يعتبر البحث عن المادة المظلمة من أهم عمليات البحث العلمي في وقتنا الحاضر. ويعتقد العلماء أن هذه المادة تملأ الكون، وأن الدليل على وجودها يكمن في طريقة دوران المجرات. وبالفعل، فإن المجرات تدور بسرعة كبيرة يفترض أن تؤدي إلى تطايرها في كل مكان، إلا إذا كانت هناك كتلة مخفية تولد حقلاً ثقالياً كافياً للحفاظ على تماسك هذه المجرات.
هذا الدليل جعل الفيزيائيين يسعون جاهدين للبحث عن المادة المظلمة على الأرض. وقد بنوا العشرات من المراصد، يقع معظمها عميقاً تحت الأرض حيث يكون ضجيج الخلفية منخفضاً. وتنتظر الشهرة العلمية والثروة من يصل أولاً إلى نهاية هذا السباق، حيث أن المجموعة التي ستجد المادة المظلمة ستنال على الأرجح جوائز مجزية.
ولكن حتى الآن، لم يعثر الفيزيائيون على أي شيء على الإطلاق، ويبدو أن هذه المادة المظلمة بارعة للغاية في لعبة الغميضة، أو أن الفيزيائيين كانوا يبحثون في المكان الخاطئ. ويحتمل أن جسيمات المادة المظلمة صغيرة للغاية لدرجة أنه يُستعصي كشفها بالتجارب الحالية، ولهذا، يرغب العلماء -وبشدة- بوسائل أفضل وأكثر حساسية لكشف هذه الجسيمات.
وهنا يأتي دور يونيت هوشبيرج من إحدى جامعات الشرق الأوسط، وبعض من زملائه، الذين قاموا بتطوير حساس جديد واعد مبني على أسلاك صغيرة فائقة الناقلية. وقد بنى الفريق نموذجاً أولياً يبين بعض النتائج الواعدة.
يقوم الجهاز الجديد على مبدأ مباشر، حيث أن تخفيض درجة حرارة بعض المعادن إلى ما تحت الحرارة الحرجة يؤدي إلى أنها تصبح ناقلة بدون مقاومة، ولكن ما أن ترتفع الحرارة فوق هذه العتبة، سيختفي سلوك الناقلية الفائقة هذا.
يعلم الفيزيائيون أن المادة المظلمة لا تستطيع أن تتفاعل بشكل قوي مع المادة المرئية، وإلا لتمكنوا من رؤيتها من قبل. ولكن جسيمات المادة المظلمة يمكن أن تتصادم بشكل مباشر مع الجسيمات العادية.
هذه التصادمات نادرة، لأن المادة العادية مؤلفة في معظمها من الفراغ وحسب، أي أن جسيمات المادة المظلمة يمكن أن تعبرها مباشرة. ولكن عندما تتصادم مع نوى الذرات أو الإلكترونات في أية مادة، فإنها ستهتز، وبالتالي سترتفع حرارتها.
تتميز الأسلاك النانوية فائقة الناقلية في كشف هذا الارتفاع في الحرارة، حيث أن التسخين يتسبب في فقدان جزء صغير من السلك لناقليته الفائقة، وهو ما يؤدي إلى نبضة في الجهد الكهربائي يمكن قياسها. إضافة إلى هذا، فإن هذا الجهاز لا يعطي نتائج إيجابية خاطئة إلا فيما ندر. قام هوشبيرج وزملاؤه باختبار هذه الفكرة ببناء نموذج أولي. ويتألف هذا الجهاز من مجموعة من الأسلاك النانوية المصنوعة من سيليسيد التنجستين التي لا يتجاوز عرضها 140 نانو متر (يبلغ ثخن الشعرة البشرية حوالي 100,000 نانو متر) بطول 400 ميكرو متر. يوضع الجهاز بأسره ضمن حرارة لا تتجاوز بضع درجات فوق الصفر المطلق، بحيث تصبح أسلاك سيليسيد التنجستين في حالة من الناقلية الفائقة. بحث الفريق بعد ذلك عن نبضات الجهد التي قد تكشف وجود تصادمات مع المادة المظلمة. وبوجود تدريع مناسب، لم يكتشفوا أية نبضات خلال قياساتهم التي دامت لفترة 10,000 ثانية.
تعبر هذه النتيجة عن وجود قيود هامة على نوع المادة المظلمة التي يمكن أن تكون موجودة، ودرجة كثافتها، كما يضع قيوداً على أنواع أخرى من الجسيمات التي يشتبه الفيزيائيون بوجودها.
من هذه الجسيمات "الفوتون المظلم"، وهو بشكل مبسط يمثل مكافئ الفوتون العادي في المادة المظلمة. فإذا وجدت هذه الفوتونات، فهذا يعني أن الحساس الجديد لم يلتقط أياً منها. يقول هوشبيرج وزملاؤه: "إن النتائج التي حصلنا عليها من هذا الجهاز وضعت قيوداً هامة على التفاعلات ما بين الإلكترونات والمادة المظلمة، بما في ذلك أقوى القيود الأرضية حتى الآن على امتصاص الفوتونات المظلمة من رتبة ما تحت الإلكترون فولت".
إنه عمل هام، نظراً لأن الأسلاك النانوية لا تتجاوز بضعة نانو جرامات في الوزن. أما المرحلة المقبلة فهي تصنيعها على نطاق أكبر. يقول هوشبيرج وزملاؤه أن هذه التكنولوجيا ناضجة نوعاً ما، وبالتالي سيكون هذا ممكناً في وقت قريب. وبالفعل، يقدّر الفريق أنه بإمكان مختبر أكاديمي أن ينتج ألف كاشف بعرض 200 نانو متر بكتلة كلية تساوي 1.3 جرام خلال سنة واحدة فقط: "ويمكن تحقيق أضعاف هذا الرقم بمجهود صناعي".
هذا يعني أن كاشفاً من رتبة الكيلو جرام قد يكون ممكناً في المستقبل القريب، وسيضاهي هذا الجهاز الأجهزة المستخدمة حالياً للبحث عن المادة المظلمة، ولكنه قد ينظر إلى الطاقات المختلفة بطريقة مختلفة.
قد تتمكن الأسلاك النانوية فائقة الناقلية من اكتشاف المادة المظلمة يوماً ما، على فرض أنها موجودة طبعاً.
مرجع: arxiv.org/abs/1903.05101: كشف المادة المظلمة بالأسلاك النانوية فائقة الناقلية.