نشرة خاصة من ماكنزي
مع تولي الآلات الذكية لمجال أكبر من المهام، بدأت الكثير من الشركات العالمية بالتركيز على إعادة تدريب القوى العاملة. وهي محقة في هذا، فإن الموجة المقبلة من تكنولوجيات الأتمتة تعد بمزيد من التغيير في طبيعة العمل في عدة صناعات. ولكن هناك مسألة أخرى تتجاوز هذه التعقيدات التنظيمية حول ماهية العمل الحالية والمستقبلية، وهي مسألة إدارية لم تحظ بما تستحق من الدراسة: أين سيكون هذا العمل؟
توجد بعض الأدلة في بحث من معهد ماكنزي الدولي حول مستقبل العمل في الولايات المتحدة؛ حيث بلغ التفاوت الاقتصادي درجةً عالية في الولايات المتحدة، ويظهر ذلك واضحاً في الاختلافات الحادة لسلامة ومسار الاقتصادات المحلية هناك بين مكان وآخر، مما يعني أن قوى الأتمتة ستؤثر على المستويات المحلية بطرق مختلفة للغاية. ولهذا، فإن استجابة الاقتصادات المحلية لتأثيرات الأتمتة ستؤثر بشكل كبير وبعيد الأمد على الشركات من حيث أماكن التوظيف، وأماكن توضّع العمليات، وأماكن الاستثمار، بل وحتى أماكن البحث عن الزبائن والعملاء.
تغير الأوضاع
يدرس بحثنا الجديد كيف سيبدو مستقبل العمل في 315 مدينة أميركية وأكثر من 3,000 مقاطعة أميركية. وقد وجدت الدراسة أن 25 منطقة حضرية فقط -وما يحيط بها- تمثل أغلبية النمو في الوظائف في البلاد منذ فترة الكساد الكبير، وأن هذه المناطق مستعدة لتوليد نمو في العمل بنسبة 60% في العقد المقبل (كما يظهر في الشكل التوضيحي). وتتضمن هذه المدن الكبرى والعقد الاقتصادية عالية النمو هيوستن ولوس أنجلوس ونيويورك وسياتل، وهي أكثر الاقتصادات حركية في البلاد، وتتضمن حصة كبيرة للغاية من الصناعات عالية النمو والوظائف عالية الأجر. ومن ناحية أخرى، فإن 54 مدينة متأخرة اقتصادياً وحوالي 2,000 مقاطعة ريفية هي موطن ربع سكان أميركا، وتحوي على قوى عاملة متضائلة وأكبر سناً، ونسبة بطالة أعلى، ومستوى أقل من التعليم. ويمكن أن تتعرض هذه المناطق إلى عقد كامل من النمو المتوقف أو حتى السلبي من ناحية الوظائف.
شكل توضيحي:
بين هاتين الحالتين المتطرفتين توجد بعض المدن البينية سريعة النمو، إضافة إلى قطاع كبير "وسطي مختلط". وتتضمن المدن البينية مراكز تكنولوجية صاعدة، مثل بواز في أيداهو وبروفو في يوتاه، وبلدات مثل تشابيل هيل في نورث كارولينا وساوث بيند في إنديانا، وهي بلدات تستطيع أن تستفيد من ميزة وجود جامعات بحثية كبيرة، إضافة إلى مراكز التقاعد النامية التي تتركز في أريزونا وفلوريدا. ويتألف القطاع الوسطي من 180 مدينة تشكل موطن ربع سكان الولايات المتحدة، ولكن نمو الوظائف فيها لا يتجاوز نسبة صغيرة، وهي تتضمن مدناً مثل ديترويت في ميشيغان وبروفيدنس في رود آيلاند وسان دييغو في كاليفورنيا وسان لويس في ميسوري، إضافة إلى مراكز تصنيع مثل جراند رابيدس في ميشيغان وجرينسبورو في نورث كارولينا. ويكمن التحدي في جميع هذه الأماكن في تعزيز النمو الاقتصادي، أو التعرض للتراجع.
إن التباين الواسع بين المناطق المختلفة في أميركا يؤثر بشكل كبير على الشركات من حيث أماكن وكيفية الاستثمار. وعلى سبيل المثال، فإن تغير الأوضاع في أسواق العمالة المحلية سيؤثر على القدرة الشرائية، وستحتاج الشركات التي تتعامل مع المستهلكين مباشرة -مثل شركات البيع بالتجزئة والأغذية والفنادق والمطاعم والمقاهي، وبنوك التجزئة، والرعاية الصحية، والخدمات الشخصية- إلى أن تفهم تفاصيل هذه التوجهات حتى تستوعب كيفية تطور قاعدة المستهلكين لديها. ويمكن أن تؤدي هذه التغيرات إلى تخفيض الشركات لأولوية المواقع في المناطق الضعيفة وبطيئة النمو، والتركيز على المناطق التي تتمتع بنمو أفضل في العمل. أما في الأسواق المزدهرة، فقد ترغب الشركات بالتوسع والتحديث أو إطلاق منتجات جديدة وفاخرة.
