على بُعد 20 كيلومتراً جنوب غرب شتوتغارت في ألمانيا، يقع مركز بيانات تابع لشركة آي بي إم (IBM) الأميركية. وفي ربيع عام 2021 أصبح هذا المركز موقعاً لأقوى حاسوب كمومي في قارة أوروبا، إنه الحاسوب الكمومي آي بي إم كوانتوم سيستم ون (IBM Quantum System One) المعروف باسم كيو سيستم ون (Q System One)، تم وضع هذا الحاسوب في غرفة زجاجية مقاومة للرصاص تصل درجة الحرارة داخلها إلى 273 درجة تحت الصفر، ويظهر بشكل يشبه الجرس الذي يتدلى مع أنابيب وأسلاك نحاسية اللون.
دماغ هذا الحاسوب المعروف باسم فالكون هو معالج بقدرة 27 كيوبت. هذا الرقم قد تظنه صغيراً، لكن بالنسبة لحاسوب يعتمد على مبادئ فيزياء الكم، يستطيع خلال عدة ثوانٍ أن يجري عمليات حسابية تحتاج أقوى الحواسيب العملاقة إلى آلاف السنين حتى تكملها.
حاسوب آي بي إم الكمومي ليس الوحيد من نوعه، فالعديد من الشركات في العالم تبني حواسيب كمومية أيضاً بما في ذلك جوجل وأمازون ومايكروسوفت. مثل هذه الحواسيب تكلف مليارات الدولارات، لكن الإنفاق الذي يتم صرفه لإنشائها، يمكن أن يحقق عائداً مادياً كبيراً بفضل قدرات الحوسبة الفائقة التي قد يوفرها.
اقرأ أيضاً: ما هو الفرق بين الحاسوب العادي والحاسوب الكمي؟
استخدامات الحواسيب الكمومية اليوم
معظم الاستخدامات التي تمت حتى الآن كانت تجريبية بغرض تقييم أداء وفائدة الحواسيب الكمومية. نستعرض مثالين على هذه التجارب:
تقليل الازدحام في المدن
العاصمة الصينية بكين هي إحدى أكثر المدن المكتظة بالسكان في العالم، وفيها عدد كبير من السيارات التي تسير في شوارعها. هذا يؤدي إلى ازدحام مروري واختناقات مرورية في كل مكان. لذلك، يكون التنقل من مكان إلى آخر بالسيارة داخل المدينة صعباً للغاية.
في مشروع تجريبي، قامت شركة فولكس فاغن الألمانية باختبار حاسوب كمومي للمساعدة في التحكم بحركة المرور، حيث قامت باستخدام الحاسوب لتحليل بيانات 10 آلاف سيارة أجرة في المدينة. وبناءً على النتائج التي تم جمعها، تمكنت الشركة من تطوير خوارزمية تستطيع توجيه السائقين داخل المدينة لتجنب الازدحام المروري.
من خلال هذه الخوارزمية، تمكن الباحثون من التنبؤ بحدوث الاختناقات المرورية قبل 15 دقيقة من حصولها، وبذلك، يمكن تجنب هذه الاختناقات عن طريق توجيه السيارات بعيداً عنها.
وفقاً لشركة فولكس فاغن، تمكن الحاسوب الكمومي من تحليل كل مسارات السيارات وإعادة ضبطها بالكامل خلال 1 - 3 ثوانٍ.
هذه التجربة ليست حلاً لمشكلات المرور في كل مكان، لكنها تظهر مدى القدرة والفائدة التي يمكن أن توفرها الحواسيب الكمومية القادرة على تحليل الكثير من البيانات بسرعة كبيرة.
اقرأ أيضاً:
القطاع المالي
تعتمد البنوك والمؤسسات المالية في كل أنحاء العالم على التكنولوجيا، وتعتبر الحوسبة الكمومية تكنولوجيا جديدة مثيرة للاهتمام يمكن أن تساعد في تحليل بيانات السوق بشكل سريع جداً، ما يساعد خبراء الاقتصاد على استخلاص نتائج مفيدة وتنبؤات بحركة السوق واحتياجاته.
منذ عام 2018، يتعاون بنك جي بي مورغان تشيس (JPMorgan Chase) الأميركي مع شركة آي بي إم الأميركية للتعرف إلى فوائد الحواسيب الكمومية في تحليل بيانات السوق.
اقرأ أيضاً: هل ستؤدي الحواسيب الكمومية إلى انهيار معايير الأمن الرقمي؟
الاستخدامات المتوقعة للحواسيب الكمومية في المستقبل
الأمثلة التي ذكرناها أعلاه هي مجرد أمثلة تجريبية على استخدام قوة الحوسبة الفائقة التي توفرها الحواسيب الكمومية، كل الحواسيب التي استُخدمت في هذه التجارب هي حواسيب لا تزال في مرحلة التطوير، وهي غير مستقرة ولا تعمل لفترة طويلة لأنها تحتاج إلى ظروف خاصة من درجة الحرارة والضغط والعزل عن الوسط الخارجي، وهي شروط لم يتمكن العلماء حتى الآن من توفيرها، ما يجعل نتائجها غير صحيحة.
لكن في المستقبل القريب، من المتوقع أن تصبح هذه الحواسيب أكثر تطوراً واستقراراً، ويمكن استخدامها في مجالات عديدة مثل:
صناعة الأدوية
يتطلب تطوير الأدوية واللقاحات فهماً صحيحاً لآلية عمل الجزيئات وتفاعلاتها داخل الجسم. إنه أمر معقد للغاية لأنه يتطلب تحليل كميات كبيرة من البيانات لا تستطيع الحواسيب المتوفرة اليوم أن تحللها.
