الإبداع البشري والذكاء الاصطناعي: تكامل أمْ صراع في صناعة المحتوى؟

3 دقيقة
حقوق الصورة: shutterstock.com/LariBat

في عام 1950، تساءل عالم الرياضيات البريطاني الأب الروحي لعلوم الحاسوب ومبتكر الآلة آلان تورينغ: "هل يمكن للآلات أن تفكر؟". واليوم، بعد أكثر من 70 عاماً، لم نَعد نتساءل عن قدرة الذكاء الاصطناعي على التفكير فحسب، بل عن قدرته على الإبداع ذاته. 

فهل يمكن للإبداع، الذي لطالما كان سمة الإنسان الفارقة، أن يصبح ساحة تتقاسمها الآلات والبشر أمْ أن جوهر الإبداع سيظل امتيازاً بشرياً خالصاً، كما كان منذ "معلقات امرئ القيس " و"روايات شكسبير".

اقرأ أيضاً: لا تصدق نصف ما ترى ولا ربع ما تسمع وتحقق من كل ما تقرأ

الإبداع البشري: معجزة التفكير الحر

يقول ألبرت أينشتاين: "الإبداع هو رؤية ما يراه الجميع والتفكير فيما لم يفكر فيه أحد،" وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة أن الإبداع البشري ليس مجرد تجميعٍ ذكي للأفكار، بل هو نتاج التجربة والعاطفة والتفاعل مع الحياة ذاتها. فالفنان لا يرسم لوحته لأنه يعرف كيف يمزج الألوان، بل لأنه يشعر بها. وكذلك الشاعر لا يكتب قصيدته بقواعد لغوية مجردة، بل يستلهمها من أحاسيسه العميقة وتجربته الشخصية.

منذ فجر الحضارة، سطر البشر إبداعهم في كل شيء: من الأساطير والقصائد الملحمية إلى الأفلام السينمائية والمنشورات الرقمية التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي. لقد تطورت أدوات التعبير، لكن جوهر الإبداع ظل بشرياً، نابضاً بالحياة. ووفقاً لاستبيان أجرته منصة "بيندر"، فإن 51% من المستهلكين يُفضّلون المحتوى الإبداعي الذي يحمل بصمة إنسانية على المحتوى الذي تنتجه الخوارزميات، ما يبرز تعطش الجمهور للأصالة في عصر الذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي: محاكاة أمْ ابتكار؟

في المقابل، يقدّم الذكاء الاصطناعي اليوم قدرة مذهلة على إنتاج المحتوى من المقالات الصحفية إلى تأليف الموسيقى وحتى الرسم. يمكن لأدوات مثل تشات جي بي تي ودال. إي وديب سيك إنتاج نصوص تبدو بشرية وتصميم صور مذهلة في لحظات. ولكن، هل هذا إبداع حقيقي؟

يقول مارفن مينسكي، أحد أشهر العلماء المختصين بالعلوم الإدراكية والمعرفية في مجال الذكاء الاصطناعي: "الدماغ عبارة عن آلة يمكن تكرار وظيفتها بواسطة الكمبيوتر"، لكن هل يعني هذا أن الآلة يمكنها أن تبتكر كما يبتكر الإنسان؟ 

يعتمد الذكاء الاصطناعي على تحليل أنماط البيانات وإعادة تشكيلها لكنه لا يشعر ولا يفكر كما يفعل البشر. يحاكي، لكنه لا يحلم. يقلد، لكنه لا يخترع من العدم.

ورغم ذلك، فإن تأثير الذكاء الاصطناعي في الصناعة الإبداعية لا يمكن إنكاره. وفقاً لتقرير صادر عن شركة أكسنتشر Accenture عام 2024، فإن 64% من الشركات الإبداعية تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الإنتاجية، بينما أظهرت نتائج استبيان عالمي أن 42% من المؤسسات الرائدة في قطاعي الإعلام والتسويق تعتمد على أدوات الذكاء الاصطناعي في إنشاء المحتوى بشكلٍ كامل أو جزئي.

اقرأ أيضاً: لماذا يجب الحذر من تطوير الذكاء الاصطناعي المستقل بالكامل؟

تكامل أمْ صراع؟

إذا نظرنا إلى المشهد الحالي، سنجد أن العلاقة بين الإبداع البشري والذكاء الاصطناعي ليست بالضرورة صراعاً، بل ربما تكاملاً. 

يستخدم الكُتّاب والمصممون الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة تدعم الإبداع أو تسهّل تنفيذ أفكارهم لكنه لن يكون بديلاً عن الحس الإنساني.

وربما تكمن المشكلة الحقيقية ليس في مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع، بل في مدى استعدادنا كبشر لتسليمه هذا الدور. 

يشير تقرير صادر عن ديل Dell إلى أن 85% من الوظائف ستشهد تغيرات جذرية بحلول عام 2030، حيث سيُدمج الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة في معظم العمليات دون أن يحل محل العنصر البشري تماماً.

ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل التحديات الأخلاقية التي تطرحها هذه التقنيات. بينما يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تعزيز الإنتاجية، فإنه يُثير أيضاً تساؤلات حول ملكية العمل الإبداعي: مَن هو صاحب حقوق الملكية عندما ينتج الذكاء الاصطناعي محتوى بالكامل؟ هل هو المبرمج الذي طوّر الخوارزمية أمْ المستخدم الذي أدرج الأوامر؟ 

إضافة إلى ذلك قد يؤدي الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الإبداعي إلى تقليل التنوع البشري في الأفكار، حيث تعتمد الخوارزميات على بيانات موجودة سلفاً، ما يعني أنها قد تكرر الأنماط ذاتها بدلاً من ابتكار أفكار جديدة. 

اقرأ أيضاً: هل ستميل الكفة لصالح الروبوتات ذات الهيئة البشرية مستقبلاً؟

المستقبل: مَن يقود الإبداع؟

في النهاية، يبقى الإبداع علامة إنسانية فارقة، فمهما بلغت قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج المحتوى، سيظل البشر هم من يمنحونه المعنى، تماماً كما فعلوا منذ نقشوا قصصهم الأولى على جدران الكهوف. والسؤال ليس: "هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يبدع؟" بل "كيف سنستخدمه في خدمة الإبداع البشري؟".

قد تتشكل علاقة جديدة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي تتجاوز الحدود التقليدية. فقد يصبح الذكاء الاصطناعي بمثابة مرآة لخيال الإنسان، يحاكي أفكاره ويغنيها بأبعادٍ جديدة. وبذلك، يتمكن المبدع البشري من استخدام هذه التكنولوجيا محفزاً لإطلاق قدرات جديدة في مجالات غير مسبوقة بدلاً من كونها أداة تنفيذ فحسب.

المحتوى محمي