قدّم أنيس استقالته في سنة 2014 من وظيفة مدرّس في جامعة السوربون في باريس، وهي فرعٌ لواحدة من أرقى وأقدم الجامعات الفرنسية، ليتفرَّغ لتأسيس شركته الخاصَّة في مجال الروبوتات، وهي خطوة تلقَّى عنها الكثير من الانتقاد من عائلته وأصدقائه لـ"تسرّعها" و"جنونها"، لكنه كان مصمماً على التفرّغ لشغفه في صناعة وتطوير الإنسان الآلي أو الروبوت. وقد ضاعت من أنيس ستة أشهر كاملةٍ في إنهاء الإجراءات الرسمية لتسجيل شركته فحسب، لكن ذلك لم يقف في طريق حلمه. تنتجُ "إينوفا روبوتيكس" (Enova Robotics) أربعة أنواعٍ مختلفة من الروبوتات التي تخدمُ قطاعات الصحة والأمن وغيرها، والتي تبيعُها بانتظامٍ لشركات كبرى في أوروبا، وقد حازت الشركة على أكبر تمويلٍ لشركة ناشئة في تاريخ دولة تونس، وتعتبر واحدةً من الشركات المعدودة الرائدة في صناعة الروبوتات عربياً وإقليمياً، وذلك بفضلِ منتجاتها المتنوّعة المُكرَّسة لخدمة الإنسان وليس "لتحلَّ لمكانه".
بداية طموحة
أنهى أنيس السحباني دراساته العليا بتقديم رسالة في الدكتوراة عن الإنسان الآلي (الروبوت)، وأمضى عشر سنوات كاملة في جامعة السوربون وهو يُدرّس طلابه علم الروبوتات ويجري أبحاثه عنها في أوقات فراغه. إلا أن طموحه الفعليَّ لم يكُن في تعليم الآخرين عن هذه الآلات، بل في اختراع روبوتات قادرةٍ على خدمة الناس وتسهيل حياتهم، ولذلك ترك وظيفته في جامعته المرموقة وانتقلَ إلى مدينة سوسة التونسية لتأسيس شركة إينوفا روبوتيكس برأس مال متواضع، هو 30,000 دولار.
"كانت هذه الشركة حلماً لأنيس"، يقول رضوان بن فرحات، وهو مدير المبيعات في الشركة، في حوار مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية، "وقد رأى أن أفضل بلدٍ لتحقيق هذا الحلم هي تونس، وذلك لأنها تزخرُ بالكفاءات في مجال الهندسة ولأن فيها مناخاً ملائماً للاستثمار وبيئةً خصبةً للشركات الناشئة، وكذلك لرخص الأيدي العاملة مقارنةً بالتكاليف الباهظة للشركات الناشئة في فرنسا".
كان أول جهاز صنعته إينوفا روبوتيكس هو MiniLab: إنسان آلي بسيطٌ هدفه أن يكون أداة تعليمية (للطلّاب الذين يدرسون علم الإنسان الآلي) وأداة للتجارب والأبحاث العلمية، ولذلك فإن برمجته مفتوحة المصدر ومبنية على نظام التشغيل الروبوتي (ROS). كان سعر هذا الروبوت اقتصادياً جداً، فهو لا يتجاوز 4,500$، وبدأ إنتاجه في العام الأول للشركة، وبيعت منه آنذاك 30 قطعةً لجامعات ومختبرات أبحاث في أوروبا؛ وذلك لأن تونس وبلدانها الشقيقة ليس فيها سوق للإنسان الآلي.
آلات للحراسة والعناية بالمرضى
"تصنّعُ شركتنا الآن تجارياً أربعة أنواع من الروبوتات"، يقول فرحات، "وهي تخدمُ وظائف في قطاعات التعليم والصحّة والحراسة. ومبدأنا هو أن هذه الآلات لا تسعى لأن تحلَّ مكان الإنسان وأن تأخذَ وظيفته، بل أن تساعدهُ في أداء عمله بطريقة أفضل".
كان الجهاز الثاني للشركة هو E-Touch، وهو روبوت مختصّ بمساعدة المرضى خصوصاً من كبار السنّ، وقد لاقى رواجاً كبيراً بحيثُ إنه لا يزالُ يباعُ إلى الآن. "يعملُ هذا الروبوت الآن في دور المسنّين"، يقول فرحات، "إذ يساعد المرضى في مهامهم اليومية، ويسمحُ لهم بالتواصل مع عائلاتهم أو أطبائهم متى ما يشاؤون وأينما كانوا. وإذا كان المريض يعاني من مشكلةً فإن الروبوت يتّصل بالاختصاصي ويساعدهُ على إجراء تشخيصٍ أولي للحالة ووصف العلاج".
