ابتكار نموذج رياضي قادر على محاكاة التأثير السياسي للأخبار المزيفة

3 دقائق

لا يزال صناع القرار وأصحاب التأثير على الرأي العام يحاولون التكيف مع الأخبار المزيفة، وإدراك تأثيراتها على المجتمع وعلى الديمقراطية، وحتى على الحقيقة نفسها.

غير أن الخلافات ما تزال تسود الجدل الدائر حول تعريف الظاهرة نفسها، وبدون تعريف مناسب لها يجد صناع القرار والصحافيون والأشخاص العاديون صعوبة في مواجهتها، وبالتالي فإننا في حاجة ماسة إلى طريقة واضحة ومتماسكة للتفكير في الأخبار المزيفة بما يسمح بتحليلها موضوعياً.

وهنا يأتي دور دورجي برودي (من جامعة سوراي) وديفيد ماير (من جامعة برونيل)، وكلتا الجامعتين في المملكة المتحدة. وقد استخدم هذان الباحثان النظرية الرياضية للاتصالات في بناء نموذج رياضي يحاكي تأثير الأخبار المزيفة على الاستفتاءات والانتخابات، ويشير إلى عدة وسائل للتخفيف من هذا التأثير.

ولنبدأ أولاً ببعض المعلومات الأساسية؛ فالمشكلة الرئيسية في الاتصالات هي كيفية أخذ رسالة ظهرت في نقطة معينة من الكون وإعادة تشكيلها في نقطة أخرى، وتصبح المشكلة أكثر صعوبة بسبب وجود ضجيج يشوِّش هذه الرسالة على الدوام، حيث تُقلَب الأصفار إلى آحاد، ويحصل خلط ما بين الأحرف المتشابهة، أما الإشارات الدخانية فتختفي مع أول هبة رياح.

إذن يجب على متلقي الرسالة أن يعتمد إستراتيجية معينة للتعامل مع الضجيج، وهو أمر ممكن تماماً في الكثير من الحالات، وقد أثبت الرياضي والمهندس كلود شانون أنه يمكن إنتاج الرسالة بشكل شبه مثالي على الدوام، بشرط أن يكون الضجيج تحت عتبة معينة. والفكرة الأساسية هنا هي التعامل مع الأخبار المزيفة رياضياً على أنها شكل خاص من الضجيج.

ويعرِّف برودي وماير الأخبار المزيفة على أنها: معلومات غير متسقة مع الواقع. وبهذا المعنى تعتبر بمنزلة ضجيج يجب إزالته قبل أن يتم تفسير الإشارة بشكل صحيح، غير أن هذا الضجيج يحمل ميزة خاصة، وهي أنه ينحاز باتجاه معين، على عكس الضجيج العشوائي.

ويعني هذا أن تدفق المعلومات يحتوي على عدة مكونات، وهي الرسالة المطابقة للواقع، بالإضافة إلى عدة تفاصيل وإشاعات غير واقعية تمثل الضجيج العشوائي. ولكن توجد أيضاً رسائل مقصودة الانحياز تتوافق مع الأخبار المزيفة، والأمر الهام لتفسير الإشارة هو تجريدها من الضجيج العشوائي ومن الانحياز، وذلك للحصول على الرسالة الأصلية.

وليست هذه بالمهمة السهلة، ولكن الرياضيين -على ما يبدو- يمتلكون أداوت رياضية ممتازة ومناسبة تماماً لهذا الغرض، حيث تم تطوير نظرية الترشيح في الخمسينيات والستينيات، وتعتبر فرعاً من نظرية الاتصالات يهدف إلى فلترة الضجيج في قنوات الاتصال، ومن أهم ما يميز هذه النظرية هو التعامل مع الانحياز والضجيج العشوائي بأساليب مختلفة، بهدف الحصول على الإشارة الأصلية.

