مع تزايد قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق أداء يفوق القدرات البشرية في بعض المجالات، اكتشف الباحثون معضلة جديدة؛ ألا وهي اختلاف الطرق التي تتعامل بها معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي مع المشكلات عن الطرق التي يتبعها الأشخاص عادة، وهو ما يجعلها أحياناً غير قابلة للفهم ويصعب عملية التعلم منها.
ومن هنا ظهرت فكرة مايا (Maia)
مايا هي أداة ذكاء اصطناعي طورها خمسة باحثين من جامعتي تورنتو الكندية وكورنيل الأميركية وشركة مايكروسوفت، بهدف سد الفجوة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي عن طريق "نمذجة التصرفات التفصيلية التي تشكل السلوك البشري، بدلاً من مجرد مضاهاة الأداء البشري عموماً". ولما كانت إحدى السمات المميزة للتصرفات البشرية هي ارتكاب الأخطاء، فإن مايا ترتكب أيضاً الأخطاء.. ولكن عن عمد.
ويشير الموقع الرسمي للمشروع إلى أن الفريق البحثي يسعى لتحقيق هذا الهدف (سد الفجوة) من خلال أحد أول المجالات التي انتصر فيها الذكاء الاصطناعي على البشر: الشطرنج. يستخدم الشطرنج كدراسة حالة لكيفية تصميم تفاعلات أفضل بين الإنسان والذكاء الاصطناعي. ويأمل القائمون على المشروع أن تصبح مايا أداة تعليمية مفيدة وممتعة لاكتشاف الأخطاء المتكررة والمتوقعة التي يرتكبها البشر.
ويقول الباحثون إنه على الرغم من تجاوز برامج الشطرنج بصورة قاطعة لكل القدرات البشرية بحلول عام 2005، إلا أن مئات الملايين من مباريات الشطرنج لا تزال تجري عبر الإنترنت بين لاعبين من مختلف المستويات، وتمثل هذه المباريات مصدراً غنياً للبيانات يتم من خلاله تسجيل هذه القرارات وسياقها الدقيق بالتفصيل.
توقع أخطاء البشر
عند مطابقة برامج الشطرنج الحالية بهذه البيانات -بما في ذلك تطبيق ألفزيرو (AlphaZero)- وجد الباحثون أنها لا تتنبأ بحركات الإنسان بشكل جيد. لهذا السبب، تم تدريب مايا على مباريات الشطرنج البشرية، حتى أصبح بإمكانها توقع تحركات الإنسان بدقة أعلى بكثير من البرامج الحالية، كما يمكنها تحقيق أقصى قدر من الدقة عند توقع القرارات التي يتخذها اللاعبون عند أي مستوى مهارة معين يتم ضبطها وفقاً له. ولكن بدلاً من تعلم كيفية تدمير الخصم في اللعبة، تركز مايا على توقع التحركات البشرية، بما في ذلك الأخطاء التي يرتكبها اللاعبون.
وقد تم تطوير مايا باستخدام تعليمات برمجية مقتبسة من ليلا زيرو (Leela Zero)، وهي نسخة مفتوحة المصدر من ألفازيرو الذي طورته شركة ديب مايند.
يعمل ألفازيرو باستخدام شبكة محاكاة عصبونية تحتوي على خلايا عصبونية افتراضية يمكن ضبطها للاستجابة للمدخلات. ولكي يتعلم لعب الشطرنج، يتم تغذية البرنامج بمواقع القطع على لوحة اللعبة والحركات التي يتم توليدها أثناء مباريات التدريب، ويتم ضبط الخلايا العصبونية على تفضيل الحركات الفائزة. ويُعرف هذا النهج باسم التعلم المعزز.
الاختلاف الأساسي في مايا -التي تضم تسعة نماذج أو مستويات لعب مختلفة- هي أنها تتعلم عن طريق تفضيل التنبؤات الدقيقة لتحركات اللاعبين البشر؛ فبينما تسعى البرامج الأخرى للفوز، تركز مايا على العثور على الحركة التي من المرجح أن يلعبها الإنسان.
نمذجة عملية صنع القرار البشري
يقول الباحثون إن رفع قدرة الأداة على توقع ما إذا كان الإنسان سيرتكب خطأ فادحاً في الخطوة التالية، قد يمكننا من تصميم أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على نمذجة عملية صنع القرار البشري بشكل دقيق.
وتشير شركة مايكروسوفت، في تقرير نشرته على موقعها، إلى أن إضفاء الطابع الشخصي على مايا يمنحنا أفضل أداء ممكن؛ ففي حين تتوقع مايا تحركات الإنسان عموماً بشكل صحيح في حوالي 50% من الوقت، يمكن لبعض النماذج ذات الطابع الشخصي أن تتنبأ بحركات الفرد بدقة تصل إلى 75%.
ونقلت مجلة وايرد الأميركية عن الأستاذ في جامعة كورنيل جون كلاينبيرج -الذي قاد عملية تطوير مايا- قولَه إن هذه هي الخطوة الأولى نحو تطوير الذكاء الاصطناعي الذي يفهم قابلية البشر للخطأ على نحو أفضل. وبالتالي، نأمل في أنه قد يكون أفضل في التفاعل مع البشر، من خلال تعليمهم أو مساعدتهم أو حتى التفاوض معهم.
وأضاف أن أحد المجالات التي يمكن فيها استخدام هذا النظام هو مجال الرعاية الصحية، لتدريب الأطباء على قراءة صور الأشعة الطبية أو مساعدتهم على اكتشاف الأخطاء.
كما يمكن لبرامج الذكاء الاصطناعي التي تفهم السلوك البشري أن تساعد الشركات على استباق التكتيكات التي تستخدم في المفاوضات، أو إنتاج برامج وروبوتات يمكنها توقع ما يوشك زملاء العمل البشريون على فعله.