تُعتبر دفقات أشعة جاما أقوى الانفجارات في الكون المعروف، ويُعتقد بأنها ناجمة عن انهدام نجم ضخم متحولاً إلى ثقب أسود أو نجم نيوتروني.
والآن، اكتشف العلماء دفقتين أشد مما كنا نتخيل؛ ففي ثلاثة أبحاث جديدة منشورة في مجلة Nature، أبلغ فريقان من الفلكيين عن اكتشاف دفقتين من أشعة جاما، تحمل كل منهما مقداراً من الطاقة يتجاوز طاقة الدفقة التي كانت تحمل الرقم القياسي، وقد وصلت إحداهما إلى 10 أضعاف هذه الطاقة. ستساعدنا هذه الاكتشافات غير المسبوقة على معرفة المزيد حول هذه الأحداث الفريدة من نوعها، وترسم صورة أكثر وضوحاً حول ما كان يجري في أقاصي الكون منذ مليارات السنوات.
يقول رازميك ميرزويان، وهو فيزيائي فلكي من معهد ماكس بلانك، ومؤلف مشارك في بحثين من هذه الأبحاث: "تفوق دفقات أشعة جاما في طاقتها كل ما نعرفه عنها، إنها مذهلة للغاية".
اكتُشفت الدفقتان عن طريق مرصدين: الأول هو نظام تشيرينكوف الكبير لتصوير أشعة جاما بالاعتماد على الغلاف الجوي (اختصاراً: ماجيك MAGIC)، وهو يعتمد على تلسكوبين في إحدى جزر الكناري، والآخر هو نظام التصوير المجسم للطاقة العالية (اختصاراً: هيس HESS)، وهو مصفوفة من خمسة تلسكوبات في ناميبيا. ويستخدم كلا النظامين ما يُسمى بتلسكوبات تشيرينكوف للتصوير الهوائي (إياكت IACTs).
عندما تصطدم أشعة جاما عالية الطاقة بالغلاف الجوي للأرض، فإن التفاعل يؤدي إلى تحول جزيئات الهواء إلى شلال من أزواج إلكترون-بوزيترون. وهذه الأزواج تنطلق بسرعة عبر الغلاف الجوي، وتطلق ما يُسمى بإشعاع تشيرينكوف. فتقوم تلسكوبات إياكت برصد هذا الشلال الإشعاعي، ويمكن تركيب وتحليل البيانات الناتجة لتحديد طاقة واتجاه الفوتونات الأصلية عالية الطاقة، أي أشعة جاما، التي ضربت الغلاف الجوي.
اكتُشفت أول دفقة، التي تحمل اسم GRB 190114C، في 14 يناير. تم كشفها مبدئياً عن طريق تلسكوبين فضائيين، ومن ثم استُخدم هيس لرصدها في العمق بمجرد أن حُددت إحداثياتها. وقد اكتشف ماجيك طاقات الفوتونات في الوهج اللاحق للدفقة GRB 190114C (أي الجزء المتضائل منها) بمستويات تفوق مجال التيرا إلكترون فولت، أي تريليون ضعف من طاقة الضوء المرئي (التي تساوي حوالي 1 إلكترون فولت). وحتى الآن، كان سديم السرطان أكثر مصادر طاقات تيرا إلكترون فولت سطوعاً، غير أن هذه الدفقة الجديدة تفوق هذه الطاقات بمعامل 100، وتحمل حالياً الرقم القياسي للمصدر الأكثر سطوعاً للفوتونات من مستوى التيرا إلكترون فولت.
أما الدفقة الثانية GRB 180720B، فقد اكتُشفت في 20 يوليو، 2018. وكانت طاقاتها فوق 0.1 تيرا إلكترون فولت، ولكنها أضعف من 1 تيرا إلكترون فولت، في حين أن الدفقات السابقة لم تتجاوز 100 جيجا إلكترون فولت. وقد قيست الدفقة في مرحلة الوهج اللاحق، ولهذا فلا بد أن الطاقات في الانبعاثات الأولية كانت أعلى من ذلك، كما يقول ميرزويان.
وقد كشفت عمليات الرصد اللاحقة باستخدام مراصد وأدوات أخرى أن GRB 190114C صدرت من مجرة تبعد 4.5 مليار سنة ضوئية عن الأرض، في حين أن GRB 180720B صدرت عن مصدر يبعد 6 مليار سنة ضوئية.
وتنتج جميع دفقات أشعة جاما خارج درب التبانة، وعادة ما تصدر عن بعد مليارات السنوات الضوئية من مجرات ذات نشاطٍ عالٍ في تشكيل النجوم الضخمة. وعلى الرغم من أننا لا ندري سبب هاتين الدفقتين تحديداً، فنحن نعرف أنهما من الدفقات "طويلة الأمد"، أي أنها تنتج عندما ينهار نجم ضخم من نوع نادر سريع الدوران متحولاً إلى ثقب أسود أو نجم نيوتروني شديد المغنطة يسمى بالنجم المغناطيسي، وذلك وفقاً لبينج زانج، وهو فيزيائي فلكي من جامعة نيفادا في لاس فيجاس، ولم يشارك في هذه الدراسات. ويمكن أن تنتج دفقات جاما عن أي من الجسمين، وفي هذه الحالة، وصلت بشكل مباشر إلى الأرض، من حسن حظ الفلكيين.
إضافة إلى هذه الأرقام القياسية الجديدة، فإن هاتين الدفقتين تعطينا بعض المعلومات حول كيفية حدوث هذه الظواهر؛ حيث إن الآلية الوحيدة التي يمكن أن تُنتج انبعاثات عالية الطاقة بهذا الشكل هي التبعثر الصاعد للفوتونات نحو طاقات أعلى بسبب التصادمات مع الإلكترونات المسرّعة. ولطالما اعتقد الكثير من العلماء، بما فيهم زانج، بوجود هذه الآلية من الناحية النظرية.
وكما حدث عند اكتشاف الأمواج الثقالية، فإن الأمل كبير في أن هذا الاكتشاف يعني أننا سنتمكن من كشف المزيد من دفقات أشعة جاما عالية الطاقة، وتوصيفها بمزيد من التفصيل. وعادة ما تكون دراسة الأجسام التي تقع على بعد مليارات السنوات الضوئية صعبة للغاية، وتمثل هذه الدفقات بعضاً من الإشارات القليلة التي يمكننا أن نلتقطها، والتي تخبرنا شيئاً عما يحدث في أقاصي الكون.