إلا أن المنتج الأساسي لإينوفا روبوتيكس هو جهاز Pearl Gaud، الذي يعملُ بقطاع الأمن والحراسة، والذي يبلغُ سعره 80,000$. يبدو هذا الروبوت مثل عربة مُدرَّعة أو "دبابة صغيرة"، وقد تعمَّد صانعوه إعطاءهُ هذا المظهر كي لا يبدو مثل الإنسان، وذلك تماشياً مع رسالة الشركة في صناعة آلات "تساعدُ الإنسان بدلاً من أن تحلّ مكانه".
"تحتاج مراقبة المنشآت الحسَّاسة الضخمة إلى فرق أمنية كبيرة ومُجهَّزة بمئات الكمرات المكلفة وأجهزة التواصل"، يقول فرحات، "وهذا أمرٌ مكلف ومُعقَّد ويمكنُ اختراقه بسهولة بتعطيل الكمرات، كما أن عدد الناس الراغبين بالعمل في الوظائف الأمنية قليلٌ لخطورتها ولصعوبتها، إذ تتطلَّبُ الوقوف لساعات طويلة بالخارج في الطقس الحارّ أو تحت الأمطار والثلوج: إلا أن ثمة حاجةً هائلةً للأيدي العاملة في هذا المجال. على سبيل المثال، تحتاج الولايات المتحدة وحدها إلى مليون ساعة عملٍ في كلّ ليلة لحراسة منشآتها".
ويمكن تسهيل هذه الأمور كُلّها بروبوت P-Guard المُجهَّز بعجلاتٍ ليحومَ حول المنشآت الأمنية ويراقب الأخطار أو التهديدات ويكتشف الدخلاء، وإذا شاهدَ الروبوت أي حركة مريبةٍ فهو يرسلُ تحذيراً فورياً إلى مسؤولٍ أمنيّ للتحقّق من الأمر، ممَّا يساعدُ حراس الأمن في التركيز على مهامّهم الرئيسية وتوفير ساعات طويلة من الوقوف بالخارج. وقد أدخلت إينوفا روبوتيكس هذا الروبوت إلى السوق في سنة 2015، ولاقت منذ ذلك الحين نجاحاً كبيراً لسدّها ثغرةً في نقص التجديد والابتكار بالقطاع الأمني.
مستقبل الإنسان الآلي
حصدت إينوفا روبوتيكس في نهاية العام الماضي (2018) تمويلاً قدره 1.6 مليون دولار أمريكي من كابسا كابيتال (Capsa Capital)، التي قدَّرت قيمة الشركة الفعلية بخمسة ملايين دولار ونصف، ويعتبرُ هذا -بحسب مينابايتس- أكبرَ تمويلٍ لشركة ناشئة في تاريخ تونس كلّه.
وينوي السحباني الاستفادة من هذا التمويل الكبير بافتتاح فروعٍ جديدةٍ للشركة خارج تونس، وقد يكون منها فرع في فرنسا يتخصَّصُ بالبحث والتطوير والمبيعات في السوق الأوروبي، كما أنّه ينوي التوسّع في المنطقة العربية وخصوصاً في دول الخليج، التي ترى الشركة أنها سوق هامّة للروبوتات. وسوف يزيدُ هذا من نشاط إينوفا روبوتيكس عربياً، فهي تبيعُ حتى الآن 98% من منتجاتها في أوروبا والولايات المتحدة و2% منها فقط في بلدان عربية. فضلاً عن ذلك، أصبح للشركة فريق معتبرٌ من عشرين مهندساً ومبتكراً يعملون على تطوير منتجاتها القادمة في تونس وفرنسا.
"قبل عشرين عاماً"، يقول فرحات، "كان بعض المتحمّسين للتقنية يتنبّؤون بأن الإنترنت (الذي كان في بدايته آنذاك) سيصبحُ جزءاً أساسياً من حياة الناس، وتعيشُ الروبوتات الآن في نفس المرحلة التي عاشها الإنترنت آنذاك، فخلال عشرين عاماً سيكونُ لها دور جوهري في حياتنا جميعاً. والتحدي هنا ليس في تطوير هذه الآلات، بل في أن يتقبَّل الناس وجودها ويعتادوه، وإذا تمكنَّا من صناعة روبوتات بأسعار اقتصادية وقادرة على خدمة الناس فإنها ستُسهّل عليهم حياتهم بكافة جوانبها وستجلبُ لهم الراحة والسعادة".