كيف يتم توظيف الواقع الافتراضي لاكتشاف الهوية الصوتية والشمية للمدن؟

4 دقائق

عندما يفكر ديفيد هاوز بمدينته الأم مونتريال، فهو يفكر في مزيج متناغم من أجراس الكاريلون وروائح خبز البيغل الذي يُطهى فوق نيران الحطب. ولكن عندما توقف في مكتب السياحة المحلي ليسأل أين ينصحون بذهاب الزوار لشم المدينة وتذوقها والاستماع إليها، قابله الجميع بنظرات مستغربة.

يقول هاوز، وهو مؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً "مجموعة الدراسات الحسية" ( The Sensory Studies Manifesto) ومدير مركز جامعة كونكورديا للدراسات الحسية، وهو مركز تجمع لحقل جديد يتنامى بسرعة وغالباً ما يشار إليه باسم "الحضرية الحسية": "إنهم لا يعرفون سوى الأشياء التي يمكن الاستمتاع برؤيتها، لا عوامل الجذب الأخرى للمدينة، مثل معالم الصوت والرائحة الشهيرة".

اقرأ أيضاً: توظيف تكنولوجيا النانو لتطوير المدن الذكية

وفي كافة أنحاء العالم، يعمل الباحثون مثل هاوز على دراسة تأثير المعلومات غير البصرية على تحديد شخصية المدينة وأثرها على الحياة فيها. وباستخدام أساليب متعددة، تتراوح بين جولات التقاط الصوت وخرائط الرائحة بتقنيات بسيطة، وصولاً إلى التنقيب في البيانات والأجهزة القابلة للارتداء والواقع الافتراضي، يواجه هؤلاء الباحثون ما يرونه تحيزاً بصرياً يؤدي إلى وجهة نظر ضيقة في التخطيط الحضري.

نزهات صوتية فريدة

يقول الأكاديمي والموسيقي أوغوز أونير: "إن إغلاق عينيك لمدة عشر ثوانٍ وحسب يعطيك إحساساً مختلفاً تماماً بالمكان".

أمضى أونير سنوات عديدة في تنظيم نزهات صوتية في إسطنبول، حيث يصف المشاركون معصوبو الأعين ما يسمعونه في أماكن مختلفة. وقد تمكن من خلال أبحاثه من تحديد أماكن يمكن زرع النباتات فيها للتخفيف من ضجيج السير، أو حيث يمكن بناء أورغن موجي لتضخيم الأصوات المهدئة للبحر، وهو شيئ أصابته الدهشة عندما اكتشف أن الناس بالكاد يسمعونه، حتى على الواجهة البحرية.

ويقول أونير إن المسؤولين المحليين أبدوا اهتمامهم بنتائجه، وإن لم يأخذوها بعين الاعتبار حتى الآن في المخططات الحضرية. ولكن هذا النوع من الملاحظات الفردية الحسية حول البيئة أصبح قيد الاستخدام في برلين، حيث يقوم المواطنون بتحديد المناطق الهادئة باستخدام تطبيق جوال مجاني لإدماجها في أحدث خطط المدينة لمواجهة الضوضاء. وفي إطار قوانين الاتحاد الأوروبي، فإن المدينة ملزمة الآن بحماية هذه الأماكن من أي زيادة في الضجيج.

اقرأ أيضاً: خوارزمية تعلم عميق يمكنها كشف الزلازل بفلترة ضجيج المدينة

وكما يشرح الباحث المساعد في جامعة كلية لندن، فرانشيسكو أليتا: "عادة ما يتم تحديد المناطق الهادئة من وجهة نظر شاملة، إما بناء على استخدام الأرض أو معاملات عالية المستوى، مثل البعد عن الطرقات السريعة. وهذه هي أول حالة سمعت بها من حيث استخدام معلومات حسية لتوجيه السياسات".

وبوصفه مشاركاً في مشروع مؤشرات المشهد الصوتي الذي يموله الاتحاد الأوروبي، يساعد أليتا على بناء نماذج تنبؤية لاستجابة الناس لبيئات صوتية مختلفة بإدماج مشاهد صوتية مسجلة مختلفة، سواء أكانت نشطة أو هادئة، ضمن قاعدة بيانات عامة، واختبار ردود الفعل التي تثيرها، سواء أكانت عصبية أو نفسية. ويقول الخبراء إن هذه الأدوات ضرورية لبناء إطار عملي لضمان إدماج العناصر المتعلقة بالحواس المتعددة في معايير التصميم وعمليات التخطيط للمدن.