لهذا السبب، نحن نعتمد من أجل تطوير الأدوية على طريقة التجربة والخطأ، أي ببساطة على الحظ. لكن الحواسيب الكمومية ستوفر إمكانية إجراء محاكاة لكل العمليات الكيميائية والحيوية التي تحدث في أجسامنا، وتمكننا من تجربة عدد كبير من المركبات فهم آلية عملها وتأثيرها قبل تجربتها على أي شخص. بذلك يستطيع العلماء ببساطة أن يستبعدوا المركبات والمواد التي لا تخدمهم، والإبقاء فقط على المواد والجزيئات التي تساعد في العلاج.
بفضل الحواسيب الكمومية سنكون قادرين على تطوير الأدوية بسرعة أكبر، خاصة حين يظهر مرض جديد في العالم لا يوجد له دواء كما حدث مع وباء كوفيد-19. بالإضافة إلى ذلك، ستساعدنا المحاكاة الحاسوبية على إجراء تجارب افتراضية للتحقق من فعالية الأدوية واللقاحات وتأثيراتها المحتملة في المستقبل.
يتوقع العلماء أن تمنح الحواسيب الكمومية الأمل للأشخاص الذين يعانون من أمراض لا علاج لها مثل السرطان والأمراض العصبية والنفسية والوراثية التي لم يفهم العلماء حتى الآن آلية حدوثها.
اقرأ أيضاً: الحواسيب العملاقة والكمومية تساعد العلماء على اكتشاف أدوية جديدة
الخدمات المالية والمصرفية
يمكن استخدام الحواسيب الكمومية من أجل تحليل البيانات والتنبؤ بالعملاء الذين يحتمل أن يتخلفوا عن سداد القروض والعملاء الذين من المرجح أن يلتزموا بتسديد القروض. هذا أمر مهم جداً ويمنح البنوك فرصة لتجنب أخطاء قد تؤدي إلى خسائر في المستقبل.
يستطيع المستثمرون التنبؤ بحركة السوق وتوجهاته في المستقبل واتخاذ قرارات استثمارية بناءً على ذلك. يمكن أيضاً استخدام الحواسيب الكمومية لإجراء محاكاة لسوق الأسهم وسلاسل التوريد والاقتصادات المختلفة في الدول. وبناءً على هذه المحاكاة، تستطيع البنوك الخاصة والعامة وخاصة البنوك المركزية اتخاذ قرارات صائبة.
اقرأ أيضاً: أبوظبي تبدأ بناء أول حاسوب كمومي في الشرق الأوسط
الصناعة
تستخدم الكثير من الشركات آلات مدعومة بالذكاء الاصطناعي في عملية التصنيع. على سبيل المثال، تعتمد الكثير من شركات السيارات على روبوتات لإجراء المهام الروتينية والمملة في خطوط الإنتاج، وهي تؤدي عملها بشكل جيد، لكن ذلك لا يخلو من أخطاء.
يمكن أن تكون بعض الأخطاء في الصناعة قاتلة، خاصةً حين تكون عملية التصنيع متسلسلة وتتم على عدة مراحل، عندها يؤدي أي خطأ في أي مرحلة إلى أخطاء أخرى أكبر في المراحل التالية، وبذلك نحصل على منتج لا يتطابق مع المواصفات المطلوبة.
توفر الحواسيب الكمومية فرصة لتجنب أي أخطاء، فهي تحلل البيانات بسرعة وفي الوقت الفعلي لتتأكد من أن كل الآلات والروبوتات وسلسلة الإنتاج تعمل على أكمل وجه ودون أي خطأ.
الأبحاث العلمية
يجري العلماء في كل مكان أبحاثاً علمية تتعلق بفهمنا للطبيعة والعالم الذي نعيش فيه، لكن على الرغم من ذلك، لا تزال العديد من الأسئلة التي تدور في ذهننا دون إجابة عنها. على سبيل المثال، ما زلنا نجهل كيف تشكل الكون؟ وكيف نشأت مجرتنا؟ وكيف نشأت المجموعة الشمسية؟ وكيف نشأ كوكبنا؟ كيف بدأت الحياة على الأرض؟ ولماذا تطور العقل البشري إلى هذه الدرجة وبقيت الكائنات الحية الأخرى أقل تطوراً؟ كل هذه الأسئلة تتطلب منا تحليل الكثير من المعلومات وإجراء عمليات محاكاة معقدة. هذه العمليات لا يمكن أن تجريها الحواسيب التقليدية أو العملاقة.
من المتوقع أن تكون الحواسيب الكمومية وسيلة لفهم أي ظاهرة علمية، وأن نجد فيها إجابة عن الأسئلة التي حيرتنا منذ آلاف السنين.
هل الاستثمار في الحواسيب الكمومية مجدٍ؟
حالياً يتم إنفاق مليارات الدولارات على تطوير الحواسيب الكمومية، قد تظن أن هذه المبالغ غير مبررة، لكن الإمكانات التي يمكن أن توفرها هذه الحواسيب في حال نجاحها ستغطي بسرعة التكاليف التي تم صرفها.
على سبيل المثال، سيؤدي إنتاج دواء لمرض السرطان أو لأي من الأمراض المزمنة أو الوراثية إلى توفير مليارات الدولارات من نفقات العلاج والرعاية الصحية للمرضى. ويمكن أن تساعد القرارات المالية الصحيحة التي تتخذها البنوك المركزية في تلافي خسائر بالمليارات.
هذا يؤكد أن الاستثمار في الحوسبة الكمومية مبرر ومجدٍ، وسوف يثبت الزمن أنها آلات مفيدة للغاية، وأن العائد يفوق الاستثمار بأضعاف مضاعفة.