وقد استخدم برودي وماير هذه الفكرة لنمذجة طريقة تفسير الناخبين للأخبار، ويقول الباحثان إن الناخبين يُصنفون ضمن ثلاث فئات: الفئة الأولى هم من لا يدركون وجود الأخبار المزيفة ويعاملونها على أنها ضجيج عادي. وبما أنهم غير مدركين لاحتمال تزييف الأخبار، فهم يثقون في آرائهم تماماً، ولذلك يقول الباحثان: "إن هذه الفئة هي الأكثر تعرضاً لتأثير الأخبار المزيفة".

أما الفئة الثانية فتتألف ممن يعرفون بوجود الأخبار المزيفة ولكنهم لا يجيدون فصلها عن الضجيج، وهذه الفئة أقل تعرضاً لتأثير الأخبار المزيفة، ولكنهم أقل ثقة في آرائهم بسبب جو الشك الذي تثيره هذه الأخبار. يقول برودي وماير: "يتميز الناس في هذه الفئة بإدراك أعلى بكثير لمسألة الشك في تقديراتهم".

وأخيراً هناك الناخبون القادرون على كشف الأخبار المزيفة وإزالتها فورياً من حساباتهم، وهم واثقون -من وجهات نظرهم- لأنهم لا يتأثرون بالانحياز الموجود في الأخبار المزيفة. غير أن برودي وماير ينظران إلى هذه المجموعة على أنها حالة مثالية، ويقولان: "إنها مهمة شبه مستحيلة بالنسبة لأي فرد أن يميِّز بشكل مثالي ما بين الأخبار الصحيحة والمزيفة".

وقد أجرى الباحثان عملية محاكاة لاقتراعٍ تم تلقيم الناخبين فيه سلسلةً من الأخبار التي يتخللها بعض الضجيج والأخبار المزيفة، وبعد إجراء المحاكاة لألف مرة لرؤية تأثير الأخبار المزيفة على الاقتراع، توصَّلوا إلى نتائج مثيرة للاهتمام، حيث تبين -وبشكل متوقع نوعاً ما- أن الناخبين في المجموعة الأولى يتأثرون بسهولة بالأخبار المزيفة، وعلى العكس منهم لا يتأثر الناس في المجموعة الثالثة بها.

غير أن المجموعة الثانية هي الأكثر إثارة للاهتمام؛ حيث إن الناخبين فيها يعرفون بوجود الأخبار المزيفة، ولكنهم لا يدرون توقيت إطلاقها، ولهذا يميلون إلى المبالغة في التعويض عن احتمال احتواء المعلومات التي يتلقونها على التزييف، ولكن ما أن يتم إطلاق الأخبار المزيفة، يقوم هؤلاء بإزالة تأثيرها بنجاح كبير.

يقول برودي وماير: "يمكن أن نفسر هذه النتائج على أنها إشارة إلى أن إدراك وجود مجرد احتمال لانتشار الأخبار المزيفة يعد وسيلة قوية لمواجهة تأثيرها"، وهو ما يبعث على بعض الأمل في إمكانية التخفيف من آثارها.

وما زالت هناك بعض الأسئلة المهمة التي لم يُجب عنها هذا العمل، ومن أهمها -بطبيعة الحال- السؤال عن نسبة الناخبين في الفئة الأولى، وإمكانية نقلهم إلى الفئة الثانية، وكيفية تحقيق هذا الأمر إذا كان ممكناً.

ومن المسائل المهمة أيضاً مسألة الواقعية؛ حيث يشكك الكثير من المراقبين في صحة المنطق الذي يفترض وجود واقعية موضوعية فعلياً، خصوصاً فيما يتعلق بالمسائل السياسية واستشراف المستقبل.

وحتى لو افترضنا وجود واقعية موضوعية، فهل تساعدنا عملية الاتصال في فهم طبيعتها الفعلية، أم يقتصر دورها على مساعدتنا في التوافق على هذه الواقعية؟

لم يتمكن برودي وماير حتى الآن من حل هذا اللغز الشائك، على غرار الكثيرين من قبلهم.

المحتوى محمي