موازنة العوامل المتضاربة
إن اتخاذ القرار بالاستثمار أو عدم الاستثمار ليس ببساطة تتبع النمو؛ حيث إن الشركات من جميع الأنواع يمكن أن تستفيد من دراسة الفوائد الناتجة عن وجود مجموعة واسعة من خيارات المواقع، لأن المدن الكبرى والمراكز عالية النمو تعاني أيضاً من مشاكل خاصة بها، بدءاً من ارتفاع أسعار الإسكان ووصولاً إلى الازدحام والتلوث.
وقد قررت بعض الشركات الخروجَ من المنافسة الحادة على الكفاءات في أسواق العمل الأكثر حركة، والتوسع في المدن منخفضة التكاليف ذات المساكن معقولة الثمن ونوعية الحياة الجذابة. وإذا قامت الشركة بتوظيف أعداد كبيرة من السكان في هذه الأماكن، فقد تزيد من مستوى ولاء الموظفين فيها، كما ستصبح من الخيارات الأهم للعمل بالنسبة للخريجين المحليين. وفي الواقع، يجب ألا ننسى أن 200 من أصل أضخم 500 شركة في الولايات المتحدة من حيث الدخل تمتلك مقرات رئيسية خارج المدن الكبرى والمراكز عالية النمو الخمس والعشرين. وعلى سبيل المثال، فإن مدناً مثل ديترويت وسان لويس تتضمن الكثير من الشركات الكبيرة التي يمكن أن تكون جذابة للعمل التجاري بين الشركات، الذي يركز على العملاء بين المؤسسات والمنظمات المختلفة.
وعلينا ألا نستبعد تماماً المناطق التي تعاني من وضع اقتصادي عصيب. فقد تكون مناطق صالحة للعمليات الداخلية في الشركات طالما أنها تتمتع باتصال جيد بالإنترنت. وعن طريق تعديل منتجات وخدمات وأسعار الشركة، يمكن أن تكون هذه المناطق جذابة وأقل تنافسية. كما تعني التكنولوجيات الجديدة التي تسمح بالعمل عن بعيد أن الموظفين يمكن أن يعيشوا في أي مكان، وهو ما يمكن أن يوسع إلى حد كبير من مجموعة الكفاءات في الشركة مع تخفيض تكاليف الإسكان.
ردم الهوة
من التحديات الأساسية لجميع الشركات، بغض النظر عن مكان عملها، هو هدم الهوة بين قدراتها الحالية وحاجاتها المستقبلية، التي تتضمن مجموعة أكثر تعقيداً وتطوراً من المهارات، خصوصاً المهارات التكنولوجية والمهارات اللينة الاجتماعية العاطفية عالية المستوى. وستحتاج الكثير من الشركات إلى الاستثمار في إضافة قدرات داخلية مخصصة بالكامل لتعليم وتدريب وتقييم الموظفين بشكل متواصل. وبالنسبة لشركات أخرى، خصوصاً تلك التي تعمل خارج الأماكن عالية النمو التي تجتذب الكفاءات، فقد يكون الحل في عقد شراكات مع الكليات والجامعات المحلية لتطوير عملية بناء الكفاءات فيها.
أما الهوة الثانية التي يجب ردمها فهي الهوة بين الشرائح الاقتصادية المختلفة؛ حيث إن عصر الأتمتة يمكن أن يوسع من التباينات الموجودة سابقاً بين المدن عالية النمو والمناطق الريفية ذات الوضع الاقتصادي العصيب، وبين العمال مرتفعي الأجور وغيرهم. وفي المجتمعات المزدهرة، مثل سياتل، تزامن ارتفاع أجور المساكن مع تزايد واضح في نسبة المشردين. وتمثل معالجة مشكلة الفقر وغيرها خياراً آخر يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية من بين خيارات الاستثمار والمساهمة المدنية للشركات. وقد أعلنت مؤسسة الطاولة المستديرة للأعمال -التي تتضمن 181 رئيساً تنفيذياً- مؤخراً عن الالتزام بمعايير أخرى إلى جانب مصالح المساهمين في الشركات، مثل إعادة تدريب القوى العاملة والقضايا البيئية، وهي دلالة واضحة على أن الشركات بدأت تفكر في المستقبل بشكل أكثر جرأة وأوسع نطاقاً.
وعلى الرغم من أن هذه الملاحظات تعتمد على بحث يركز على الولايات المتحدة، إلا أن المسائل التي تتمحور حولها عالمية بطبيعتها؛ حيث إن الأتمتة تمثل ظاهرة عالمية، كما أن المدن عالية النمو تلعب دور محفز هام للنمو الاقتصادي العالمي، وستتطور القرارات الاستثمارية للشركات بناء على نتائج هذه التباينات في النمو، وتساعد على تغييرها.
ويتطلب عصر الأتمتة من الرؤساء التنفيذيين في الولايات المتحدة وغيرها فهماً أفضل لكيفية تأثير التغير التكنولوجي وتوسع التباينات الجغرافية على الكثير من القرارات الاستثمارية في عدة مسائل، بدءاً من التوظيف وتطوير المهارات وصولاً إلى تقديم المنتجات ودراسة الأثر الجغرافي. كما يجب على قادة الأعمال أيضاً أن يدرسوا تأثير قراراتهم المتعلقة بالأتمتة على المجتمعات المحلية التي يعملون فيها، ويسعوا عند الإمكان إلى استغلال الفرص لقيادة الناس والمجتمعات نحو النجاح.