حلاً، لكن في شكلها الحالي، تركّز على الأبناء، في حين أظهر بحثنا أن المشكلة تنتج عن سلوك الوالدين أيضاً. وبالتالي، نقترح أن تركّز هذه الأدوات على الوالدين وأبنائهم معاً".
هل يستطيع الذكاء الاصطناعي الحد من الإدمان الرقمي؟
الإجابة هي نعم. من خلال مراقبة المحتوى عبر الإنترنت، بإمكان الذكاء الاصطناعي تتبع وتحليل عادات المستخدمين الرقمية، وإرسال تذكيرات حول وقت الشاشة لمساعدة الأفراد على أن يصبحوا أكثر وعياً بسلوكهم. كما يعمل على تصفية المحتوى كحلٍ فعّال، إذ يساعد المستخدمين على تجنب المنصات المسببة للإدمان. بالإضافة إلى ذلك، بإمكان برامج الدردشة والتطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي تقديم موارد لإدارة الأرق والتوتر المرتبط بالإدمان الرقمي، علاوة على توفير استراتيجيات لضمان تصفح الإنترنت بشكلٍ صحي ومتوازن، كما يمكن لهذه التقنيات ربط المستخدمين بمجموعات أو منتديات الدعم، وتعزيز الشعور بالمجتمع من خلال تمكينهم من مشاركة الخبرات والاستراتيجيات لإدارة استهلاكهم الرقمي.
وحول كيفية تعامل الذكاء الاصطناعي مع هذه المعضلة، تقول دكتورة عزة: "يُقدّم الذكاء الاصطناعي العديد من الحلول للحد من المحتوى الإدماني، بما في ذلك الشفافية والمساءلة. ويمكن سن القوانين واللوائح لإلزام منصات التواصل الاجتماعي بالكشف عن خوارزمياتها، خاصة تلك المصممة لتعزيز مشاركة المستخدم على حساب الصحة العقلية".
وتؤكد في هذا السياق أن "لوائح الذكاء الاصطناعي التي تُعطي الأولوية لحماية البيانات يُمكن أن تفيد السياسات التي تقيّد من استخدام شركات التواصل الاجتماعي بيانات المستخدم، خاصة في الإعلانات المستهدفة التي قد تسهم في السلوك الإدماني".
كما يمكن أن يساعد فهم الروابط وأوجه التشابه بين الإدمان الرقمي والأنواع الأخرى من الإدمان على تطوير استراتيجيات شاملة للوقاية والعلاج من هذه المعضلة. على الرغم من أن التكنولوجيا الرقمية لديها القدرة على تعزيز الإنتاجية والاتصال، فإن خصائصها الإدمانية يمكن أن تفضي إلى عواقب اقتصادية وثقافية وصحية وخيمة، ما يستدعي الحاجة إلى الاستخدام المتوازن والواعي للمحتوى الرقمي.
ناقش مؤتمر الذكرى الثلاثين للسنة الدولية للأسرة، الذي نظّمه معهد الدوحة الدولي للأسرة، عضو مؤسسة قطر، يومي 30 و31 أكتوبر، أربع اتجاهات عالمية معاصرة تؤثّر في الأسرة في قطر والمنطقة والعالم، بما في ذلك الإدمان الرقمي وتأثير التكنولوجيا على العلاقات الأسرية، آخذاً بعين الاعتبار أن المؤسسة الأُسرية تُعدّ نواة المجتمع. وخلال الجلسات النقاشية، سلّط المتحدثون والخبراء الضوء على مخاطر الإدمان الرقمي، وعلى الطابع ذي الحدَّين للتكنولوجيا. ودعوا إلى تسخيرها لتعزيز الترابط الأسري والتعبير عن الذات لدى الأطفال، مُقرِّين في الوقت ذاته بالتأثيرات السلبية الناجمة عنها، من قبيل الضغوط النفسية التي تظهر لدى البعض جرّاء التنمر الإلكتروني والتعليقات السلبية.
كما ركّز المؤتمر على ضرورة وضع سياسات أُسرية شاملة تواكب التغيرات التكنولوجية لمواجهة تعقيدات الحياة الحديثة، علاوة على الدعوة لبذل جهود حثيثة من قبل أصحاب القرار والحكومات والمجتمع المدني لتنفيذ التوصيات التي طرحها المؤتمر.