ولكن ما زال المختصون في هذا الحقل يتجادلون حول أفضل طريقة لتحديد استجابة الناس للبيئات الحسية المختلفة. وقد قرر هاوز وزملاؤه اعتماد مقاربة بطابع أكثر قرباً من الناس والأماكن، وذلك باستخدام الملاحظات والمقاربات لتطوير مجموعة من أفضل الممارسات للتصميم الحسي الجيد للأماكن العامة. كما قرر باحثون آخرون التركيز على الأساليب المتطورة تكنولوجياً، وذلك باستخدام الأجهزة القابلة للارتداء لتتبع بيانات القياسات الحيوية مثل تغيرات معدل نبض القلب كمؤشرات تدل على الاستجابات العاطفية للتجارب الحسية المختلفة. ويعتمد مشروع "غو غرين روتس" (GoGreen Routes) على هذه المقاربة أثناء دراسته لكيفية إدماج الطبيعة ضمن المساحات الحضرية بطريقة تحسن صحة البشر وحالة البيئة في نفس الوقت.

اقرأ أيضاً: ما هي المدن الذكية؟ وما هي أبرز التكنولوجيات التي تجعلها ذكية حقاً؟

يقول أحد الباحثين في هذا المشروع والعامل في مختبرات نوكيا بيل في كامبريدج، دانييل كويرسيا: "نحن نعمل على بناء مجموعة من العناصر وتأثيراتها المركبة للحصول على تجربة كاملة للمكان". وقد ساعد كويرسيا سابقاً على تطوير "خرائط الكلام" و"خرائط الروائح" لأصوات وروائح المدينة بالتنقيب في بيانات التواصل الاجتماعي. وقد وجد المشروع الأخير ترابطاً قوياً ما بين الإحساس الشمي لدى الناس ومؤشرات جودة الهواء التقليدية. وبمساعدة غو غرين روتس، سيستخدم تكنولوجيا الأجهزة القابلة للارتداء لتقييم تأثير تحسينات التصميم للمساحات الخضراء الجديدة والموجودة مسبقاً على الوضع العام للناس، ومدى مطابقتها للنتائج المطلوبة.

تخطيط مدن صوتي

وفي جامعة ديكين في أستراليا، يسعى أستاذ العمارة بو بيزا إلى تحقيق تجربة الاندماج الكامل. ويقوم فريقه بإضافة الأصوات –وفي نهاية المطاف، الروائح والملمس أيضاً- إلى بيئات الواقع الافتراضي بحيث يستطيع مسؤولو المدن استخدامها لتقديم مشاريع التخطيط إلى حملة الأسهم. ويقول بيزا: "يصعب على الكثير من الناس تحقيق تصور جيد للشوارع والمتنزهات والساحات بالاعتماد على النمذجة الساكنة على الورق. إن القدرة على "التنزه" في المكان وسماع الأصوات فيه تزيد من استيعاب الوضع".

ومع تزايد انتشار عمليات جمع بيانات التجارب الحسية للناس، يشير الكثير من الخبراء بنبرة تحذيرية إلى ضرورة أخذ المخاوف المتعلقة بالخصوصية والمراقبة بعين الاعتبار. وعند أخذ هذه التجارب الحسية بعين الاعتبار في التخطيط، يتعين أيضاً مراعاة مسائل المساواة والشمولية. وعادة ما تتعرض التجمعات السكانية الحضرية المهمشة إلى أسوأ آثار التلوث بالضجيج والروائح الكريهة بسبب الطرقات السريعة والمصانع، كما أنها في نفس الوقت مستهدفة في أغلب الأحيان بالشكاوى بسبب الضجيج عند تجميلها على سبيل المثال.

تقول عالمة الاجتماع المختصة بالثقافة الحضرية في جامعة برونيل بلندن مونيكا مونتسيرات ديغين: "في أغلب الأحيان، لا تكون التصورات الحسية حيادية أو ذات طبيعة بيولوجية فحسب، فوجهة نظرنا حول الأشياء التي تبعث على السرور أو الإزعاج تتضمن الكثير من التأثيرات الثقافية والاجتماعية". يعتمد مخططو المدن في برشلونة ولندن على أبحاثهم حول التصورات الحسية للمساحات العامة وقيام "البنى الهرمية الحسية"، كما تشير إليها، بشمول أو استبعاد مجموعات محددة من الأشخاص.

اقرأ أيضاً: كيف تستفيد المدن الذكية من الحوسبة الموزعة لتسهيل الوصول إلى الخدمات؟

وتستشهد ديغين بمثال يتعلق بأحد أحياء لندن، حيث أزيلت المطاعم زهيدة التكاليف التي كانت تمثل أمكنة لتجمع الشباب المحليين لتحل محلها مقاهٍ عصرية. وتقول: "كانت رائحة الدجاج المقلي تنتشر في المكان"، ولكن الساكنين الجدد كانوا يجدون هذه الرائحة منفرة بدلاً من أن تكون محببة وجذابة. وتقول: "أما الآن، فقد حلت محلها رائحة الكابوتشينو".

المحتوى محمي